أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الإفلاطونية الجديدة وكيفية ارتباطها بافلاطون؟

كيف ركّب الفلاسفة الافلاطونيون الجدد عناصر من الفلسفة القديمة لكي يضعوا نظرية عن الواقع من مبدأ احادي؟ استُعمل مصطلح الافلاطونية الجديدة ليشير الى جماعة من الفلاسفة عاشوا لفترة استمرت عدة قرون، من القرن الثالث الى القرن السابع الميلادي. هم كانوا منتشرين عبر منطقة جغرافية واسعة امتدت من مصر وشمال افريقيا الى غرب اوربا وتركيا الحالية ومعظم الشرق الاوسط. افلوطين اعتُبر كمؤسس للافلاطونية الجديدة والمناصر له بورفايري porphyry كان شخصية رئيسية اخرى في الافلاطونية الجديدة. افلوطين أسّس مدرسة فلسفية في روما ويبدو انه بث نظريته هناك. كانت الافلاطونية الجديدة مؤثرة جدا على بعض المسيحيين الثيولوجيين الأوائل وبالذات القس اوغسطين.

ماهي الإفلاطونية الجديدة

لا أحد من الإفلاطونيين الجدد سمى نفسه افلاطونيا جديدا – انها تسمية خاطئة بقدر ما تمثل مشروعا للافلاطونيين الجدد كمحاولة لإيقاظ عقائد افلاطون. بالتأكيد، الافلاطويون الجدد كانوا افلاطونيين، والتأثير الذي أحدثوه على التيار العام للفلسفة الغربية كان التحوّل بعيدا عن الفلسفات الأكثر مادية التي سبقتهم (المرتكزة على الإيبيقورية والفلسفة الرواقية) باتجاه تصوّر افلاطوني للواقع.

يجب التركيز كثيرا هنا على الأهلية . لاشك ان العديد من الافلاطونيين الجدد بمن فيهم افلوطين، كانوا الأعظم تأثيراً من بين الفلاسفة الافلاطونيون الجدد – رأوا انفسهم منسجمين مع فلسفة افلاطون ككل. هذا لا يسمح لنا بإفتراض ان الافلاطونيين الجدد فهموا انفسهم كمشتركين بنسخة من فكر افلاطون تتطابق مع ما نفهمه عن افلاطون اليوم، او مع الكيفية التي فهم بها معاصرو افلاطون فلسفته. في الحقيقة، ذلك ينطبق على مختلف الاستخدامات التي أجازها ومارسها الفلاسفة من الافلاطونيين الجدد. تفسير ارسطو كتابع لافلاطون هو مثال واحد على ذلك.

المبادئ المميزة للافلاطونية الجديدة

المبدءان المميزان للافلاطونية الجديدة ليسا افلاطونيين بامتياز. الأول اعتقد به افلاطون، ولكن ايضا اعتقد به ارسطو والعديد من فلاسفة اليونان الآخرين في تلك الفترة. المبدأ يمكن تلخيصه كـ: "الذهن يسبق المادة"، او "الذهن فوق المادة". بالنسبة لمفردة "ذهن" يمكننا استبدالها بـ "ذكاء يقظ"، "وعي"، "عقل"، او "فكر". المفردة اليونانية nous تحمل دلالات لجميع هذه المفردات الانجليزية.

هذا الادّعاء الانطولوجي (ادّعاء حول أي مفاهيم الوجود اكثر جوهرية وأهمية) بدوره يتضمن ادّعاءً ابستيمولوجيا – اي، ادّعاء حول المعرفة. هذا الادّعاء هو بان العالم كما يبدو لنا، مضلل الى حد ما، او على الاقل بحاجة لتفسير جاد وحازم اذا أردنا فهم ذلك المفهوم الأكثر جوهرية.

المبدأ الثاني هو المبدأ الاكثر تميّزا للافلاطونية الجديدة – وهو الفكرة بان الواقع بمجمله يعتمد على مبدأ أعلى. هذا المبدأ هو مبدأ الوحدة. انه اعتُبر الهي، واحيانا يُشار اليه بـ "الله"، رغم ان الافلاطونيين الجدد كانوا وثنيين. انه يتخذ اسماءً اخرى: "الواحد"، "الخير"، "الاول"، وغير ذلك. من الواضح ان هذين المبدءين مترابطان. اذا كان الذهن يسبق المادة، عندئذ فان المبدأ الاول للخلق يجب ان يكون واعيا. لهذا، فان الافلاطونية الجديدة تحاول توضيح الكيفية التي يأتي بها كل الواقع من الوعي.

الخلق والإنبثاق (الفيض)

الإفلاطونيون الجدد يجب ان لا يُساء فهمهم في الاقتراح بان الواقع خُلق من لا شيء بواسطة الوعي. سيكون من الأصح القول انهم يتصورون العالم على انه ضمن عملية تكوينية، حيث هنا لا يعني التكوّن إنشاء مثيل من أشياء مادية جديدة، بل إضافة تفاصيل للبناء. في الحقيقة، الكلمة الأكثر انطباقا على الافلاطونية هي "انبثاق" او فيض، الذي يفيد في توضيح ان – الاشياء تُصنع لكن ليس كل شيء نشأ من لا شيء. اذا كان العالم اشتُق من مبدأ واحد للخلق، فهو سيكون دائما هكذا. بروز الكون هو تدريجي – ضمن مراحل مقررة.

السؤال الطبيعي عن هذا المبدأ الذي يبدو غامضا هو "حسنا، لكن ما هو؟". وللحديث بخصوصية اكبر، نحن نميل لنسأل ماذا بالضبط يقرر او يعالج او يعني مبدأ "الواحد". الجواب الافلاطوني الجديد لهذا ربما فيه جزئين. اولا،يجب ملاحظة ان القول الكثير عن مبدأ قُصد به ان يكون بسيطا وواضحا، في إعطائه صفات وتجزئته الى مفاهيم فرعية، سوف يخالف دور المبدأ في بناء الواقع. المبدأ الذي يمكننا ان نقول عنه أكثر لايمكن ان يكون المبدأ الاساسي الذي يُؤسس عليه باقي الوجود.

ثانيا، انه عقيدة مركزية للافلاطونية الجديدة بان كل شيء يمتلك عنصرا باطنيا وخارجيا، وان العنصر الباطني (المبدأ الذي على أساسه يتكون شيء معين" سوف يتطابق دائما مع العنصر الخارجي. لذلك، فان المبدأ سوف يستبق تأثيراته وربما نستطيع ان نتعلم شيئا حول المبدأ عبر محاولة فهم هذه التأثيرات.

المبدأ الواحد الذي يبرز منه كل شيء

الكثير من الإنجذاب للافاطونية الجديدة يكمن في أناقة وصف بناء الواقع عندما يأتي من مبدأ احادي. لكن حتى عند قبول البساطة الكلية لهذا المبدأ، نحن مع ذلك نستطيع التفصيل حول مفهوم النوس، وهو في الواقع "المبدأ الثاني" للفلسفة الافاطونية الجديدة.

من الجدير التأكيد على الكيفية التي يكون بها الاساس الانطولوجي للنوس في نشاز مطلق مع نزعة الفلسفة الحديثة في تصور الوعي كنتاج للعلاقة بين الأجزاء المادية. حتى اكثر الماديين تحمسا بشان ارادة العقل، اذا كانوا مدركين لذواتهم قليلا، ستكون لديهم لحظات يشكّون فيها من ان أي آلية مادية هي سبب كاف لعمليات العقل. وبكلمة اخرى، حتى في الثقافة الفلسفية التي هي معادية نسبيا للطريقة الافلاطونية الجديدة في تصور الوعي، يبدو انه أحد شكوكنا السرّية بان هذا الوضع الراهن يفتقر لشيء ما.

هذا ربما يكون مفيدا في توضيح مواقف فلسفية مثل عقيدة الروحية الشاملة (panpsychism ) - القائلة بان كل شيء مهما كان صغيرا له عنصر في وعي الفرد - والتي شهدت انتعاشا اخيرا ضد المادية حول العقل. ان مبدأ العقل(nous ) او الوعي هو البوابة لفهم العناصر الافلاطونية الجديدة الأكثر تميّزا للعقل. وبالذات، انه من خلال تصوّرهم للوعي الذي فهمه الافلاطونيون الجدد كخلق للأشكال، تلك المفاهيم التي يراها افلاطون تشكل الطبيعة الواقعية للواقع الذي وراء عالم الظهور.

الإفلاطونية الجديدة والمسيحية

الإفلاطوني الجديد يتصور الوعي باعتباره ينشأ من المبدأ الأول، مبدأ الوحدة او الواحد. مع ذلك، حتى عندما يكون الوعي، كما كان، ينحدر من هذا المبدأ الاول انطولوجيا، فان من طبيعة الوعي ان يفكّر في أصله والرجوع الى هذا المبدأ الاول من أجل التفكير فيه . الافلاطونيون الجدد يؤمنون بان هذا الوعي بالوجود الآخر يشطر الوعي الى اثنين. مع ان الاسباب لهذا غير ثابتة عبر التقاليد الافلاطونية الجديدة (ونادرا ما تكون واضحة)، فمن المحتمل، ان الفكرة هي ان هناك فرق نوعي هام بين الوعي من حيث ارتباطه بما هو ثانوي انطولوجيا، والوعي من حيث ارتباطه بأعلى مراتبه الانطولوجية. في اية حال، انه تفككك الوعي الذي يراه الافلاطونيون الجدد سبب خلق الأشكال – الاختلاف، التعدد، الهوية، المساواة، وأكبر او أصغر من، وجميع المفاهيم على اختلافها .

ربما يجدر الإختتام بمحاولة توضيح لماذا الافلاطونية الجديدة، رغم صعوبتها تستحق الفهم. الافلاطونية الجديدة تستحق الفهم لأجلها بالذات، لكنها تستحق اهتمام أي شخص آخر وبشكل منفصل يريد فهم كيف تطورت الفلسفة اثناء الفترة التي اصبحت فيها المسيحية والاسلام قوتين تاريخيتين عالميتين وجاءا ليهيمنا على التيارات الفكرية في مجتمعاتهما. فهم الافلاطونية الجديدة هو ايضا اساسي لفهم فلسفة القرون الوسطى (في كل من المسيحية والاسلام)، ومن ثم، البيئة التي برزت بها الفلسفة كما نعرفها اليوم.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم