قراءات نقدية

محمد العفو: عربة يدوية

"يشتغل فاغنر بلا توقف"، هكذا تكتب مرار وتكرارا في يومياتها كوسيما فاغنر (زوجة مؤلف الدراما الموسيقية الألماني رتشارد فاغنر). أما فاغنر نفسه فقد مات في سنة 1883. وبعده بسنة، تحديدا في صيف 1884، كان نيتشه يقضي أيامه في موناكو بإيطاليا. عندما استمع الأديب نيتشه لأول مرة إلى مقدمة أوبرا " بارسيفال"(1882) التي ألفها فاغنر، انطفأ وجه الموسيقي الفرنسي بيزه أمما أعين نيتشه، تأثرا بتلك المقدمة. أخيرا، عاد نيتشه إلى ساحر الشمال فاغنر، بعد أن انقطعت صداقتهما. لقد تركت هذه الصداقة المفقودة، بينهما لسنوات، علامة لا تمحى. إن العودة هي بمثابة اعتذار الجنوب المضيئ والمبهج على فترة طويلة من العداوة: العودة ببراعة إلى الضباب وإلى عالم المدن الباروكية. يمكن القول: إن النصوص المتأخرة للأديب نيتشه لا تترك أي مجال للشك حول عودته الغرامية إلى صديقه فاغنر.

هذه الفقرة المقتطفة، بتصرفات توضيحية، من كتاب: " دموع نيتشه"، تشغل أسفل وأعلى الصفحتين 104 و105. والحال أنه قد قطع قراءتي لها مقطع فيديو، يمكن القول: ليس من تقارب بين عنوان "دموع نيتشه" وحكاية هذا المقطع سوى تقرير عن حالة نفي الحياة في قرية تموت عطشا ومع ارتفاع الحرارة في الوقت الذي تنتعش فيه التفاهات في كل مكان. هي مفارقة، ليست غريبة كما هو سائد، بل هي تذهب إلى حد أنها مبتذلة.

و لو أن " دموع نيتشه"، إذا ما فسرت في نطاق أدبه، على أنها دموع فرح وابتهاج ومرح وإقبال على الحياة، ودموع تفاؤل بامتياز قل نظيره في الأدب الرومانسي، إلا أن هذا العنوان كان بالإمكان أن يرد في أية مناسبة دراماتيكية غير تلك التي سَمعت في مقطع الفيديو: أصوات قنينات خالية، وأوعية فارغة وصهاريج خاوية، بل غائبة. إنه يَرد، زيادة على ذلك، مع مشهد في نفس المقطع، شاهدت فيه: رجلا يدفع عربة يدوية، كان جنديا خدم وطنه قبل أكثر من ثمانية وأربعين عاما. وقد وجد نفسه اليوم بدون قطرة ماء يرتوي منها ويستحم بها.

وبقدر ما بدا المنظر مرعبا، لمحت أضواء خافتة من بعيد وراء ضباب غبار تربة هفة لا يقل عطشها عن عطش سكان القرية. ذلك، أن هذا الانحدار نحو جفاف مباغث، ليس عاديا ولهذا كان مؤلما، رغم أنه أعلن بإصرار منذ سنوات حلوله. كل ما في الأمر، أن الاستغاثة العجائبية والواقعية، في آن معا، من سيدة كانت متجهة إلى عين القرية لتتزوَّد بالماء، قادتني إلى تلمس حال ذلك الجندي المتقاعد، كان هو نفسه يتعطش، وبإصرار وبتدرج يدفع عربته اليدوية التي تصدر عجلتها صريرا قويا مميزا إذا ما حُمّلت، وصريرا خفيفا إذا ما لم تحمّل بالقدر الكافي من أوعية المياه. وهكذا قادتني إليه " دموع نيتشه" بما هي دموع حسرة !

إن جندينا في هذا الفيديو جندي بلا سمات، يدفع عربته اليدوية، التي رتب فيها القوارير والأوعية، في اتجاه منهل المياه، لا لكي ينال إعجاب نساء القرية، ولا لكي ينفجر لغم تحت أقدامه. في ما مضى لم يكن عطشانا، إلا إذا قلنا: اشرأب عنقه في وسط حشد مستغربا، لكي يرى كيف يمتد البطيخ الأحمر والأفوكا. وبالتالي، أن نعتبر وجوده ووجود الجميع في تلك القرية مجرد وجود عن طريق خطأ مخبري فأصبح داء مُزمنا لا يقتل بقدر ما يضعف طاقتهم شيئا فشيئا، خاصة الفاصل بين خروج المُسْتعمِر ونشر الفيديو حول المُستعمِر الجديد.

تنم بعض الحركات على براءة الجندي، وأن لا علاقة له من قريب أو من بعيد بهذه البغثة، لا يسيء استخدام مرتبته، يعقد راحة يده بهدوء، صادق حتى في ابتسامته، دفعاته لعربته دفعات شابة عادية بما فيه الكفاية، متقاعدا دون سجايا سوى سمة حب الحياة. زيادة على هذا، إن مقطع الفيديو يقدمه تاجرا بسيطا للتوابل، أي أن وضعية العربة تتحول في أشكال كلها غريزة حياة. وفي الواقع، وحسب تعهد من مجهول، ينتظر على أحر من جمر أن يصل إلى " ثروة" أخرى، " ثروة" ما بعد العربة، ستكون ناقلة صغيرة الحجم لنقل الأثواب والملابس والأغراض المستعملة تصلح سلعةً. إلا أن الحقيقة المرة أن جندينا من جبلة جنودنا عامة، ليس في وسعهم أن يستبدلوا قديما بجديد. وهكذا، ليس في وسعه أن يَعد العربة اليدوية نيشانا: أن يَعدها بركن في منزله، ويحيلها إلى التقاعد ويمنحها فاصلا. ورغم أن الجندي نفسه قد يحلم بحياة رغيدة ما بعد عربته اليدوية، كصنابير مياه وأنابيب بالمئات في كل المنازل تغنيه مشقة جلب المياه كل يوم، فإنه قد لا يرتوي إلا " بدموع نيتشه" مع كل الذين لم يرتووا في تلك القرية.

قد نتفق معا أن التكنولوجيا، كالعربة اليدوية وكالتعديل الجيني لتوفير الغذاء، قد أضفت على الطبيعة صفة الأدواتية وأحالتها إلى مجرد وسائل، وأنها انقلبت إلى عائق أمام التحرر، حيث تحوّل الانسان نفسه فيها إلى أداة، إلا أن حياة ما قبل العربة اليدوية حياةٌ قد تستحق " دموع نيتشه".

***

محمد العفو

(صيف 2023)

 

في المثقف اليوم