أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: آرثر شوبنهاور ومشكلة الاتصالات الاجتماعية

في مقالاته الفلسفية القصيرة التي نُشرت عام 1851 بعنوان parerga و paralipomena، يتأمل الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور بنطاق كامل من الموضوعات، من بينها الطبيعة المقلقة للترابط الانساني. لكي يوضح أفكاره، يعرض شوبنهاور مثلا يدور حول مجموعة من القنافذ ذات الأشواك. هو يكتب:

"في احدى ليالي الشتاء الباردة، احتشد عدد من القنافذ وعلى مسافة قريبة جدا من بعضهم لكي يحصلوا على الدفء المتبادل ويمنعوا أنفسهم من الإنجماد. لكنهم شعروا حالا بتأثير أشواكهم الحادة على بعضهم البعض، وهو ما دفعهم مرة اخرى الى التفرّق". القنافذ تبحث عن الدفء، لكن في كونهم قريبين من بعضهم، ادّى وخز الأبر الى الانسحاب المصحوب بالازعاج والألم. اذاً ماذا يمكن ان يفعل القنافذ؟ يستمر شوبنهاور بالقول:

"الآن عندما دفعتهم الحاجة للدفء الى التقارب، برزت أمامهم مشكلة الأشواك التي تكررت مرة بعد اخرى وهو ما جعلهم بين شرّين، حتى اكتشفوا المسافة الملائمة التي يمكنهم فيها القبول والتسامح مع بعضهم". القنافذ توصلت الى تسوية: قرب يكفي للدفء مع مسافة تكفي لأقل خدش ممكن. شوبنهاور يطبق هذا المثل ضمنيا على المجتمع الانساني: "حاجة المجتمع التي تبرز من الفراغ ورتابة الحياة، تقود الناس للتجمع مع بعضهم لكن صفاتهم البغيضة وغير السارة ومشاكلهم التي لا تُطاق تدفعهم مرة اخرى للتفرق".

النقطة التي يركز عليها شوبنهاور: هي بينما نحن نسعى للارتباط الانساني، محاولين ان نكون في علاقة قوية او ضعيفة مع الآخرين لكن هذا في أغلب الاحوال يقود الى إحباط وخيبة. نحن كالقنفذ نخدش ونزعج بعضنا البعض بأفكارنا و حاجاتنا المتغيرة قبل الوصول الى تسوية، هو يكتب:

"متوسط المسافة التي يكتشفها الناس في نهاية المطاف، والتي تمكّنهم من الإستمرار مجتمعين، هي الأدب والأساليب الجيدة. وبموجب هذا، يكون من الصواب ان الحاجة للدفء المتبادل ستحقق قناعة غير تامة، ولكن من جهة اخرى، سوف لن يحصل شعور بوخزات الاشواك". الآداب والأساليب تبرز لتخفيف خشونة حاجاتنا الفردية، وان مثل هكذا مجتمع مؤدب، في نفس الوقت يغلق الطريق أمام حدوث  أي ارتباط حقيقيي . وهكذا يحصل المأزق: نحن نسعى لإرتباط حقيقي ولكن نستطيع فقط القبول بنوع من القرب المخفف.

ماذا نستطيع ان نعمل اذاً ؟ كيف نستطيع التغلب على المأزق؟

اذا اعتقدنا ان شوبنهاور سوف يزودنا باستراتيجيات هامة في كيفية التغلب على القرب غير الضروري مع الاستمرار في تشكيل علاقة وثيقة، فنحن لسوء الحظ سوف نُترك بخيبة مريرة. لأنه بدلا من ذلك، يذهب شوبنهاور المتشائم  في الاتجاه الآخر. هو لا يقبل بطرق الناس المسببة للغضب، هو يرى اننا يجب ان نقلل خسائرنا وننسحب كليا الى العزلة، ونركز على إيجاد بعض الدفء لأنفسنا. هو يكتب:

"لكن منْ يتمتع بقدر كبير من الدفء الداخلي سيفضل الابتعاد عن المجتمع لتجنب التسبّب في او تلقّي المتاعب والازعاجات".هو يرى ان العزلة هي المقياس الذي تُقاس به جودة الناس من عدمها، وان كل الشر هو بسبب عدم الإختلاء بالنفس. في الحقيقة، لا أحد يحتاج لصحبة الآخرين عندما يستطيع المرء التمتع بصحبته هو؟ أي شكل من أشكال الارتباط الذي نبحث عنه يمكن توفيره عبر نوع من العزلة المهذبة. هو يستمر في الكتابة، العزلة يمكن ان تجعلنا أكثر سعادة عندما نطور الكثير من فهمنا ونعمّق تقديرنا للفن. نحن نستطيع إنفاق وقتنا في القراءة، الاستماع للموسيقى، تثمين أفضل الانجازات الثقافية للانسانية بدون ان نتعامل او ننزعج من أي انسان آخر. وفي مقال آخر عن الكفاية الذاتية، يستمر شوبنهاور بإصرار على هذا الموقف بقوله:

" كقاعدة عامة، ربما يُقال ان اجتماعية الانسان (رغبته في الاختلاط) تتناسب عكسيا مع قيمته الفكرية: أي لو كان هناك "شخص ما" غير اجتماعي جدا، هذا يساوي القول انه انسان ذو قدرة عظيمة. العزلة هي ذات فائدة عظيمة لمثل هذا الانسان.(1)

اولاً، العزلة تسمح له ليكون مع نفسه، وثانيا، انها تمنعه من ان يكون مع الآخرين – ميزة هامة جدا، في ظل القيود والازعاجات والاخطار في كل حديث او نشاط مع العالم".

بالطبع، شوبنهاور يهاجم العلاقات الاجتماعية ويمدح التوجّه لدى اولئك الذين يحتضنون العزلة – لأنه هو نفسه عاش حياة العزلة (هو لم يتزوج ابدا، وكانت علاقاته مع امه عدائية،وكان مزاجه سيئا). لكن مهما كان شعورنا تجاه وخزات شوبنهاور، فان مقارنة القنفذ  ألهبت خيال سيجموند فرويد الذي نشرها بعنوان "مأزق القنفذ"، فرويد اعتقد ان شوبنهاور دمج رؤية هامة في علم نفس الانسان: في البحث عن القرب، نحن عادة ندفع الآخرين بعيدا، و ننتهي فقط بإزعاج بعضنا البعض.

***

حاتم حميد محسن

............................

الهوامش

(1) يقول شوبنهاور ان الاختلاط ينتمي الى اكثر الميول خطورة وتدميرا، طالما يجعلنا في اتصال مع غالبية سيئة أخلاقيا وكسولة فكريا. وُجد ان الانسان يكون اجتماعيا بنفس المقدار الذي يكون فيه ضعيف فكريا ومبتذل بشكل عام. كان شوبنهاور مقتنعا بانه كلما كان الشخص أعلى ذكاءً كلما كان اكثر عزلة وميلا الى الهدوء. لقد آمن شوبنهاور بقوة بفكرة الرعاع مقابل الانسان الأرقى. الرعاع يحبون الضوضاء والتسلية الرخيصة. السوبرمان يحب الادب والعزلة والموسيقى الجادة، ويرى الحفلات والاختلاط مؤذية بشكل عام. هو كان لديه تفسير فسيولوجي: دماغ الانسان المتخلف فكريا هو خشن، ولا يتأثر بالضوضاء، وفي الحقيقة يحتاج للصوت العالي ليكون قادرا على التمتع والاعجاب. اما دماغ الانسان الذكي، فيزيقيا يكون ألطف واكثر حساسية، وصُمم للاعجاب والرغبة في حدة الذهن. الرجل السوبر يتأثر سلبيا بالضجيج والصوت العالي والصخب. الانسان الخشن يفضل الخشونة، اما الانسان الرقيق يفضل الاشياء الرقيقة.

في المثقف اليوم