أقلام فكرية

أسعد عبد الرزاق: مستقبل الفكر الديني في ظل المتغيرات المعاصرة

محاولة لرؤية استشرافية

يمثل الدين أحد أهم المؤثرات في تاريخ الانسان، إلى جانب السياسة والاقتصاد، وعلى صعيد رصد التحولات التي مر فيها الدين بنحو عام فإن التفاعل بين الإنسان والدين يتفاوت بحسب المراحل التاريخية المفصلية التي شهدها الفكر الانساني منذ القدم، وفي الوقت الراهن ومع التغيرات المسرعة بات من الصعب تحديد المرحلة وتشخيص معطيات التطور الديني، لأن الأحداث متسارعة بالنحو الذي يجعل إمكانية الرصد متعسرة بالمقارنة مع ما شهده الفكر البشري من تحديد وتأطير لمراحل دينية سابقة.

إن الحديث عن المستقبل يتطلب حضور معطيات نوعية كما يتطلب قراءة متأنية تستند إلى منهج موضوعي دقيق، والمحاولة تؤدي دورا هاما في رسم ملامح تلك القراءة، كما يتطلب مخيلة واسعة تستوعب مساحات واسعة من (المتوقع).

إن أهم متغير فيما أظن هو أن المفاهيم على وفق المراحل السابقة لها مصاديقها وتمثلاتها المحددة والان أصبحت المفاهيم عصية على التحديد بأمثلة محددة من أجل أن تخلق وعيا ثابتا، إذ أصبح من العسير أن نكتفي بأمثلة محددة لبيان مفهوم ما، فربما تغدو المعاني متوالدة بنحو أوسع من حدود الوعي الراهن أو الوعي الذي يرتهن بمرحلة زمنية محددة، مما يؤول إلى تجاوز المعنى لأطر المناهج البحثية التي تحاول السيطرة على استقرار المفهوم بمساحة محددة من المصاديق.

إن المتغيرات القادمة مصحوبة بمتغيرات ظرفية على مستوى الزمان والمكان، والمستقبل القريب ينبئ إلى عدم شعور الانسان بالوقت، وربما تحل بالانسان أزمة الوقت حتى يميل الناس الى اختصار طقوسهم الدينية فضلا عن أنشطتهم الأخرى، امام ازمة الوقت التي تعصف بهم، لأن من المحتمل أن يكون وقت الانسان ذو قيمة بالغة، قد تغدو قابلة لاستيفاء ما يقابلها من ثمن، وهذا أحد التحولات التي سوف تؤثر بنحو فاعل في علاقات الانسان بما حوله.

ومع تطور الذكاء الصناعي سوف تتم عمليات تقارب بين نظريات العلم والدين بالنحو الذي يحدث متغيرا في الوعي العام، فعملية تخيل مستقبل الأديان يمكن أن تتضمن تطورات في التفاعل بين التكنولوجيا والعقائد، وقد تحقق المجتمعات توازنًا جديدًا بين التقاليد الدينية والتقدم التكنولوجي، وقد ينضج الحوار بين الأديان لتحقيق فهم أفضل من أجل تعايش سلمي، وحتى مستقبل القوانين قد يشهد تطورات في مجالات مثل التشريعات التكنولوجية وحقوق الإنسان،  ربما تظهر قوانين جديدة تتناسب مع تحديات الابتكار التكنولوجي، وقد يزداد التركيز على حقوق الخصوصية والأمان الرقمي، والتشدد في مجالات مثل حقوق الملكية الفكرية والأمان السيبراني قد يكون أيضًا جزءًا من هذا التطور.

كما أن مستقبل الكتابة والثقافة قد يشهد تحولات كبيرة مع تقدم التكنولوجيا،  قد يزداد التركيز على وسائل النشر الرقمية والتفاعل الاجتماعي، مع تأثير كبير على طرق نقل المعرفة، والإبداع والابتكار في الكتابة قد يبلغ مستويات نوعية، والتنوع الثقافي قد يتأثر بشكل أكبر بالتبادل العالمي للأفكار.

لكن ذلك لا يتنافى مع إمكانية تحول الخطاب الديني من كونه خطابا مؤسسا لنماذج وأنماط من الثقافة والسلوك الاجتماعي إلى خطاب مرجعي يمثل أحد مرجعيات السلوك الثقافي، فليس بوسع الانسان في المستقبل القريب أن يستحضر النماذج الفلسفية أو النظمية لتشكيل إطاره الثقافي العام بقدر ما يضطر إلى انتقاء نماذج متعددة من مرجعيات مختلفة بين دينية وفلسفية وقانونية متعددة

تمت صياغة الخطاب الديني طيلة العقود الماضية على أنه خطاب ينظم علاقة ثلاثية بين الانسان والطبيعة والخالق واليوم تعقّد شكل تلك العلاقة بحيث اصبح حضور الاله بنحو عائم وأصبح الانسان منفعل ومتأثر بالطبيعة التي تطورت هي الأخرى نتيجة الثورة الصناعية الرابعة التي نعيش عناصرها اليوم في ظل تقدم الذكاء الاصطناعي.

ويمكن عد العصور السابقة عصور تحليل للبناءات الثقافية والمعرفية التي تنتجها الأديان والفلسفات والمنظومات المعرفية، وربما تشهد المرحلة المقبلة فعلا تركيبيا للمعرفة، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي طبعا، فالتركيب بين منظومات متباينة ليس سهلا، عندما نقصد منظومات الدين والفلسفة وحتى العلوم الميتة أو المسكوت عنها من قبيل علوم الفلك والطاقة وحتى العلوم الطبيعية، فالعقل الانساني مهما بلغ ذروته وفق الإمكانات التقليدية فلن يستطيع انتاج معرفة تركيبية تستقطب علوم ومجالات مختلفة لتنتهي إلى نتائج ونظريات موحدة، فالاسئلة الوجودية باتت تشهد تحولا من السؤال عن (من أين) إلى السؤال عن (إلى أين) والبحث في سؤال النهاية أصبح لا يقتصر على الفلسفة بل سوف يصار إلى الممازجة ما بين معطيات العلم الحديث ومعطيات الحفر المعرفي في أدبيات الأديان السماوية، لتتم فيما بعد محاولة تفسير نشأة  الكون ونهايته على حد سواء.

وعلى صعيد الاسلام يمكن أن يتحول الاسلام من (اسلام الشريعة) إلى (اسلام الرؤية الكونية) مما يفضي إلى أفول أيديوجيات عدة، ولا نعني هنا الانسلاخ التام في منظومة الدين بقدر ما نعني تغير الوجهة في التفكير وانتاج المعرفة الدينية.

وإسلام الرؤية الكونية يمثل منظومة متكاملة لتفسير وجود الانسان على اساس كونه مخلوقا في الكون الواسع، وعليه مسؤولية كبيرة تتجاوز الأطر المحدودة التي أنتجتها المعرفة الدينية في مراحلها السابقة، ويتم استجلاء معارف القرآن الكريم بتسخير وسائل التكنولجيا التي تتيح إمكانية قراءة النص الديني قراءة تختلف عن السابقة من خلال توفر أدوات جديدة لم تكن متاحة في السابق، كل ذلك من شأنه أن يغني الباحثين في شؤون الدين من حيث وفرة الأدوات وفتح الآفاق، واتساع مساحة الرؤية بفضل التطورات المتواصلة.

فتتطور الرؤية حول تسخير الطبيعة وتمكين الانسان، وما يتعلق بفلسفة العمران بمعناه الشامل، الذي يغطي عناصر الطبيعة، ويعيد النظر في كثير من سياسات النظام العالمي القائم على ما آلت إليه الحداثة والعلمنة، ولا أغالي إن ألمحت إلى أفول عصر الحداثة والعلمنة والانتقال الى مرحلة مختلفة تتضح ملامحها من خلال تطورات عدة على صعيد السياسة العالمية والفكر الديني والمعارف الثقافية العامة.

تتصاعد حدة التوتر بسبب التقاء "المحلي" مع "العالمي"، وتتضح ضرورة تحديد ما يجب الاحتفاظ به المسلم من ثقافة متوارثة، وربما سيشعر المسلمون أنهم مجبرون على إعادة اكتشاف البعد الكوني الذي يتضمنه الإسلام، وعلى تجاوز عقدة القومية والتعصب العقائدي والمذهبي، وهذه الحدة والتوتر بسبب العولمة، وفي المستقبل.

كما أن مستقبل الكتابة والثقافة قد يشهد تحولات كبيرة مع تقدم التكنولوجيا، قد يزداد التركيز على وسائل النشر الرقمية والتفاعل الاجتماعي، مع تأثير كبير على طرق نقل المعرفة، والإبداع والابتكار في الكتابة قد يبلغ مستويات نوعية، والتنوع الثقافي قد يتأثر بشكل أكبر بالتبادل العالمي للأفكار.

لكن ذلك لا يتنافى مع إمكانية تحول الخطاب الديني من كونه خطابا مؤسسا لنماذج وأنماط من الثقافة والسلوك الاجتماعي إلى خطاب مرجعي يمثل أحد مرجعيات السلوك الثقافي، فليس بوسع الانسان في المستقبل القريب أن يستحضر النماذج الفلسفية أو النظمية لتشكيل إطاره الثقافي العام بقدر ما يضطر إلى انتقاء نماذج متعددة من مرجعيات مختلفة بين دينية وفلسفية وقانونية متعددة

تمت صياغة الخطاب الديني طيلة العقود الماضية على أنه خطاب ينظم علاقة ثلاثية بين الانسان والطبيعة والخالق واليوم تعقّد شكل تلك العلاقة بحيث اصبح حضور الاله بنحو عائم وأصبح الانسان منفعل ومتأثر بالطبيعة التي تطورت هي الأخرى نتيجة الثورة الصناعية الرابعة التي نعيش عناصرها اليوم في ظل تقدم الذكاء الاصطناعي.

ويمكن عد العصور السابقة عصور تحليل للبناءات الثقافية والمعرفية التي تنتجها الأديان والفلسفات والمنظومات المعرفية، وربما تشهد المرحلة المقبلة فعلا تركيبيا للمعرفة، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي طبعا، فالتركيب بين منظومات متباينة ليس سهلا، عندما نقصد منظومات الدين والفلسفة وحتى العلوم الميتة أو المسكوت عنها من قبيل علوم الفلك والطاقة وحتى العلوم الطبيعية، فالعقل الانساني مهما بلغ ذروته وفق الإمكانات التقليدية فلن يستطيع انتاج معرفة تركيبية تستقطب علوم ومجالات مختلفة لتنتهي إلى نتائج ونظريات موحدة، فالاسئلة الوجودية باتت تشهد تحولا من السؤال عن (من أين) إلى السؤال عن (إلى أين) والبحث في سؤال النهاية أصبح لا يقتصر على الفلسفة بل سوف يصار إلى الممازجة ما بين معطيات العلم الحديث ومعطيات الحفر المعرفي في أدبيات الأديان السماوية، لتتم فيما بعد محاولة تفسير نشأة  الكون ونهايته على حد سواء.

من الراجح ان الفكر الانساني سيغدو باتجاه الاختزال وترميز المفاهيم الكبرى، ولن يطيل الوقوف امام السرديات التي تستغرق الوقت، وهو ما يعزز اختصار الطروحات بنحو من الاقتصار على الرمز الذي يشير الى تطور في المنحى الدلالي السيميائي، وهو من شأنه أن يجعل من الفكر الديني سائغا لدى كل مثقف، ويذوب التخصص نسبيا بحيث يكاد ينصهر امام الوعي الراهن والمرحلي، فضلا عن تداخل العلوم فيما بينها لتركز على انتاج النماذج المعرفية الجاهزة.

ومن الممكن ان يشكل تاريخ الافكار نقطة مرجعية بالاستعانة بتكنولوجيا الذكاء الصناعي، وهو ما يوفر الوقت والجهد في البحث عن العلاقات بين الافكار والمجالات الثقافية.

وفي هذه المرحلة بالذات من المتوقع ان تأخذ الاصطلاحات مكانها الصحيح بعد توخي الدقة في مجالات الدلالة والاستعمال.

وفي ظل كل التطورات التي سوف تحصل سوف يكون من الضروري الوقوف على مدى معرفية بعض المفاهيم، عبر الحفر الدقيق والاستعانة بأدوات التكنولوجيا على التحقيق والتنقيب في الاساس المعرفي لأي مفهوم يتم طرحه، لتنتهي ولو نسبيا فوضى المصطلح والاستعمال.

وعلى صعيد الاسلام – وفي ضوء مبدأ الاختزال والاختصار- يمكن أن يتحول الاسلام من (اسلام الشريعة المنبسطة في سرديات مطولة) إلى (اسلام الرؤية الكونية المختصر في كليات وقاعد عامة) مما يفضي إلى أفول أيديوجيات عدة، ولا نعني هنا الانسلاخ التام في منظومة الدين بقدر ما نعني تغير الوجهة في التفكير وانتاج المعرفة الدينية.

وإسلام الرؤية الكونية يمثل منظومة متكاملة لتفسير وجود الانسان على اساس كونه مخلوقا في الكون الواسع، وعليه مسؤولية كبيرة تتجاوز الأطر المحدودة التي أنتجتها المعرفة الدينية في مراحلها السابقة، ويتم استجلاء معارف القرآن الكريم بتسخير وسائل التكنولجيا التي تتيح إمكانية قراءة النص الديني قراءة تختلف عن السابقة من خلال توفر أدوات جديدة لم تكن متاحة في السابق، كل ذلك من شأنه أن يغني الباحثين في شؤون الدين من حيث وفرة الأدوات وفتح الآفاق، واتساع مساحة الرؤية بفضل التطورات المتواصلة.

فتتطور الرؤية حول تسخير الطبيعة وتمكين الانسان، وما يتعلق بفلسفة العمران بمعناه الشامل، الذي يغطي عناصر الطبيعة، ويعيد النظر في كثير من سياسات النظام العالمي القائم على ما آلت إليه الحداثة والعلمنة، ولا أغالي إن ألمحت إلى أفول عصر الحداثة والعلمنة والانتقال الى مرحلة مختلفة تتضح ملامحها من خلال تطورات عدة على صعيد السياسة العالمية والفكر الديني والمعارف الثقافية العامة.

من الممكن أن تتم العودة إلى الجوهر الديني الاسلامي المتمثلة بروحية الإيمان، ومهما تراكمت عقد الإحباط عبر التاريخ الذي مر، فإن الإيمان يمثل العنصر الحيوي الوحيد الذي يمكن أن تتجلى فيه الهوية الدينية للإنسان، والايمان هو الوحيد الذي يعطي معنى للإنسان، سواء كان معنى حضاريا أم ثقافيا.

وفي ختام هذه المحاولة الاستشرافية يمكن أن تتجدد الرؤى حول الاجتهاد والاستنباط بنحو جديد من طرق التعامل مع الافكار، وهو ما يستدعي حلقات بحثية لاحقة تتبع ما تم عرضه.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

 

في المثقف اليوم