قراءات نقدية

علي ماجد شبو: الإمتداد المسرحي في التهجين الثقافي

عند توقّد شرارة ما، جراء تماس ثقافي بين كيانين ثقافيين مستقلين ومتباعدين، سينتج عن ذلك كيان ثقافي جديد، هو ما يسُسمى اليوم "بالثقافة الهجينة" Cultural Hybridity، وهي حالة تزيد ثراء الثقافات، وتضاعف أهميتها وتأثيرها، عند إتصالها وإرتباطها بثقافات أخرى تؤثر وتتأثر بها. أي أن الثقافة المتأثرة بغيرها والتي تحمل الصفات الهجينية، لم تعد تحمل هوية عناصرها الأساسية فقط، على الرغم من مظاهر الخصوصية الذي تحمله، وذلك لإدماجها عناصر من ثقافة أو ثقافات أخرى، بفعل ما يمر به العالم من إنكماش في المسافات المكانية والزمانية عبر مختلف وسائل الانترنيت والاتصال وباقي وسائط العولمة. "فالتهجين الثقافي لا يعني محو أو تمييع الهوية الثقافية للفرد، بل يعني احتضان تنوع الثقافات والاحتفاء به." – كما تؤكد الباحثة والاكاديمية الامريكية غلوريا أنزالدوا. Gloria Anzaldúa  أي بعبارة أخرى، ان هذه الثقافة، التي تُدمج وتُصهر عناصر من ثقافة أخرى في صلب محتواها، لا يجعلها تُلغي أو تُذوّب هويتها الأساسية، بل تزيد تأثيرها في المحيط المُنتج والمستهلك لها على السواء. فالتهجين الثقافي مفهوم يستبطن إدماج عناصر وأفكار وممارسات ثقافية متنوعة بثقافة أخرى، فضلاً عن ان هذه الثقافة المُدمجة تُنتج أشكالاً تعبيرية جديدة، وإبداعات تجريبية خلاّقة، وثقافة جديدة تنبثق عنها هويات ثقافية بالوان جديدة.

وقد كان للمسرح دورٌ أساسيّ في مزج الثقافات، وفي إبتداع ملامح ثقافية جديدة، ونقل تجارب هذا الانصهار الثقافي عبر العروض الدرامية التي تتجاوز الموانع الجغرافية والثقافية والحضارية. حيث ان المسرح المعاصر يُمارس قوة تغييرية فعّالة في تعزيز التفاهم وإحترام ثقافات الآخر عبر توطيد التعاون والتبادل الثقافي. فمن ضمن الإمكانات الإبداعية للمسرح، تذويب الحواجز الثقافية التقليدية، ونبذ الاشكال النمطية، وتسهيل ازدهار الفكر والابداع التجريبي، والتحريض على التطوير والنماء الاجتماعي، وذلك بدعم ومساندة المجتمعات المهمشة، من خلال إستكشاف مساحات جديدة ومختلفة للحوار والتفاهم. فضلاً عن تقوية مشاعر التضامن والتعاطف الإنساني، وتعزيز الوعي بمعايير المساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وعلى هذا الأساس فإن التهجين الثقافي يُمثل بيئة فريدة من الابتهاج والاحتفال المشترك بحالات ومفرزات التنوع والاختلاف.  ينتج عن هذا الابتهاج تنشيط وتعميق للقدرات الإبداعية، وخاصة التجريبية، كما يفضي الى دعم وتعزيز جهود التجانس والاندماج للمجاميع الاجتماعية، الأقل حظاً، ضمن نسيج المجتمع الواسع، وفي إطار ديناميكية عالمنا الذي لا يكف عن تحديث ذاته، فهو عالم شديد التغيّر، ومتواصل بشكل متزايد. وللمسرح تحدياته، وامتداداته في هذه الثقافة الهجينة، عبر التبادل المشترك للرؤى الفنية والأفكار، والقيم، والمعتقدات المختلفة، العابرة للثقافة الوطنية وجغرافية الحدود والقيود.

الثقافة الهجينة والقوة التغييرية للمسرح

من الواضح ان الثقافة الهجينة هي المولود المتميز لتيار العولمة. فالعولمة هي حالة من زيادة الترابط والاعتماد المتبادل بين مختلف الثقافات والمجتمعات التي أدّت الى تبلور حالة مبتكرة من التبادل الثقافي، عبر تشارك وتعلم الأفكار والقيم والممارسات. فالتهجين الثقافي، كما يصفه الاكاديمي وأحد أبرز المنظرين لهذا المفهوم، هومي ك. بهآبها، Homi K. Bhabha  "ليس كياناً منفرداً، بل هو عملية تفاوض وإعادة التعريف بشكل مستمر". وقد إنعكس ذلك بشكل مباشر وواضح على المسرح المعاصر بإعتباره حالة فريدة في ديناميكية التغيير والتطوير المستمر، فالمسرح لايعرف التوقف عند حدّ أو الاستكانة بثبات، لأنه في حركة تجريبية، دينامية، مستمرة ومتطورة من افراز الأفكار الجديدة، ومن الابداع في الرؤى المختلفة، ومن إبتكار وسائل جديدة للإدهاش، في إطار المشهدية الجمالية الإبداعية للمسرح وتطوير وتجديد عناصر ومرتكزات الشكل النهائي ومخرجات محتوى المضمون في العرض المسرحي. وكذلك فإن المسرح يعكس حالة العالم الراهنة، هذا العالم المتنوع والمترابط الذي نعيش فيه اليوم. من الثابت أن العولمة والتبادل الثقافي قد ساهما في تشكيل الملامح الجديدة في المسرح المعاصر، من خلال إثرائه بالتنوع والشمولية، وتعزيز التعاون بين الثقافات، وتعزيز العروض متعددة اللغات والعابرة لأسوار المجتمعات الثقافية.

غير ان التهجين الثقافي يستدعي التوقف، ببصيرة ثاقبة، عند عدد من التحديات الهامة والتي يستوجب الالتفات اليها بكثير من الحذر والانتقائية.  فالتبادل الثقافي في المسرح، مثلاً، يجب أن يتم التعامل معه بحساسية شديدة وإنتقائية. حيث إن الانخراط في مسارات التبادل والتعاون الثقافي يجب أن تتم على مستوى واحد من الاحترام والتقدير، خاصة في تبادل الأفكار والحوارات ووجهات النظر. كما يؤكد ذلك المنظر الادبي والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد بأن "لكل ثقافة إنسانية الحق في العيش في سلام والتطور وفقا لقيمها واحتياجاتها الخاصة، ولكن الشيء الأكثر أهمية هو توفير وسيلة يمكن من خلالها لجميع هذه الثقافات أن تتواصل مع بعضها البعض وتتعرف على بعضها البعض". حيث ان هيمنة ثقافة على أخرى ستؤدي بالضرورة الى الاستيلاء الثقافي، مما يُقوّض جوهر ما يرمي اليه التبادل الثقافي، وذلك بإدامة الصور النمطية البعيدة عن الابداع. أدناه، سأستعرض بعض أهم هذه التحديات.

أولاً. الاستيلاء الثقافي: يمكن أن يفرز التهجين الثقافي، أحياناً، عناصر قد تؤدي إلى الاستيلاء الثقافي، حيث يتم تبنّي عناصر من ثقافة هشة، أو غير مهيمنة، من قبل ثقافة واسعة الهيمنة دون إستيعاب مناسب لمفاهيم ومدلولات تلك العناصر، مما يؤدي الى تحريف هذه العناصر ضمن سلطة الثقافة المهيمنة وتحويلها الى سلعة للمتاجرة، أي إنهاء معناها ومدلولاتها الاصيلة. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي تهجين المسرح أيضًا إلى تسليع الثقافة. ففي عالم يتسم بالعولمة بشكل متزايد، غالبًا ما يتم استهلاك المنتجات الثقافية وتسويقها بسبب جاذبيتها واهتمام الناس بها. وهكذا بدأت بعض العروض المسرحية تتضمن عناصر من ثقافات مختلفة، ربما، ضمن منظور أنها ستكون أكثر قابلية للتسويق والنجاح التجاري.  وهذا يمكن أن يؤدي إلى استغلال التقاليد الثقافية لتحقيق الربح، دون إيلاء الاحترام الواجب للأهمية الثقافية والمعنى الكامن وراءها. بمعنى آخر، إنه يختزل الثقافة إلى سلعة، ويقلل من قيمتها الجوهرية، ويقوم بتسطيحها وتحويلها إلى مشهدية مُمسرحة لأغراض الترفيه.

ثانياً. غياب العدالة الاجتماعية: عند إستيلاء واستغلال الثقافة المهيمنة على عناصر من ثقافة هشة او مهمشة فإن ذلك يُضاعف من تهميش هذه المجتمعات، واضعافها ويخلّ بالتوازن القائم بين شرائح المجتمع، أي إدامة الهيمنة الثقافية والمساهمة بتغييب مبدأي المساواة والعدالة الاجتماعية، وبعبارة أخرى، المساهمة بتعميق الفوارق الطبقية عند الشرائح المهمشة من المجتمع.

ثالثاً. فقدان الأصالة الثقافية: إن التبادل الثقافي، او التمازج الثقافي قد يُعّرض الاصالة الثقافية والتقاليد الجمعية والفردية الى التشوية والتحريف، لذلك يُمكن ان يؤدي التهجين الثقافي الى تشويه الممارسات الثقافية الاصيلة وتمييعها لكي تنصهر ضمن عناصر فضفاضة تُفقدها معانيها ومدلولاتها الاصيلة. فالتهجين الثقافي يفترض التكيّف بهدف إستيلاد سياق ثقافي جديد، وقد يقود ذلك الى تمييع مميزات التنوع الثقافي وبالتالي ضياع اصالة التراث المجتمعي الثقافي.

رابعاً. تشويه الهوية الثقافية الاصيلة: ان التأثيرات العميقة التي تتركها الثقافات المختلفة على ثقافة الافراد، وخاصة أولائك الذين ينتمون الى شرائح ثقافية من أقليات مجتمعية، قد تُعّرض الافراد المعنيين الى الشعور بالانفصال عن المجتمع، أو الى الاغتراب الثقافي والانسلاخ من كلا الثقافتين، أي الثقافة الاصيلة وتلك المدمجة عبر التهجين. فالتهجين الثقافي "يتحدى فكرة الهويات الثابتة والنقية، وبدلاً من ذلك يعترف بالطبيعة السائلة والديناميكية للتفاعلات الثقافية."، يحاجج بذلك الاكاديمي وعالم الاجتماع البريطاني بول جيلروي،  Paul Gilroy، لذلك فإن الانفتاح على ثقافة الآخر يجب ان يتوازن دائماً مع مشاعر الانتماء والمواطنة. فالحاجة الى الثقافة الهجينة تزداد،  كحاجة الى الانفتاح والتنوع، ولكني أعتقد بانها أيضا حاجة لتأكيد خصوصية الهوية الثقافية التي تسعى الى مثل هذا الانفتاح والتنوع. فخصوصية الهوية الثقافية هي الاطار العام الذي يحتوي على الهوية الوطنية ويصونها.

تأثير المسرح في الثقافة الهجينة

بتزايد إستخدامات الانترنيت وما تتيحه من تنوع واسع في المعلومات والاتصالات بين مختلف الاجناس والثقافات أصبح من النادر، بل والشاذ، أن تجد ثقافة وطنية مجردة من أي تأثير ثقافي خارجي. أي أن الثقافة الهجينة هي المولود الواثق والمتميز للعولمة، في عالم يرفض الإستكانة لخصائص تجعله أسيراً وراء أسوار ونوافذ الحضارة العالمية الراهنة. فأهمية التهجين الثقافي هي إستكشاف ومزج عناصر وممارسات من مختلف الهويات الثقافية، بهدف تعزيز التنوع والابداع والابتكار والتجريب، وقد انعكس ذلك في سياقات المسرح المختلفة. أما التبادل الثقافي فهو أحد وسائل المسرح التي تتأكد عبر التعاون الدولي والإنتاج المشترك، مما يُفضي، غالباً، الى عروض مسرحية آسرة ومثيرة للتفكير والتأمل، علاوة على أنها تُوفر منصة للمسرحيين للتعلم من بعضهم البعض وتبادل الأفكار، بل وتجاوز آفاق إمكانياتهم الفنية.

ولا شك أن المهرجانات المسرحية تشكّل اهم وسائل التبادل المسرحي والثقافي، فهي معنية بفتح ثغرات في الحدود التقليدية للثقافة الوطنية ولفضاءات المسرح الإبداعية من أجل تمرير عناصر حداثية من ثقافة او ثقافات أخرى. فالمهرجانات تشكّل منصة تجمع بين المسرحيين والجماهير من مختلف البلدان والثقافات لعرض الأساليب والتقاليد المسرحية المتنوعة، والاندماج بالحوارات والمناقشات التي تخص الموضاعات الإنسانية ذات الصفات العالمية، وترتبط بهموم الانسان بعيدا عن الحدود الجغرافية والاسوار المحلّية للثقافة. هذه الحوارات تعزز خصوصية الهوية الوطنية، وتوسّع مدارك المواطنة العالمية. كما توفر المهرجانات المسرحية الفرصة للفنانين والمتفرجين باكتشاف التجارب الجديدة، والابتكارات، والابداعات في الأشكال المسرحية المتنوعة وتثمينها والتمتع بها. أدناه بعض أهم انعكاسات الثقافة الهجينة على السياقات المسرحية، وتأثير المسرح في هذه الثقافة:

التنوع والشمولية: إن للتنوع والشمولية تأثير عميق على مسارات المسرح الديناميكية والتغييرية، من خلال إستقطاب المسرح لمجموعة واسعة من الثقافات والخلفيات الفكرية، ووجهات النظر، والابداعات، والابتكارات. ولم يؤد هذا التأثر إلى إثراء التجربة المسرحية فحسب، بل عزز أيضًا إستيلاد نماذج من أشكال فنية أكثر جاذبية، وأوسع شمولاً وتمثيلاً. علاوة على ذلك، فقد أدى التنوع والشمول إلى تحفيز الإبداع والابتكار والتجريب في حرفية المسرح. فمن خلال احتضان مواهب واصوات جديدة، يتم تشجيع المسرحيين على استكشاف أنماط وتقنيات وأساليب جديدة لتشكيل السرديات الدرامية. وقد أدى ذلك إلى تطوير إنتاجات فريدة ورائدة تدفع حدود المسرح التقليدي الى ماوراء ماهو متعارف عليه.

التبادل والتعاون الثقافي: لا شك أن للتبادل والتعاون الثقافي في المسرح دورٌ أساسيّ في صياغة إنتاجات مبتكرة، تمزج بين التقاليد الفنية المتنوعة والتقنيات السردية الدرامية الابداعية. حيث انها تجمع فنانين من خلفيات ثقافية مختلفة، والمشاركة بآرائهم ووجهات نظرهم وخبراتهم وممارساتهم الفنية الفريدة. " يمكن أن يكون التهجين الثقافي مصدرًا للتمكين، حيث يتنقل الأفراد والمجتمعات ويتفاوضون بشأن هويات ثقافية متعددة."، (غلوريا أنزالدوا)، والنتيجة هي نسيج غني من الإبداع الذي يتخطى حدود المسرح التقليدي، ويخلق أشكالاً جديدة ومثيرة لسرديات وعروض مسرحية متميزة.

تعدد وتنوع اللغات: في عالم اليوم، حيث أصبح فيه التواصل والتفاعل بين الثقافات واللغات المختلفة أمرًا عادياً بشكل متزايد، تقدم لنا العروض المسرحية متعددة اللغات منصة لسماع الأصوات المتنوعة من خلال دمج لغات مختلفة في الأداء المسرحي، مما يُعرّض الجمهور لتعابير لغوية مختلفة وفروق ثقافية دقيقة. يعزز، هذا التعرض، الإحساس بفهم وتقدير كبيرين للنسيج الغني من اللغات والثقافات الموجودة في مجتمعنا الواسع والمعولم. فقد لعبت العروض متعددة اللغات دورًا مهمًا في تحدي إستكانة الجماهير وحثّهم على القبول والاشتراك في الانفتاح والتنوع اللغوي لمجتمعات حضارة اليوم. تتضمن هذه العروض استخدام وسائل مسرحية وفنية مختلفة، ولغات متعددة، مما يسمح بتجربة أكثر ثراءً وشمولاً وتمثيلاً للمشاهدين.

تطبيقات مسرحية في الثقافة الهجينة

ومن الأمثلة العالمية الموثقة حول تأثير المسرح في الثقافة الهجينة نذكرتجربة، تعتبر واحدة من أبرز وأهم هذه التجارب وأعني بها مسرحية "المهابهاراتا" وهي من إخراج بيتر بروك. نص المسرحية مقتبس من الملحمة الهندية القديمة والتي تحمل نفس الاسم، وتعتبر واحدة من أطول الأعمال الأدبية وأكثرها تأثيرًا في العالم. يضم الإنتاج ممثلين من بلدان وثقافات مختلفة، مثل الهند واليابان وفرنسا وإنجلترا وعدد من بلدان أفريقيا، ويستخدم مزيجًا من اللغات والموسيقى والرقص وعروض الدمى لسرد قصة حرب وآثارها الأخلاقية والروحية. تم عرض المسرحية للمرة الاولى في عام 1985 في باريس، ومنذ ذلك الحين تم عرضها في العديد من الأماكن والمهرجانات حول العالم، بالإضافة إلى تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، وفيلم سينمائي. يُنظر إلى تجربة المهابهاراتا المسرحية، وعلى نطاق واسع، على أنها تحفة فنية لمسرح متعدد الثقافات، لأنها توضح كيف يمكن للتقاليد ووجهات النظر الفنية المختلفة أن تثري وتضيء الدراما الإنسانية على الصعيد العالمي.

وللتذكير، فإن المخرج بيتر بروك (بريطاني يعمل في المسرح الفرنسي) صاحب رؤية شمولية، سعى إلى إنشاء مسرح عالمي يتجاوز الحدود الثقافية، ويجذب جماهير واسعة ومتنوعة. لقد تعامل مع المسرح متعدد الثقافات من خلال العمل على استكشاف التقاليد المسرحية المختلفة من جميع أنحاء العالم، مثل الآسيوية والأفريقية والأوروبية، ودمجها في أعماله. لذلك فقد عمل بروك وتعاون مع ممثلين وموسيقيين وفنانين من بلدان وخلفيات مختلفة، وشجعهم على نقل وتقديم إبداعاتهم، وتعبيراتهم، ومايتمتعون به من رؤى فنية وثقافية إلى المسرح. يؤمن بيتر بروك أن المسرح العابر للثقافات يمكن أن يثري وينير الحالة الإنسانية، فضلا عن تحدي وعي، ووجدان المشاهدين والقيم الثابتة عندهم، والحث على إشراكهم في التجربة المسرحية.

المثال الثاني، والأقرب زمنياً، هو مسرحية "جزيرة الذهب” للمخرجة أريان منوشكين، والتي كانت شغوفة جدا باليابان والثقافة الآسيوية، حيث سافرت الشابة منوشكين، وهي تحمل على ظهرها حقيبة سفر صغيرة، بباخرة منطلقة من ميناء مرسيليا في فرنسا الى ميناء يوكوهاما في اليابان. كان ذلك في عام 1963 ومنذ ذلك الوقت، وهي في شغف تام بالثقافة الشرقية عامة والمسرح الياباني، وخاصة مسرح "النو" و "الكابوكي". وفي اليابان توجد جزيرة صغيرة لها تاريخ خاص ومؤثر جداً، وهي جزيرة "سادو" حيث تم نفي المثقفين والفنانين، بما في ذلك ممثل مسرح "النو" الشهير، آنذاك، زيمي موتوكيو في أعوام 1363-1443. هذه الجزيرة هي المُستعارة في مسرحية منوشكين الأخيرة والمسمّاة "الجزيرة الذهبية"، أي جزيرة الاحلام والفنتازيا والواقع الآخر، عُرضت هذه المسرحية في عام 2022 على مسرح الشمس، في باريس، الذي قامت بتأسيسه منوشكين بمشاركة عدد من الفنانيين منذ ستين عاماً. هذا التمهيد سيكون مهم ومفيد لفهم العرض المسرحي.

الكاتبة هيلين سيكسوس تقول في مستهل مقدمتها لهذه المسرحية " كم كنا مرضى من ماحولنا من رداءة، ومن إنحطاط، وكم كنا، جميعاً، مرضى في كلّ أنحاء العالم، من (الخوف) والجبن، ومن تسميم الحقيقة، ومن المُهربين المتاجرين بالضمائر والعلوم، المثيرون للشفقة، ومن تواطؤ السلطات مع جميع قوى الدمار، ومن الإنهيار المتعمد للغة التواصل، ومن السقوط الهائل للأنوار في قمع الظلام!". من هذا الواقع المعتم والخانق ينبثق، إذن، الحلم في جزيرة نائية خالية من أمراض الخوف والجبن والانحطاط والتواطؤ الوضيع. حلمٌ بجزيرة يتعايش الإنسان فيها بلغة لا لبس فيها، وبآمال تعبّد طريق الآخرين نحو حياة أفضل. حلمٌ "بجزيرة ذهبية" بعيدة عن الجوار.  ( للمزيد حول هذه المسرحية يمكن مراجعة مقالي المعنون "أريان منوشكين ومسرحية الجزيرة الذهبية” المنشور في "الحوار المتمدن" في 13 كانون الأول/ديسمبر 2022). اما إطار السرديات اللغوي في المسرحية فقد شمل اللغات الفرنسية، والانجليزية، واليابانية، والعربية والعبرية مع ممثلين وفنيين يمثلون ثقافة هذه اللغات.

الثقافة الهجينة والمجتمع العربي

لم يتوقف التهجين الثقافي عند عتبة بعينها، فقد تجاوز الحدود والمغلقات وإجتاز جدران سميكة من تقاليد وقيم ثابتة، وقد إنعكس ذلك على المجتمعات العربية من مشرقها الى مغربها، عبر تأثّرها المباشر والفعّال بمجتمعات وثقافات أخرى، في مجالات الفكر والفلسفة والعلوم والفنون في حين كان تأثير هذه المجتمعات -العربية- خارج أسوارها محدود للغاية. ويعود ذلك، كما أعتقد، لسببين، الأول، هو أن المجتمعات العربية لم تنجح في تنظيم وتحديث وتأمين إنسياب وتسلسل التراكم الفكري والتنظير الفلسفي، والبحوث العلمية التي أنتجها الاسلاف. والثاني، هو عدم تمكن هذه المجتمعات من الاستفادة من تجاربها التاريخية الهامة، وتصنيفها لها، بعيدا عن التعمق الفكري، والتأمل العلمي، والتحليل الواقعي عبر إستسهال العودة الى هذه التجارب ضمن مخزونات واسعة من مشاعر وعواطف الحنين والنوستالجيا لماضي الزمان، مما يُلحق ضررا بالغاً بنمو وتقدم وإزدهار هذه المجتمعات وثقافاتها. يذكر الباحث والناقد الادبي والاكاديمي هومي ك. بهابها،  Homi K. Bhabha في كتابه الهام (الموقع الجغرافي للثقافة)،  Location of Culture  "إن التهجين الثقافي ليس مجرد حقيقة من حقائق الحياة في العالم الحديث، بل هو ضرورة لبقاء الثقافات ونموها."

أما فيما يخص التهجين الثقافي، الواضح تأثيره أو تأثّره بالثقافة والمجتمع العربي، فهو يتمثل في مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية المتنوعة، والمختلفة. من أبرز هذه التأثيرات وضوحاً نجدها في الثقافة عامة، ومناهج البحث العلمي والفلسفي ومختلف مجالات الفن ولا سيما المسرح، ثم تأثيرات أخرى أساسية تمس مباشرة اللغة، والغذاء، والموسيقى، ووسائل الاعلام، وسأورد بعض الأمثلة على ذلك:

المسرح:

من التجارب العربية، ضمن مفهوم إمتدادات المسرح في الثقافة الهجينة، عدد من الاعمال المسرحية لمخرجين عرب بارزين، سأشير هنا الى ثلاثة أمثلة، كان لها أثر وتأثير مباشر وفعّال في مجمل سرديات وأطر العمل الفني والمشهدي في المسرح في المنطقة العربية. فالمثال الأول، قدم المخرج التونسي الكبير المنصف السويسي عملا مسرحيا قائمآً على دمج مختلف الأفكار والثقافات والتيارات التقليدية في عرض مسرحي متكامل ومبهر لنص مسرحية "واقدساه" للكاتب والمسرحي المصري الدكتور يسري الجندي، وقد إستعان المخرج بممثلين من عدد من الدول العربية ومن خلفيات مجتمعية متنوعة لتوحيد الرسائل السياسية التي يرمي اليها العرض المسرحي.  أما المثال الثاني فهو مجموعة أعمال وأفكار المخرج المسرحي المغربي الطيب الصديقي، فقد كان له الريادة في الاستثمار بالتراث العربي لإنارة حياة أكثر حداثة وانفتاح للمجتمعات العربية المعاصرة، وإجتذاب أوسع شرائح الجمهور لحضور العروض المسرحية. وبذات السياق فإن المثال الثالث البارز فهو للمخرج العراقي الرائد قاسم محمد الذي تعامل مع التراث العربي بإعتباره نوافذ يطلّ منها على عناصر الحداثة المعاصرة، بدمج حقب زمنية متباعدة، وقوالب ثقافية تبدو جامدة وساكنة ومركونة على رفوف التاريخ، غير انه نفض عنها الغبار وألبسها ضياء حداثي معاصر من خلال كتابته وإخراجه لمسرحية " بغداد الازل بين الجد والهزل". والجدير بالإشارة هنا بإن الارتكان للتراث، والثقافات غير السائدة، وقيم ومبادئ الاسلاف، شكّل اسلوباً ينفذ من خلاله المخرج من سلطة الرقابة. علاوة على ذلك فإن جدارة واهمية هذه الاعمال المسرحية تكمن بما سعت اليه من الخروج من أُطر الثقافة الوطنية والاحتباس المناطقي الجغرافي. ومما يعزز أهمية هذه الاعمال المسرحية هي انها كانت تسعى الى وضع أسس حقيقية لتشكيل عناصر هوية مبتكرة، وحداثية وخاصة لمسرح يُمكن تسميته "بالمسرح العربي". هذه الهوية لم تتشكل الى الآن، بل ازدادت ارتباكا وتشويهاً بسبب الإيغال بإنتاج أعمال مسرحية ذات طابع ثقافي مناطقي.

اللغة:

اللغة العربية لم تعد كافية في المحادثات العامة والنقاشات الفكرية عند بعض شرائح المجتمعات العربية، فبدت لهم بأنها عاجزة عن إشباع التعبير والافصاح عن المعنى، فظهرت قوالب لغوية جديدة مثل الفرانكوأرب، وغير ذلك. ويتضح هذا بجلاء في بعض المجتمعات العربية، مثلاً في دول المغرب العربي التي تستخدم لغة مدمجة بين الفرنسية والعربية، والامر نفسه يحدث بتزايد في دول المشرق العربي بالجمع بين اللغتين الإنجليزية والعربية في المحادثات العامة. ولاشك أن الانترنيت وسّعت مسألة إهمال اللغة العربية أو تشويهها بدمجها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية وتبني أفعال وصفات وأسماء من هذه اللغات وتوطينها ضمن النحو والصرف الخاصة باللغة العربية.

الغذاء:

- المطبخ المختلط في المنطقة العربية، يجمع بين عناصر من تقاليد الطهي المختلفة، وبتأثيرات من المطبخ التركي والإيراني والهندي وبعض الدول الغربية. وبذات الوقت فإن تأثيرات المطبخ العربي قد أُدمجت الى حد التبني في مطابخ أوربية وغيرها. ربما أشهر منتجات الاغذية في الدول العربية التي سافرت بعيدا عن موطنها الأصلي وعن مجتمعاتنا العربية هي الفلافل والحمص والتبّولة، تلى ذلك الكس كسي المغاربي والكباب ..الخ)

الموسيقى:

مزج آلات غربية وأجنبية مع آلات عربية في الموسيقى العربية المعاصرة مثل دمج السانتور والبيانو والفلوت والأبوا والكونترباس والأوكورديون وغير ذلك في الموسيقى والاغاني الحديثة ضمن تراث التخت الموسيقي الشرقي. هناك أيضا حالات لدمج وتوطين بعض تيارات ومناهج موسيقية عالمية في مجرى الغناء والموسيقى العربية، كما جرى مع موسيقى ورقصة الرومبا، والسالسا، والسامبا، والمامبو، وموسيقى ورقصة التانجو وأخيرا مع موسيقى وأغاني الجاز.

وسائل الإعلام:

في التلفزيون نلاحظ تحول الصور النمطية والجامدة لبرامج وأشكال تقديم الاخبار والحوارات، في معظم محطات التلفزيون العربية، الى الاشكال العالمية الأكثر تأثيرا في الاعلام متمثلة بشبكة تلفزيون السي أن أن CNN وما شابهها مما يعزز الايهام بوجود وممارسة الديموقراطية. أما في السينما فقد نسجت صناعة السينما المصرية، وهي اكبر صناعة سينمائية في المنطقة العربية، ويعتبر المجتمع العربي برمته المستهلك الأكبر، ويكاد ان يكون الوحيد لهذه السينما، نسجت سرديات وتقنيات مبنية على العنف المفرط والعصابات المتنوعة المهجّنة من عناصر مختلفة من السينما الهوليودية والبوليودية، ثم ادخلتها على الفيلم العربي الذي يبتعد فيها، نسبيا أو كليا، عن قيم وسلوكيات المجتمع المصري وكذلك بقية المجتمعات العربية.

توضح هذه الأمثلة كيف يمكن أن يحدث التهجين الثقافي في مختلف جوانب الحياة والمجتمع، مما يؤدي إلى خلق أشكال تعبير ثقافية فريدة ومتنوعة.

في الختام

مع تجذر ثورة الاتصالات، والتوسع في إستخدامات الانترنيت ووسائل الاتصال المختلفة، وتنامي الهجرات الخارجية، لم يعد التبادل الثقافي أو تجاوز أسوار المجتمع بحدث إختياري، وكذا الحال بالنسبة للثقافة الهجينة. فقد غيّرت العولمة ديناميات وآليات مدارك المجتمع وسلوكياته، ورفعت من مناسيب معاييره فيما يخص النظر الى القيم والتقاليد والسلوكيات عامة. ومن هذا المنظور فإن المسرح يُعدّ أداة سحرية قوية للمحافظة على الثقافة الوطنية وصيانتها ولكن بإنفتاح واعٍ وحذر لتبني ودمج عناصر من ثقافات أخرى بهدف إثراء المخزون الثقافي والاجتماعي على الصعيد الوطني، و لتعزيز التفاهم بين الثقافات والمجتمعات المختلفة. أهم الوسائل للوصول الى تلك النتائج تتمثل بتحدي الصور النمطية التي تفرزها الثقافات المغلقة والمجتمع الراكد والساكن، ثم تعزيز وتعميق التغيير في شتى مجالات الثقافة والمساهمة في تجذير الوعي الاجتماعي الحداثي، والتمسك بخصوصية الهوية الثقافية، وتعزيز الإحساس بالانتماء الوطني. ضمن هذا المفهوم، فإن قدرات المسرح التغييرية تعتمد بشكل جوهري على آليات التبادل الفني، والتعاون الدولي، وتنظيم وإستضافة المهرجانات والجلسات الحوارية، فالمسرح يتمتع بالقدرة على تجاوز الحدود الثقافية المناطقية وعبور اسوار المجتمع الثابتة والجامدة بهدف إنشاء مساحة مشتركة حيث يمكن سماع الأصوات المتنوعة لمختلف شرائح المجتمع والدفع بالهموم الجمعية والفردية في المجتمع الى مقدمة أولويات التنمية البشرية على الصعيدين الوطني والإقليمي. فالتهجين الثقافي  "يسمح بخلق أشكال جديدة ومبتكرة من التعبير، حيث تتجمع الثقافات المختلفة وتؤثر على بعضها البعض."، كما يؤكد ذلك هومي ك. بهابها.

ففي حين تتلمس مجتمعاتنا صعوبات التكيّف مع الثقافات الجديدة والوافدة، وتعقيدات ما يجري في عالم اليوم، هذا العالم المنكمش في مسافاته، كما هو منكمش في أزمانه، ينبثق المسرح بأنواره ليضئ الجوانب الخافية من الأجوبة المستحيلة والاحتفاء بها، تأكيدا وتعميقا لروابط إنسانيتنا المشتركة كأفراد وكمجتمع.

***

علي ماجد شبو

في المثقف اليوم