تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام فكرية

محمد يونس محمد: في الفلسفة الانجليزية.. ما قبل العقل العملي

السبل التي تؤدي الى الفلسفة عديدة، وصراحة هي اكثر من السبل التي تؤدي الى المنهج العلمي، لكن في اشارة اولية نذهب الى فكرة توضيح، حيث السبل المعبدة هي التي نجدها في اطار المنهج العلمي، واما السبل العديدة التي تؤدي الى الفلسفة فهي اغلب تلك السبل يحتاج الى تعبيد، ومن هذه المسارات المرتبطة بالذاكرة البشرية، فهي اصبحت كما الطرق المهجورة، وهذا ما جعل الفلسفة تفقد احد الاركان المهمة، وفي اطار تصنيف الاجناس البشرية، فعنصر الرقي والحضارة لم يشكل ذلك الدافع النشط في تحريك العقل الاجتماعي نحو ركن الفلسفة، ومن هنا من الاولى أن نستبعد فكرة الاجناس، واذا ذهبنا الى المستوى الحضاري، فلم يعد ذلك الجانب ركنا اساسيا، واذا كانت الفلسفة الرومانية قد عاشت اولى مظاهر الحداثة، فالفلسفة العربية عاشت الظروف العصيبة والمعقدة، وعاش من الفلاسفة كما عاش سقراط، بل العقل المغلق تجرأ بتقولات على العقل الرحب المنفتح، واسهم في تجريده من القيمة المعنوية، وقدر على ابن رشد أن يواجه ذلك القتل المعنوي، وفي تصنيف الفلسفات الحديثة، تنوعت ايقاعات الخطاب، وكانت الفلسفة الانكليزية الاكثر وضوحا ورجحانا واهمية سياسية على وجه الخصوص، وبالرغم من رجحان افق الفكر وليس افق الفلسفة، وكمثال ما كان من تشخيص خطاب جون لوك كفكر وليس كفلسفة.

لقد تبنت الفلسفة الانكليزية من اكتساب احد اهم الافكار التي طرحت في الفلسفة الحديثة، لكن كانت هناك جدارة في صيغة التبني، فالمثالية كمفهوم بيني شكل الاهمية الكبرى في القرون الثامن عشر والتاسع عشر، واهمية طرح كانت لهذا المفهوم القديم، والذي استحدث بصيغة بينية لالا تميل الى الدين كليا ولا الى الفلسفة العضوية كليا، بل كان مفهوم المثالية كجلقة وصل جوهرية ما بين المعنى الدين المستحدث بروح ليبرالية، وبين ما اكتسبته الفلسفة الحديثة من حس علماني بنسب عالية، ونحن هنا نبحث في تطورات الخطاب الموازي للمفهوم من خلال دقة وعمق المعرفة اللسانية، ونهدف الى تحليل بنية الخطاب اولا منفردة، ومن ثم ثانيا نتمعن في طبيعة ما بين المفهوم والخطاب، ففلسفة المثالية التي انبثقت من افق الماني كميزة موضوعية في افق عصر التنوير، وكانت فكرة مفهوم المثالية بالاطار المركب معنويا ما بين حس علماني وحس ديني موازي له مهيأة للتناظر، واستقبل لوك وهيوم المثالية في صيغة مستحدثة، على وجه الخصوص في بنى الفلسفة التجريبية والفلسفة العقلانية، ونشير كما قد انتج الماركسيون ماركسا اخر، فقد انتجت الفلسفة الالمانية افقا جديدا للمثالية، ووسعت الفلسفة الانكليزية افق المفهوم وطورت الابعاد التي تتوافق مع الانثروبولوجيا من جهة، وقاربت بين المفهوم والسعي العلمي، فتجد خطاب راسل يدخل من جهة في ترسيخ المنطق العلمي، ومن جهة اخرى بالمنطق الاخلاقي الجديد، والذي بدت ملامحه تتوضح بوقت مبكر في القرن التاسع عشر  وما تلاه.

اهتمت الفلسفة الانجليزية بالمنطق العضوي، وقد انبثق ذلك من خلال فرنسيس بيكون، ثم جاء دور توماس هوبز، والذي طرح فكرة الميتافيزيقا المادية، والتي اثارت ورفعت من منسوب الجدل خصوصا ضد الكنيسة والنظام الملكي، لكن اسعفته علاقته الوطيدة بذوات رفيعة، وتفسير فلسفة هوبز التي تبلورت بشكل موضوعي في القرن السابع عشر، ونشير الى وجود شغف بالموسيقى والتي يجد فيها راحة نفسه واطمئنانها، وكما زيارة هوبز لغاليليو في العام  1636من السعي لتطوير المضامين الفلسفية، والنزوع الى تجديد تفسير الوجود، فكانت هناك حمية فكرية تدفعه إلى تفسير الكون على أسس ميكانيكية، وتلك تعتبر نقطة تحول مهمة في الخطاب الفلسفي الانجليزي، وشكلت ظروف الحرب الاهلية في بداية اربعينيات القرن السابع عشر اجد المعوقات، والتي فصلت ما بين جهة التحديد المدني وجهة قيم التراث، وذلك ما وسع افق الاشكالية حين انقسمت الأمة على نفسها، وهذا صراحة من الامور العصيبة، حين تتعارض الأمة مع نفسها، والانقسام وانتاج شعوب ذات توصيف ايديولوجي، وكانت الحرب الاهلية تؤكد من عنوانها المعنى الجدلي للأيديولوجيا، ونشير هنا الى انعدام المجتمعات من وضع دستور فلسفي لها، هو من جعلها لعرضة لمواجهات العداء النفسي والايديولوجي، والفلسفة هي الضحية الاكثر تضررا على المستوى العضوي، فإذا سنحت الظروف لهوبز للنجاة من الحرق، لم تتح لغاليليو من امتلاك الحرية الكافية، وذلك يعني وجود ظروف مشابهة لطروف الفلسفة الاسلامية التي ظلمت ابن رشد .

لقد اسهمت الحروب بشكل فاعل في انحسار الخطاب الفلسفي، فبدلا من أن يجد العقل ذلك النوع من التفاعل ما بينه وبين العقل الاجتماعي، شغلت الحروب التفكير البشري، وكان لنابليون بونبارت الاثر العصيب، في رفع مستوى القلق والخوف عند الناس، فأثار الحرب والمديات المروعة في تدمير الاقتصاد، او شله على اقل تقدير، وهذا بدوره سينجم عنه خمول القدرات البدنية، وعلى العكس من اثار الحرب المدمرة للقدرات البشرية والموجودات، والاثر النفسي المتصاعد خشية منها، كان هناك ما شهدت بريطانيا من ازدهار للفلسفة الوضعية، وقد اسهم خطاب كونت في رفع الروح المعنوية للتطور العضوي، والتي تعنى بتطوير الفكر الرأسمالي، ومن الطبيعي أن تشهد تلك الافكار ردود افعال لا تسير في اتجاهها، فقد وصف كونجريف في رده على كونت بأن الفلسفة الوضعي هي دين بلا تعاليم عقائدية، ودمجت بالمضمون العلمي لتبشر بوجود دين جديد، وصراحة كان ان نلمس ذلك الاثر البليغ في الافق العضوي للرأسمالية، وكما قد بثت طاقة روحية في كيان الرأسمالية ليبدأ بصيغة جديدة، وممن كان له رد فعل مضاد ضد فكر كونت، فطرح جون رسكين مقولته التي بها قد (احتج باسم الفن والجمال على عقيدة الآلات البخارية والمصانع، وعلى الاتجاه الى التصنيع والايمان المتعصب بالتقدم، وغير ذلك من الأفكار التي كان الوضعيون في رأيه هم دعاتها )1، لكن هاريسون تصدى لتلك الطروحات المعارضة، وضد سوء الفهم او تشويه الغايات الفكرية.

هناك فكرة جانبية نود عرضها، وهي ليست في اصول الفلسفة الانجليزية، وانما في كتاب يدرس الفلسفة الانكليزية في قرن او اكثر من قبل عقل الماني، وتلك اقرب الى المفارقة، ونحن لسنا ضد هكذا فكرة، لكن هي تفرض نوعا من التأمل، لكن نحن نشيد بالتتبع المتواصل لتاريخ الفلسفة الانجليزية، وبالرغم من وجود معرضة نسبية من قبل الفلسفة الالمانية لطروحات الفلسفة الوضعية، وهناك التزام كبير من قبل الفلسفة الانجليزية بالأصول والقواعد التي انبثقت من الفلسفة القديمة، لكن هناك تباين في قبول او رد الفلسفة المعاصرة، فقد وجه مانسل النقد لخطاب مانويل كانت، واعتبر في طرح له في جامعة اكسفورد بأن كانت بلا ارادة معرفية، والكتاب الذي نحن بصدده قد طرح تلك المقولة ولم يعلق عليها، وتلك الصيغ التي يكون فيها الخطاب بحيادية تامة، هي التي اكثر تفسيرا للأفكار بشكل موضوعي، وهي الافضل في الدقة والتركيز على صيغ الافكار، وكما في تفسير لنا نجد هنا توازي ما بين الغايات العقلية في الفلسفة الوضعية وما بين الطروحات التي قدمها لنا رودولف متس، واذا كانت مراحل الفلسفة الوضعية تنتهي الى تسيد العلم كنتيجة اخيرة، فأن صيغ الخطاب في الكتاب ايضا تتجه الى ذات المسعى العلمي، وتكون ايضا بتلك الروح البينية الحرة، فصيغ الخطاب كانت تتمحور بحرية ما بين التسلسلات التاريخية للفلسفة الانجليزية، والانصاف والموضوعية كانت هي الملامح الاساس التي انبثق منها الخطاب في الكتاب.

شكلت الكنيسة بتلك الصيغ الاستبدادية والعنف النفسي وتسخير اشد انواع التعذيب، وجميع المؤشرات التاريخية تشير الى وجود مؤشر للظلم هو بأعلى النسب في طرح نوع من الاقتصاص يتعارض مع روح السماء السمحة، والكنيسة استغلت

العقيدة بصياغة قوانين الرعب المتعاقبة لوضع الشعوب في زاوية الحرمان والخوف والطاعة، ووضعت جملة من خطوط الرعب التي احاطت بالوجود البشري، وكان نصيب وجزاء العقل الفلسفي تلك العقوبات القاسية، وما يملك الخطاب الفلسفي من قيم تحيد وفصل ما بين مفاهيم الخير والشر والعلم والضلال، والكنسية انبثق خطابها المتشدد من الضلال والجهل، وقد استعارت الكنيسة من جهة الصورة التي كان عليها سقراط، ولكن بدلا من أن يختار الفيلسوف التضحية، كانت الكنيسة تختار له العقاب الاقسى والاشد، بل تتجاوز الكنيسة كل القيم والاعراف، وابتكرت انماط من التعذيب لا تليق بالمعنى الإنساني مهما اختلفنا معه، فحرق الاشخاص وهم احياء كان ابشع الصور التي تليق بصولجان، فكيف تكون تليق بكنيسة دين، وكانت الفلسفة هي من قدمت الضحايا النوعية، وكان هناك فلاسفة لم يمنعهم الخوف من العقاب الصارم، قدموا البراهين على أن الدين هو المعنى فيما السلطة الدينية الوجه البشع لذلك المعنى الفطري، ونحن لسنا بصدد العلائق التاريخية للفكرة، بالقدر لتوضيح احد الامور، والفيلسوف نيومان قدم كناب – قواعد التصديق -  واقتصر تفسير فكرة الدين على أنها ذاتية، لكن الكتاب الثاني الذي عني بتطوير تعاليم الدين، والفكرة الاساس التي يطرحها نيومان، تبرز حالة اساس في هدم فصل الدين عن تاريخه، لكن اذا كانت الاشكالية هي احد مفاصل التاريخ، فقرون من التزمت الديني التي لم تنتج غير القسوة والعنف وحرق الناس وهم احياء، فحتى وباء الطاعون كان اكثر رحمة.

بدأت الفلسفة الانجليزية في بداية القرن السابع عشر على انتاج خطاب جديد لتفسير الدين بحرية اوسع، وتجاوز تلك السمات والمظاهر في تشديد العقاب، وتعتبر تلك اولى المحولات العقلية الجادة في رفع مستوى العزيمة الإنسانية للخطاب الفلسفي، وكان بلونت احد اهم الفلاسفة في تلك المرحلة، وفي تصعيد نفس المواجهة عبر التأليف، وليس عبر المواجهة المباشرة مع القسس، وبداية ترجم احد الكتب، وبلغ فكرة من خلال القراءة الى الفصل ما بين المعاجز التي تنتجها الوثنية بسيرورتها التاريخية، وبين اعتقاد المسيحية التاريخي، وبعد ذلك بسنوات قدم بلونت احد اهم كتبه، فيعتبر كتاب – وحي العقل – نوع من الاحتجاج على تلك الديانة الاثمة، وعلى العنف الديني في حرق الناس احياء، ورفض وامتناع عن سبل معاقبة العقل المنتج، والذي يسهم بتطوير العالم اضافة لدوران عجلة الحياة، ومن ثم كان كتاب – المعجزات وقانون الطبيعة – وطرح فكرة بطلان تلك العقائد الاسطورية التي تستغل العقل الساذج، والتي فيما بعد تلبسه ثوب الاتهام، اذا ما تجرأ ورفض، ويعتبر بلومنت ثورة فكرية وذلك الصوت المعرض لكل ما يتنافى مع العقل، لكن ما اشيع من ان بلومنت انتحر لفرض القانون الانجليزي من زواجه من اخت زوجته المتوفاة، ومن الممكن أن تقوم الكنيسة العاجزة عن مجاراته في الخطاب العقلي الى اتهامه والسعي لتشويه الموقف الاجتماعي له، ونحن نقف مع العقل والخطاب والفكر، ولسنا مع الوقائع بأي صورة كانت.

***

محمد يونس محمد

........................

1- الفلسفة الانجليزية في مائة عام، رودولف متس، ترجمة فؤاد زكريا، دار النهضة العربية، ص 210

في المثقف اليوم