أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: مشكلة الأبدية.. ماذا لو كان الكون بلا بداية؟

يُعتبر الفيلسوف اليوناني هيرقليطس أول المؤيدين لأبدية الكون، النظرية التي سلكت طريقها الى الثيولوجيا المسيحية، رغم ان الإنجيل نقل قصة مختلفة. كما في العديد من الافكار اليونانية القديمة، الايمان بعدم وجود بداية للكون اصبح موضوعا شائعا في الفكر الغربي. حتى بعد ان هيمنت المسيحية على الغرب في القرن الرابع الميلادي، استمرت العقيدة بان الكون كان أبديا. السؤال هو كيف وفّق الناس في الغرب بين هذه الفكرة و فكرة " البداية" في سفر التكوين1:1؟

الجواب على هذا السؤال غير واضح تماما. العديد من مفسري الإنجيل أعلنوا ان الله خلق كل شيء في زمن محدد في الماضي (وعادة فقط قبل آلاف السنين). لكن من بين العلماء، الذين كان العديد منهم مؤمنين بالانجيل او انهم تأثروا به، تحولت الرؤية السائدة الى رؤية فيها الكون كان ابديا ولكن دون ان تشمل الارض.

حاليا، العقيدة المهيمنة هي ان الكون فجأة ظهر قبل 13.8 مليار سنة بعد الانفجار العظيم. التحول من الايمان بان الكون كان أبديا الى كون له عمر محدد كان نقلة نوعية. هيرقليطس كان الفيلسوف اليوناني المسؤول الاول عن أصل فكرة الكون الأبدي. هو أعلن عن ذلك صراحة في عباراته التالية:

"هذا العالم، الذي هو ذاته دائما، لم يصنعه أحد من الآلهة او الناس. انه دائما كان، وهو كائن وسوف يكون: نارا حية أبدية، منها ما يشتعل، ومنها ما ينطفيء".

قيل ان أناكسيماندر الذي عاش قبل هيرقليطس بقرن ايضا اعتقد بان الكون أبدي. بالتأكيد لا تُعرف الأسباب التي جعلت اليونانيين القدماء يؤمنون بأبدية الكون. هيرقليطس لم يذكر ذلك، والذين جاؤوا بعده قبلوا بأبدية الكون دون سؤال. يُحتمل هناك سببان لهذا: الاول، ان قدرة آلهة الاغريق القدماء كانت محدودة جدا، هم ليسوا أكثر من رجال خارقين. كانوا غير قادرين على إصدار أوامر الخلق. ثانيا، اليونانيون القدماء ومن خلال دراستهم للكيفية التي يعمل بها العالم من حولهم، لم يستطيعوا رؤية أية إمكانية بان العالم خلق نفسه. اذا لم يوجد هناك منْ خلق الكون، والكون لم يخلق نفسه، عندئذ فان الإمكانية الوحيدة هي ان الكون لم يُخلق ولذلك يجب ان يكون موجودا دائما. المسيحيون آمنوا بقوة بحقيقة انه طبقا لسفر التكوين 1:1-3:2، ان الله خلق كل شيء في البداية، عندئذ تكون فكرة الكون الأبدي قد ماتت في الغرب قبل 15 قرنا.

سؤال أبدية الكون فيما اذا كان العالم له بداية في الزمن ام انه كان موجودا منذ الأزل كان موضع اهتمام الفلاسفة القدماء وثولوجيو القرون الوسطى وفلاسفة القرن الثالث عشر. المشكلة اصبحت اكثر وضوحا في القرن الثالث عشر، عندما اُعيد في الغرب اللاتيني اكتشاف بعض أعمال ارسطو المؤمن بأبدية العالم. هذه الرؤية تعارضت مع رؤية الكنيسة الكاثوليكية بان العالم له بداية في الزمن، ولذلك جرى حظرها بعد صدور القيود على التعاليم الثيولوجية والأرسطية للفترة 1210-1277.

ارسطو

جادل ارسطو في كتابه الفيزياء بان العالم يجب ان يكون وُجد من أبدية، في الكتاب الاول هو جادل بان كل شيء يأتي الى الوجود من خلال طبقة تحتية substratum. لذلك، اذا كانت المادة الاساسية للكون جاءت الى الوجود، فهي جاءت من طبقة تحتية. لكن طبيعة المادة هي بالضبط طبقة تحتية انبثقت منها الاشياء الاخرى. وبالنتيجة، فان المادة الاساسية للكون جاءت الى الوجود فقط من مادة موجودة سلفا تشبه ذاتها بالضبط. ذلك جعل ارسطو يجادل بان المادة يجب ان تكون أبدية.

في الكتاب الثامن، في جداله عن الحركة يؤكد اننا اذا افترضنا بداية مطلقة للحركة، فان الشيء الذي يباشر أول حركة يجب ان يكون اما:

1- جاء الى الوجود وبدأ الحركة، او

2- وُجد بحالة أبدية من السكون قبل ان يبدأ الحركة.

الخيار الاول هو متناقض ذاتيا لأن الشيء لايمكن ان يتحرك قبل ان يأتي الى الوجود، وان عملية المجيء الى الوجود هي ذاتها "حركة"، لذلك فان الحركة الاولى تتطلب حركة قبلها، أي، عملية المجيء الى الوجود. الخيار الثاني ايضا غير مقنع للسببين التاليين:

1- اذا كان العالم بدأ في حالة من السكون، فان ظهور تلك الحالة من السكون سيكون في حد ذاته حركة.

2- اذا كان العالم تغيّر من حالة السكون الى حالة الحركة، فان سبب ذلك التغيير للحركة سيكون هو ذاته حركة.

ولذلك استنتج ارسطو ان الحركة أبدية بالضرورة.

ارسطو جادل ان "الفراغ" الذي هو (مكان لا مادة فيه) مستحيل. لأن الأشياء المادية يمكنها ان تأتي الى الوجود فقط في مكان، أي، تشغل مكانا. لو كان الشيء يأتي من العدم، ذلك يعني ان "المكان الذي يُشغل بما يأتي الى الوجود سيكون سلفا مشغولا بفراغ، بسبب عدم وجود شيء فيه". لكن هذا الفراغ مستحيل، والمادة يجب ان تكون أبدية.(1)

الفيلسوف اليوناني كريتولاس (200-118ق.م) دافع عن عقيدة ارسطو في أبدية العالم. اما الفيلسوف الافلاطوني الجديد بروكلس (412-485 م) طرح 18 برهانا في إثبات أزلية العالم، وذلك في كتابه (حول أبدية العالم)، مستندا على إلوهية الخالق. ابن رشد في كتابه تهافت التهافت دافع عن الابدية ضد الغزالي مناصرا ارسطو. الفيلسوف الايطالي جوردانو برونا (1548-1600) حُكم عليه بالهرطقة من جانب الكنيسة الكاثوليكية ومات حرقا لإعتقاده بالأبدية.

توما الاكويني

اما توما الأكويني فقد جادل ضد الثيولوجيين المحافظين وضد انصار ابن رشد مدّعيا انه لا الأبدية ولا الطبيعة المتناهية للعالم يمكن إثباتها بالجدال المنطقي وحده. هو يرى ان أبدية العالم وخلقه سيكونان متناقضين اذا كان السبب الفعّال يسبق تأثيره في المدة او ان اللاوجود يسبق الوجود في المدة. لكن السبب الفعّال مثل الله ينتج تأثيره فوريا ولايحتاج بالضرورة ان يسبق تأثيره في المدة.

موقف العلم

الكون ربما كان دائما موجودا، ليس له بداية، نظرية علمية جديدة في الجاذبية الكمومية quantum gravity تكشف عن هذا. برونو بونتو Bruno Bento الفيزيائي الذي درس طبيعة الزمن في جامعة ليفربول في المملكة المتحدة، في عمله الجديد، نظرية جديدة في الجاذبية الكمومية سُميت نظرية المجموعة السببية causal set theory يتم فيها تجزئة المكان والزمان الى أجزاء منفصلة من الزمكان. طبقا لهذه النظرية، في مستوى معين، ستكون هناك وحدة أساسية من الزمكان. استعمل بينتو وزملاؤه هذا الاتجاه لإستطلاع بداية الكون حيث وجدوا انه بالإمكان ان لا تكون هناك بداية للكون، وانه دائما وُجد في ماضي لا متناهي ثم تطوّر مؤخرا الى ما سمى الانفجار العظيم Big Bang . هذا العمل ظهر في ورقة نُشرت في 27 سبتمبر 2021 في نشرة قسم العلوم الرياضية في جامعة ليفربول، وفي Imperial college, London . الورقة فحصت "ما اذا كانت هناك بداية في اتجاه المجموعة السببية". ذكر بينتو "انه في الصياغة الاولى للمجموعة السببية والديناميكيات، نمت المجموعة السببية من لا شيء الى الكون الذي نراه اليوم. اما في عملنا هذا، سوف لن يكون هناك انفجار عظيم، لأن المجموعة السببية ستكون لا نهائية في الماضي، وسيكون دائما هناك شيء قبلها".

ينطوي عمل الفريق على ان الكون لم تكن له بداية، اي انه ببساطة موجود دائما. ما يُنظر اليه كانفجار عظيم كان مجرد لحظة معينة في تطور هذه المجموعة السببية الدائمة الوجود، وليس بداية حقيقية. نظرية المجموعة السببية لها انعكاسات هامة على طبيعة الزمن. يقول بينتو "جزء كبير جدا من فلسفة المجموعة السببية هي ان مرور الزمن هو شيء مادي، اي يجب ان لا يُنسب الى نوع من الوهم او الى شيء يحدث داخل ادمغتنا يجعلنا نعتقد ان الزمن يمر، هذا المرور هو ذاته تجسيد للنظرية الفيزيائية".

اتجاه المجموعة السببية يزيل مشكلة اللامألوف singularities في الانفجار العظيم (هذه الغرابة تتمثل بمظاهر عدم الإكتمال في النسبية العامة من حيث فشلها في ابراز نتائج موثوقة في مراكز الثقوب السوداء وفي بداية الكون)، لأنه في هذه النظرية الجديدة لا توجد اية غرابة. وبهذا، وبدون مشكلات الانفجار العظيم يكون بينتو وفريقه التقط الخيط مستطلعا ما تقوله نظرية المجموعة السببية حول اللحظات الاولى للكون.

***

حاتم حميد محسن

...........................

الهوامش

(1) جادل ارسطو "ان الفراغ التام vacuum لا يمكن ان يوجد ابدا، واذا وُجد، فان الاشياء التي تتحرك فيه سوف لن تلاقي اية مقاومة ولهذا سوف تسافر بسرعة لامتناهية". الفراغ التام يعني فضاء فارغ من الذرات او أي جزيئات. لكن لا وجود لشيء من هذا القبيل لأن الجسيمات الافتراضية تأتي وتخرج دائما من الوجود. الفراغ دائما فيه شيء بدلا من اللاشيء. لا وجود لمكان خال من المادة او الطاقة او المجالات او الفضاء الافتراضي. لا وجود "للعدم" في الكون المادي الواقعي لأنه لا مكان في الكون تكون فيه كثافة الطاقة صفر، كل مكان يحتوي على الأقل على طاقة فراغ كمومية quantum vacuum energy. لو فقدت بعض أماكن الفضاء طاقتها الكمومية، فسوف تختفي من الوجود.

 

في المثقف اليوم