أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل هناك حدود للمعرفة؟

كان السعي للمعرفة هدفا أساسيا للانسانية منذ زمن بعيد، بدءاً من الحضارات المبكرة التي حدّقت في النجوم وصولا الى أحدث التطورات في مجال البحوث التجريبية للكشف عن أسرار العالم الكمي، كل ذلك دفع الانسان متخطيا حدود ما هو معروف. وحين يخوض العلماء عميقا في تعقيدات الكون، فهم يواجهون سؤالا أساسيا: هل هناك حدود للمعرفة الانسانية، واذا كانت هناك فعلا حدود، فما الذي يكمن وراءها؟

السعي اللامحدود للمعرفة

تاريخ الانسان هو شهادة على شغفه اللامحدود بالمعرفة. هو استطاع ان يفك أسرار الذرة، ويحل لغز الجينوم البشري، واستكشف الكون بالتلسكوبات والمجسات الفضائية. وفي العصر الرقمي، وصل الانسان الى ثروة من المعلومات اصبحت في متناول أصابع اليد، وضعته امام مخزون هائل من المعرفة الانسانية.

في السعي للمعرفة، جرى الغوص في عوالم كانت تُعد خارج حدود التصور، ورُسمت خارطة لدماغ الانسان، وأستُطلعت أعماق المحيطات، وأرسلت المركبات الفضائية الى أبعد نقطة في نظامنا الشمسي. مع ذلك، ومع كل أكتشاف، أدركنا حقيقة ان اللامعروف يتجاوز كثيرا ما هو معروف.

حدود الفهم الانساني

احدى التحديات الأساسية في السعي نحو المعرفة هي محدودية الفهم الانساني. قدراتنا الإدراكية  محدودة، وطاقتنا على فهم الظواهر المعقدة  مقيّدة بعوامل بايولوجية. مفاهيم في حقول مثل الفيزياء النظرية، وحيث التركيز على  ما هو مجرد ومضاد للحدس، يمكنها ان تكبح وتضيّق حدود الفهم الانساني.

مبدأ اللايقين في المعرفة

في عالم ميكانيكا الكوانتم، نحن نواجه مبدأ هايزنبيرغ في عدم التأكد(1)، الذي يؤكد بان هناك قيدا فطريا متأصلا في قابليتنا على القياس المتزامن لخصائص ازواج معينة للجزيئات، مثل موقعها وزخمها. هذا المبدأ يشير الى فكرة عميقة بان هناك قيودا متأصلة للدقة التي نستطيع بها معرفة سلوك العالم الفيزيائي والتنبؤ به.

نظريات عدم الاكتمال لـ غودل Godel’s incompleteness theorems

في الرياضيات والمنطق، اُدخلت نظريات غودل في اللااكتمال، وهي المفهوم القائل بعدم وجود نظام ذو طابع رسمي  للرياضيات يمكن ان يكون تاما ومنسجما في آن واحد. في الحقيقة، هذه النظريات تقترح بان هناك حقائق رياضية لا يمكن إثباتها ضمن حدود نظام رياضي معين. هذا يثير اسئلة حول حدود المعرفة الرياضية والوجود المحتمل للحقائق الرياضية التي تكمن وراء فهمنا.

تمديد افق المعرفة

بينما هناك حدود متأصلة للفهم الانساني، فان افق المعرفة يستمر في التوسع. اكتشافات جديدة واختراقات في العلوم والتكنلوجيا والفلسفة دفعت حدود ما نعرف الى الامام. ومع تطور وسائلنا ومنهجيتنا، حصلنا على مدخل لعوالم من المعرفة كانت مختفية سابقا. استطلاع حدود المعرفة الانسانية يقودنا الى تخوم مختلف الحقول:

1- علم الكون والأكوان المتعددة:

علماء الكون يتعاملون مع فكرة تعدد الاكوان القائلة بوجود مجموعة كبيرة من الأكوان وراء كوننا. إدراك حقيقة الاكوان المتعددة، ان كانت موجودة، يثير اسئلة عميقة حول طبيعة الواقع وحدود الملاحظة.

2- الوعي والذهن:

ان طبيعة الوعي تبقى واحدة من الأسئلة المبهمة في الفلسفة وعلم الأعصاب. استكشاف حدود الوعي ربما يكشف أبعادا جديدة للفهم الانساني.

3- الذكاء الاصطناعي والمكائن الخارقة الذكاء:

ان تطوير مكائن خارقة الذكاء يطرح اسئلة حول حدود الذكاء الانساني. هل يمكن لهذه المكائن فتح عوالم جديدة للمعرفة تتخطى الفهم الانساني؟

4- الطبيعة الأساسية للواقع:

في الفيزياء، يستمر البحث عن نظرية لكل شيء – اطار موحد يوضح كل القوى الأساسية والجزيئات. مثل هذه النظرية، لو اكتُشفت، ستُحدث ثورة في فهمنا للكون(2).

الجهل بالمجهول

عندما نتأمل بحدود المعرفة الانسانية، نحن نتذكر العبارة الشهيرة لوزير الدفاع الامريكي السابق دونالد رامسفيلد : "هناك اشياء معروفة، نحن نعرف اننا نعرفها. ايضا نحن نعرف ان هناك اشياء لا نعرفها. ولكن هناك ايضا اشياء مجهولة لكننا لا نعرف اننا لا نعرفها". المجهول اللامعروف يمثل افقا شاسعا للمعرفة التي تقع وراء وعينا الحالي.

التواضع في التحقيق

في سعينا للمعرفة، نحن يجب ان نعتنق التواضع. الاعتراف بمحدوديتنا ليس سببا لليأس وانما دعوة لحب الاستطلاع. انه اعتراف بان السعي للمعرفة هو رحلة أبدية، وان ما يكمن وراء فهمنا الحالي هو دعوة للاستطلاع.

هل هناك حد للمعرفة الانسانية؟ الجواب يكمن في مفارقة المعرفة ذاتها. كلما عرفنا اكثر، كلما أدركنا اكثر مقدار ما لا نعرف. وبينما توجد هناك حدود متأصلة في فهمنا، فان الطبيعة غير المقيدة للفضول الانساني تضمن باننا سوف نستمر بدفع حدود المعرفة قدما الى الامام. ما يكمن وراء حدود فهمنا الحالي يبقى لغزا محيرا يغرينا للاستطلاع والاكتشاف والتوسع في حدود المعرفة الانسانية، يذكّرنا بان السعي للمعرفة هو مسعى انساني عميق لا نهاية له.

***

حاتم حميد محسن

.................

الهوامش

(1) مبدأ هايزنبيرج في اللايقين وضعه الفيزيائي الألماني وليم هيزنبيرج عام 1927 يؤكد فيه بعدم امكانية المعرفة الدقيقة للخواص الفيزيائية بشكل متزامن، اي كلما كانت معرفتنا اكثر دقة باحدى الخاصيتين (كموقع الجسيم)، كلما اصبحت معرفتنا بالخاصية الاخرى (زخم الجسيم) قليلة.

(2) كان العلماء يحاولون منذ قرون فهم أصل وبناء الكون. كانوا يعتقدون ان نظرية كبرى موحدة ستكون قادرة على توضيح أي ظاهرة فيزيائية وجميع التفاعلات في الكون. العلماء قدّموا قوانين تنطبق اما على العالم الكوانتمي او على الفيزياء الكلاسيكية، ولكن ليس على الاثنين معا. لقد أجروا عدد هائل من المحاولات لتكوين نظرية موحدة لكن جميع تلك المحاولات قد فشلت، والعديد من العلماء اعتبر ذلك مستحيلا.

 

في المثقف اليوم