أقلام فكرية

عبد الوهاب البراهمي: إرادة المقاومة بين قوّة الإرادة وإرادة القوّة

"لا يتحوّل الأسياد فجأة إلى عبيد في منعطف طريق، إذا ما التقوا فيه بمن كان أقدر منهم" (نيتشه)

"يمكن للشعب أن يألم لكن الألم هو وقود لقلب النظام القائم طالما كان هذا الأخير يهزئ بـ" إرادة الحياة". (أ. ديسيل)

" إذا انضاف إلى "إرادة الحياة" وإلى الإجماع النقدي حول الوضعية التي توجد فيها هذه الإرادة، وإذا انضاف إلى مبررات الصراع وإلى مشروع النظام الجديد (لأنّ " عالما جديدا ممكن")، الاكتشافُ داخل الصراع ذاته إمكانية إنجاز التحرّر، (...) والتغيير (...) الجزئي أو الجذريّ (وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدّث عن ثورة) للنظام السياسيّ القائم، كانت لنا إذن المحدّدات الثلاث لسلطة الشعب، "فرط - الطاقة". " أنريك ديسيل " عشرون أطروحة للسياسيّ".

***

ما من شكّ بأنّ كلّ مقاومة تفترض وجود قوّة قاهرة تمارس إكراها على موضوع ما، أو بتعبير آخر وجود قوّة مسيطرة وموضوع مسيطر عليه، يقاوم هذه القوة المسيطرة. غير أنّ المقاومة بوصفها مواجهة لقوةّ مسيطرة، ليست ممكنة إلاّ من حيث هي بدورها قوّة قادرة على هذه المواجهة. يعني ذلك أنّ المقاومة علاقة قوّة. ولعلّها بهذا المعنى، كما يقول فوكو " علاقة سلطة" أو بالأحرى صراعا من أجل " السلطة": من أجل "السيادة على الذات" بالنسبة إلى الذات المقاومة، ومن أجل السيطرة على الموضوع بالنسبة إلى المهيمن، موضوع المقاومة. إنّ الذات موضوع السيطرة تملك في ذاتها " قوّة ذاتية" تساعدها على " التمرّد" على الذات المهيمنة، أي على " مقاومتها من أجل استعادة ذاتها "موضع الهيمنة". إنّ هذه القوّة الذاتية التي تدفع بالذات إلى مواجهة الآخر" المهيمن" هي ما يمكن أن نسميه " إرادة المقاومة". لكن، ومثلما يبدو فلا معنى للقول بإرادة المقاومة إلاّ بالإقرار بما يمكن أن نسميّه " إرادة السيطرة" بوصفها نقيضا، هو الميل إلى السيطرة على موضوع وسلبه سيادته على ذاته. يبدو إذن أن المقاومة فعل ديناميكي يستمدّ وجوده من مبدأ ذاتي من قوة ذاتية أشبه فيزيائيا بمبدأ " القصور الذاتي"، هي  "إرادة المقاومة". نحن هنا إزاء تفسير "طاقي" للمقاومة بوصفها " طاقة " أو قوّة "فاعلة" بالمعنى النيتشوي أو دافعة أو " دفاعية" بالمعنى الفرويدي. لكنها كقوة هي " فاعلة "ومنفعلة" في ذات الوقت. أو هي فاعلة بموجب "ارتكاسيتها" بالذات، بموجب كونها موضع فعل أو منفعلة، متقبلة لفعل، ومتأثرة به، على نحو يجعل من أثر هذه القوّة المؤثرة دافعا إلى الرفض والتمرّد و" المقاومة". يساعدنا هيجل بنظريته الجدلية، في ما أسماه " جدلية العبد والسيد"، على تمثل المقاومة بهذا المعنى " الجدلي" كونها فعلا وانفعالا في ذات الوقت. ذلك أن العبد، يقاوم " هيمنة السيد" بموجب ما يقوم في ذاته من " ميل إلى رفض الهيمنة " وبموجب ما يلقاه من" استعباد" وما يخلّفه من أثر، يدفعه إلى المواجهة لقوة السيد والدخول في مسار "صراع" معها من أجل استعادة " ذاته المستلبة". فالعبد في نظر هيجل هو " سلبية " تحمل نقيضها، "إيجابية "،هي عبارة عن "قوة " كامنة تجعله يميل إلى رفض " استعباده" وسلبه ذاته. إنّ العبد يقاوم إذن كما يقول فوكو " داخل نظام استعباده " بالذات. تماما كالجسد المستعبد ّ يقاوم استعباده بما يملك من قوّة جسدانية، بقدرته كما يقول فوكو " على التكيف والتطويع وليونته ومرونته...". بيد أن الفرق بين مقاومة العبد للسيد " وما يمكن اعتباره " مقاومة الجسد" هو في كون العبد  "ذاتا" أو وعيا " لذاته" مقابل السيد " وعيا بذاته ولذاته"، أي ذاتا مستعبدة وذاتا حرة، في علاقة " صراع" يحكمه " تناقض" جدلي يدفع إلى " مسار" استعبادي (من جهة السيد)  مقابل مسار تحرّري (من جهة العبد). يمكننا  إذن أن نفهم،  بناء على وجهة النظر الهيجيلية  هنا بأنّ المقاومة صراع وأنها تقوم على تناقض، وأنها كما تقتضي " حركة " أو مسارا أو ميلا إلى السيطرة أو لنقل " إرادة للسيطرة" أو ما يسمّى " إرادة القوّة" لدى ذات تنزع إلى الهيمنة، فإنها تقتضي أيضا حركة ومسارا أو ميلا إلى " التمرّد ورفض " هذه السيطرة، نسميّه هنا "إرادة المقاومة" لدى ذات تنزع إلى " التحرّر" من " وضع " استعبادها". ومن الثابت أيضا أن لا معنى للحديث عن " إرادة للمقاومة " بل حتى "لإرادة للسيطرة " دون وجود " وعي" للذات المقاومة " بوضع استعبادها " أو مسار الهيمنة عليها من ذات " نقيض " أو آخر يتجه إلى سلبها " حريتها"، إلى نفيها " كذات حرة" (من أجل كما يقول هيجل إثبات " حريته " هو). وبالتأكيد فلا معنى للحديث أيضا عن إرادة المقاومة" إلا بوجود " إرادة سيطرة " لذات واعية "برغبتها في " استعباد " الآخر. تجعلنا " المقاومة ":بهذا المعنى إذن، إزاء جدلية " المقاومة والاستعباد"، جدل " التحرر والاستعباد".

لكن هل بالتسليم بالمقاومة أشبه بقوّة كمينة في الكائن البشري (بل في سائر الكائنات) تفسّر صراعه الجدلي مع " قوى استعباده"، ما يفيد بانّ " فعل المقاومة" ضرورة " وجودية وتاريخية؟ كيف إذن نفهم واقع" الخنوع والتبعية وقبول الهيمنة بل والضعف والجبن" لدى الإنسان المستعبد؟ ما الذي يفسّر وجود ما يمكن أن نسمّيه" قابلية الاستعباد"؟3298 ارادة المقاومة

قد يكون من المفيد هنا، لفهم فعل المقاومة في علاقته بالضعف والقوّة أن نعود إلى تحليلات نيشته في كتابه " من وراء الخير والشرّ "، حيث أجاب عن أسئلة أساسيّة، في هذا الباب، صاغها ميشيل هنري في الفصل الثاني من كتابه" فينومينولوجيا الحياة "بما يلي:" "من هم الأقوياء، فيم تتمثّل قوّة الأقوياء؟" و " من هم الضعفاء، فيم يتمثّل الضعف؟"، ما الذي يخوّل للضعفاء التفوّق على الأقوياء، فيم تتمثّل قوّة الضعفاء؟ و، بشكل متلازم: كيف يقهر الضعفاء الأقوياء، ما الذي يخلق ضعف الأقوياء؟". وسنسمح لميشيل هنري أن يقودنا هنا عبر تحليله لوجهة نظر نيشته حول المسألة المطروحة وذلك بغاية البحث عن أساس نظري، فلسفي لفكرة " إرادة المقاومة" لدى "الضعيف" أو "المستضعف". (1)

يقدم ميشيل هنري أجوبة عن الأسئلة المشار إليها  استنادا إلى "نيشته".   فعن السؤال الأوّل أجاب نيتشه وفق ميشيل هنري بأنّ: " الأقوياء أقوياء من حيث هم كذلك (أي أقوياء)، حيث تكون القوّة ماهية الكائن، وهو ما يسمّيه إرادة الاقتدارvolonté de puissance  أو إرادة القوّة."على أن إرادة الاقتدار ليست سوى ماهية الحياة بوصفها محايثة.أوبما ه هي  قوّة: " إنّ إرادة الاقتدار هي بالفعل قوّة. قوّة، هي بأكملها اقتدار وبأكملها قوّة. فـ"الإرادة" التي ترتبط بهذا الاقتدار ليست في الواقع سوى حركته الذاتية، واكتمال ماهيته الخاصّة بواسطتها وهي سنده."(2)

من هنا فإنّ ما يصنع قوة الأقوياء هو قوتهم الذاتية، إرادة الاقتدار بما هي ماهيتهم أو بالأحرى "قوتهم الفعّالة " أي " الحياة " بما تفيضه فيهم ومنهم من قوّة..يقول ميشيل هنري:"، أي قوّة تصنع قوّة الأقوياء، لقد فهمناها: ليست هذه القوّة المعطاة أو تلك، إلى حدّ ما كبيرة، هذا الاقتدار الذي قد يصنع مصيرا، بل الاقتدار الهائل الذي، برفضه كلّ قوّة وكل قدرة في ذاتها، يخوّل لها أن تنمو بذاتها وبالتالي أن تفيض."وعن السؤال عن ضعف الضعفاء يجيب نيشته على لسان هنري بأنّ ضعف الضعفاء لا ينفي وجود القوّة بل يعني أن " القوة " لديها " ارتكاسية" تتقبل قوّة الأقوياء التي هي قوّة " فعالة". يقول ميشل هنري:" فيم يتمثّل ضعف الضعفاء، هذا هو على العكس، ما يمثّل مشكلا: إذ لو كانت إرادة القوّة (الاقتدار) هي ماهية الكائن، ولو كان كلّ ما يوجد ليس كذلك إلاّ بهذا الاقتدار الذي يفيض بذاته، فلن نرى إذن كيف لشيء ما مثل الضعف عامّة أن يظلّ ممكنا. إنّ تفسيرا خارجيا يعني: كل شيء قوّة بلا شكّ، ولكن توجد كميات من هذه القوّة، حينما توجد إحداها في حضور أخرى أكبر، تكون أضعف منها، وتنبثق عن الاختلاف الكمّي للقوى اختلافها الكيفي، الضعف والقوّة - التي لا تصف إلاّ الأقوى. نعبّر أيضا عن هذا التفريق الكيفي بالقول بأنّ القوّة الأضعف التي تتقبّل فعل القوّة الأقوى  تصبح " ارتكاسية" réactive، طالما كان فعلها محدّدا من هذا الفعل الأقوى الذي لا تكفّ عن تقبّله، بينما تظلّ القوّة الأقوى لوحدها  "فعّالة" active واقعيّا، بدقّة وبصفة شاملة".(3) يعني هذا ضعف الضعفاء قوّة " ارتكاسية"، تتقبّل قوة الأقوى، وأنّ الضعيف " قويّ "بدرجة أقلّ قوّة من القويّ بما هو أقوى منه كميا (في درجة القوة) وكيفيا (قوة فعالة). يعني هذا إذن أنّ الضعف لا "يفهم  انطلاقا من تحديد خارجي بل من إمكانيته الداخلية"، بوصفها قوة أقل قوة وقوة إرتكاسية. أي إن ما يختص به الضعف في النهاية هو " قطيعة محايثة الحياة "أو للحياة كمحايثة. وهو ما يعني أنّ الضعف هو "إرادة هدم الذات لذاتها"،يقول ميشيل هنري: " إنّ إرادة الحياة أن لا نكون ذواتنا، وإرادة هدم الذات للذات هو الضعف ذاته  من حيث أنّ هذه الإرادة تصطدم مبدئيا بقوّة أقوى منها، بأكبر قوّة، بقوّة الحياة. كيف أنّ ضعف إرادة أن لا نكون ذواتنا، في العلاقة  الداخلية للحياة بذاتها يتعارض مع قوّة هذه الذات ويمثّل إذن ماهية الضعف، ماهيةَ " غير المرحّب بهم" و"غير الموفّقين"، وهو ما يقوله هذا النصّ:" كيف نتجنّب هذه النظرة المكبوتة للإنسان غير الموفّق منذ البداية، والتي تخون الطريقة التي يكلّم بها مثل هذا الإنسان نفسه- هذه النظرة بكونها تحسّرا:" هل يمكنني أن أكون إنسانا آخر، أتحسّر على هذه النظرة، لكن لا يوجد أمل! أنا من أنا: "كيف يمكنني التخلّص من نفسي؟ مع أني قد ضقت ذرعا بنفسي!  "تلك هي ماهية الضعف". إنّ الضعف هنا أشبه بسوء الفهم  وضعف اليأس عند كريكجارد. إنه "يأس" الإنسان من ذاته وفشل مشروع تدميره لذاته، إرادة هدمه لذاته، بدل قبولها بما هي " إرادة قوةّ "، أي قبول " الحياة "  والإقبال عليها كمحايثة. يقترن هذا الضعف بخجل من الذات واحتقارها. يقول نيتشه:" :" ينمو على أرض احتقار الذات هذه، كمستنقع حقيقي، كل عشب طفيليّ، وكل نبتة سامّة..." (4).

لكن إذا كان الضعف مرّده إمكانية داخلية فهل بعني ذلك استحالة انتصار الضعيف على القويّ؟ كيف يمكن للضعيف أن يتجاوز ضعفه؟

يسلّم نيتشه بإمكانية غلبة الضعفاء على الأقوياء. ويجيب عن سؤال كيف للضعفاء أن يتغلبوا على قوة الأقوياء؟ بأنّه". إذا أمكن للضعف  التغلّب على أكبر قوّة، فذاك لأنّه يحملها في ذاته وهذا طالما أنه موجود وأن يكون مثلَ  أكبر إشارة للضعف،  يشترك مع نفسه في الاقتدار الهائل للحياة: لم تكفّ إرادة تخليص الذات من الحياة، للحظة عن الانتماء إلى الحياة ولا عن  تحمل في ذاتها ماهيتها." وهذا يعني أنّ للضعف قوة كمينة فيه: قوّة التخلص من الحياة وكرهها وعدم الالتزام بتحمّل ذاتها، أي إرادة الاقتدار فيها، خلافا للقويّ. لكن الضعيف يقدر على التغلّب على القويّ لا " بإرادة السيطرة" لأنه يفتقدها، بل " قيميا ّ" بخلق قيم أو مثل عليا تحوّل ضعفه إلى قوّة. يقترح نيشته مثال " القس الزاهد " " الضعيف" ولكنه" الأقوى من الأقوياء". قدّم ميشيل هنري تحليلا مميزا في كتابه "فينومينولوجيا الحياة " لمثال " القس الزاهد" كما قدّمه نيشته، فيقول: " يمسك القس الزاهد في نفسه بالواحدة والأخرى (بالضعف والقوة)، مانحا رؤية ارتباطهما الداخلي. فالقس الزاهد ضعيف، وذلك لأنّه إنسان الوعي البائس، أي إنسان الحياة وقد انقلبت على نفسها. يتميّز عن ضعفاء آخرين  من حيث أنّ (القسّ) هو المُعْتَنِي بمرضهم garde- malade، وبما يملكونه أيضا، ذلك أنّه من المهمّ، لتجنّب عدوى هذا المرض الخطير للحياة، أن يكون الذين هم في صلة بالمرضى، خاصّة مقدمي الرعاية، هم أيضا مرضى. بيد آن القسّ الزاهد قويّ، وأقوى ربّما من الأقوياء: لكن يجب عليه أيضا أن يكون قويّا، سيد نفسه أكثر من الآخرين، سليما فيما يخصّ إرادة القوّة (الاقتدار) لديه. " (5) ذلك أن هذه المَهَّمَة  مدمّرة، وعليه في الآن نفسه، الدفاع عن القطيع ضدّ الأقوياء وضد نفسه. ضدّ الأقوياء، باختراع عبقري لمثل أعلى زهدي يشرّع العداوة، بقلب القيم، وبصنعه أشكالا مختلفة من الضعف، يضمن الخير ومختلف أشكال القوّة، والشرّ، ويضمن بعملية قلب القيم، تملّك وهيمنة الضعفاء على الأقوياء. ضدّ القطيع نفسه: بعد الدفاع عن الضعفاء ضد الأقوياء بتنظيم العداوة، يجب منع أن لا يحطّم انفلات هذا العداوة  بدوره القطيع، ولأجل هذا، توجيه هذا العداوة، وقيادتها والتخفيف منها، وهو ما يفعله هذا السّاحر الكبير: يسمّم و يضمّد الجرح في آن واحد. (6)

إنّ " مثال القس الزاهد" لدى نيشته يسمح لنا  الإقرار مبدئيا بأنّ الضعف يحمل في ذاته " قوّة" وانه بإمكانه التحوّل إلى منتصر حينما يستمدّ الكائن من ضعفه أسباب قوّته  ليكافح من أجل البقاء، وذلك على أساس التمسك " بمثل أعلى زهدي"، مبدأ يتعلق ّ بإرادة البقاء، بالحياة التي تدافع عن وجودها. يقول ميشيل هنري:  "يجد المثل الأعلى الزهدي منبعه في غريزة الدفاع وخلاصَ حياةٍ في طريق الانحلال، حياة تبحث عن البقاء بكلّ الوسائل وتكافح من أجل وجودها؛ إنّه (مثل أعلى) يشير إلى كبح وإرهاق فيزيولوجي جزئي، لا تكفّ قبالته، غرائز الحياة الأكثر عمقا والتي ظلت على حالها عن محاربته باختراع وسائل جديدة".(7). مذاك، ينكشف هذا المثل الأعلى الزهدي نقيضا لما نتخذه أولا: ليست حياة مواجهة للحياة، ضدّ نفسها، بل الجهد المثير للشفقة لهذه الحياة المتلاشية من أجل البقاء:" يشكّل هذا القس الزاهد، هذا العدوّ الظاهر للحياة...، هو بالتحديد، جزءا من قوى كبيرة جدّا  محافظة وتثبيتيّة للحياة"(8). ثمّ أيضا:" فيه وبه تصارع الحياة الموت." ما هو هذا الموت الذي تصارعه الحياة بشغف، يقال هذا أيضا: ليس الموت تحديدا، بل السّقم المميت، المرض الميتافيزيقي للحياة:" إنّ صراع الإنسان مع الموت (وبشكل أدق: مع فقدان طعم الحياة، مع الإرهاق، مع الرغبة في " النهاية. كيف إذن للقوّة الأكبر  أن تنتشر في صلب الحياة وهي بصدد الانحلال لتنقذها،هذا ما فهمناه: من حيث أنّ هذه الحياة تأتي إلى ذاتها في عظم اقتدار محايثتها."(9)

إنّ قيمة التصوّر النيشتوي انطلاقا من تحليل ميشيل هنري لعلاقة "الضعف بالقوّة" قد تقوم في القول بتلازمها أي بكونهما ليسا نقيضين منفصلين لكائنين متقابلين، بل على أنه  تكمن في الضعف قوّة كما في القوة ضعفا. وهذا يعني إمكان " التحوّل" والتغيير أو " الصيرورة" ضمن مسار " الحياة" أو التاريخ. مما يعني أن ضعف الضعيف ليس قدَرًا أو حتمية وبالمثل  تكون قوة القوي، أو بالأحرى أن الحرية، حرية الأقوى ليست نهائية كما أن " استعباد" الضعيف ليس كذلك. بإمكان الضعيف أن يتجاوز ضعفه لو تعلّق " بالحياة" وقاوم " السقم المميت" كما يقول نيشته " المرض الميتافيزيقي للحياة "، مقاومة الحياة، أو بالأحرى " الصراع مع الموت: مع فقدان طعم الحياة، مع الإرهاق ومع الرغبة في النهاية " أو اليأس، أي شحذ " الإرادة" أو بناءها. ولعلّ " مثال القسّ الزاهد" لدى نيشته من حيث انه يعبّر عن هذه الإمكانية، هو  مثال "مميز" يسمح بتأسيس نظري لفكرة " إرادة المقاومة". من حيث أن هذا القسّ الزاهد" هو في الآن نفسه ضعيف وقويّ بل أقوى من القويّ.هو ضعيف باعتباره  يكبح الحياة وغرائزها وهو قويّ لأنه بتعلقه بمثل أعلى زهدي يستمدّ منه قوة " مقاومة القويّ " ليصبح بذلك قويّا. يقدر على رعاية نفسه ورعاية الضعفاء وجعلهم " أقوياء". إن مثال " القس الزاهد" لدى نيتشه  يكشف لنا ارتباط المقاومة للضعف وللقوّة بمثل أعلى أي بمبدأ أو قيمة تقوم عليه وتنبني ما أسميناه هنا " إرادة المقاومة".وهو ما يعني أوّلا أنّ " إرادة المقاومة" ليست معطى بل هي تبنى إن صح التعبير أو تتكوّن نتيجة لوضع " وجودي" (علاقة قوّة بين ضعفاء وأقوياء) وربما أيضا للارتقاء برهان " التجاوز والتحرّر من " الانفعال إلى " المواجهة". إنّ إرادة المقاومة هي إرادة التحرر من ربقة " الاستعباد". وهي بهذا مبدأ لمسار تغيير لوضعية للذات من وضع إلى آخر، من  "وضع الاستعباد" إلى " وضع التحرّر". من هنا يمكن أن نقول أنّ " إرادة المقاومة" هي قوّة الإرادة وليست " إرادة القوّة "بالمعنى النيتشوي.مبدأ " إيتيقي" يقوم مقابل حالة أو وضع للذات يمكن أن نسميه" قابلية الاستعباد" ؛ وذلك تعبيرا عن  أنّ " إرادة المقاومة" تقتضي " إيتيقيا" تجاوز ما في الذات من " قابلية للاستعباد" أي " الاستعداد الكمين في الذات الذي يجعلها تميل إلى قبول الاستعباد.(قبول حالة الضعف) ونعني بذلك انقيادها إلى الخنوع والاستسلام نتيجة لميل طبيعيّ إلى " الكسل والجبن".  يطابق ما أسميناه " قابلية الاستعباد" ما أسماه كانط في فلسفته التنويرية "بحالة القصور" الشبيهة بحالة " الأنعام في الزريبة" وتتطابق " إرادة المقاومة " بحالة  الرشد" التي تكون فيها الذات قادرة على مقاومة الجبن والكسل والجهل والتبعية للآخرين، بـ"استعمالها الذاتي أو الخاص للعقل " أي بتفكيرها الخاص دون وصاية من الآخرين.  بيد أنّ " حالة الرشد"عند كانط إذ توافق " حالة تنوير"، أو بالأحرى " حالة تحرّر" ليست ممكنة إلا بشرط جوهريّ " مبدأ الإرادة" بوصفه مبدأ عقليا وأساسا لحرية الفعل.فالإرادة " خيرة، طيبة " وهي مبدأ لفعل الخير في مجال الأخلاق. وتوافق في دلالتها " القصد" أو "النية" الخيرة التي تشرط الفعل الخيّر. ومن نافلة القول هنا التذكير بأنّ كانط عقلانيّ النزعة يسلم بالإنسان كائن وعي وكائن إرادة. وهو ما يعني أنّ إرادة الفعل، أو بالأحرى " إرادة المقاومة"، بوصفها إرادة " تحرّر"تقترن بالوعي ضرورة. فلا يمكن لذات لا تعي بوضع " استعبادها " أن تطلب التحرّر منه أو تجهد في مقاومته.

ولكن إذا أمكن هنا  التأسيس نظريا (فلسفيا) لفكرة "إرادة المقاومة"، فما هي حدودها على صعيد الممارسة؟ ما هي تجليات " إرادة المقاومة "على صعيد التاريخ؟  ما الذي يولّد "إرادة المقاومة" لدى الأفراد والشعوب؟3299 ارادة المقاومةنتبيّن ممّا سبق أنّ " إرادة المقاومة" بوصفها نزوعا نحو التحرّر، تقابل مبدئيا " إرادة القوّة"، في معنى " إرادة السيطرة" أو النزوع إلى السيطرة. غير أنها تقتضي " قوة الإرادة" ولم لا " إرادة القوة " لا بوصفها نزوعا إلى السيطرة بل رغبة في التحرّر منها. يقوم الاختلاف بين " إرادة القوة " و" إرادة المقاومة" على أساس القصدية أو التوجّه أو الغائية: "إرادة القوة " تطلب الاستعباد والسيطرة والهيمنة والتسلط بينما تطلب "إرادة المقاومة" التحرّر والسلم والتواصل... يفترض هذا أنّ الإرادة لا تعني جبنا " بل " فعالية" ودينامنيكية. وبالفعل، فإنّ الإرادة هي في الأصل " قوّة محرّكة للإنسان" وإذا كان ثمة من اختار الضعف أو " العبودية" فلا يعود ذلك إلاّ لرفضه حسب نيتشه " الحياة" بما هي " إرادة القوّة" أو بالأحرى رفض" المقاومة". وهو ما يعني أنّ الأصل في الحياة أنها قوّة، ومحايثة، وأن الضعف والاستكانة رفض " الذات" " الاحتجاج"، تماما كالحملان (في صورة مجازية لنيتشه) التي ترضى أن يحطّ عليها الجوارح  لتضمن سلامتها رغم أنّها قد تلتهمها. لهذا فإنّ "إرادة المقاومة" رفض للضعف ورغبة في المواجهة. وهي بهذا المعنى تكشف عن " رؤية للعالم": تعلق الذات بعالم الحرية والعدالة ورفض الظلم والاستعباد.، في مواجهة لرؤية نقيض للعالم. إنّ "إرادة المقاومة" إذن ليست معطى بل تبنى وتتكوّن. إنّ " الإرادة" فنّ" كما يقول آلان نصقلها وندرّبها ونبنيها لدى " الطفل المتعلّم" كما لدى الراشد بل لدى الشعوب.

يقول جان بيار ديشود Jean-Pierre Deschodt :" لو تناولنا " الاقتدار puissance " بدلالته المعاصرة، فيمكن لنا أن نفهمه بما هو " البحث في كلّ شيء عن فائض قوّة هدفه التوسّع. وهذا المعنى ذي أصول " شوبنهاورية". فـ"إرادة القوّة" أو بالأحرى "إرادة الاقتدار " تعني إرادة "متعطّشة " إلى القوّة. ولذا فمقابل "هذا التعطّش " تطلب "المقاومة " وبالتالي " إرادة المقاومة" قوّة  لاحتواء أفضل لهذه الحركة التي تهدّد استقلاليتها. فليس لها من خيار سوى تنظيم دفاع فكري، واقتصادي وسياسي، على قدر حيويّتها وقوتها الذاتية" (10).  بهذا المعنى، فإنّ " إرادة القوة أو " إرادة الاقتدار" غير " إرادة المقاومة "، بل هما متقابلين، تقابلا يقوم على أساس أنّ "إرادة المقاومة " تفترض " قوّة الإرادة" لا " إرادة القوّة". وهذا التناقض مبدئيّ تقوم على أساسه " الحرب والسلم بين الشعوب". استخدم كارل شميث  زوجا مفهوميا موازيا للزوج " إرادة القوّة " و " إرادة المقاومة"، وهو الزوج " الصديق /العدوّ" الذي تفسّر فعاليته التوتّر بين الشعوب والذي يولّد النزاعات التي تساهم في التقسيم الترابي. وقد أعاد بيار حسّان وبيار زاركا p. Zarka  النظر في مفهوم الصديق/ العدو باستنباط زوج مفهوميّ آخر:"نحن والآخرون" (بيار حسان) والزوج " حرية استعباد" (بيار زاركا). وهو ما يعني أنّ "إرادة المقاومة" مواجهة "لإرادة القوّة"، أو بالأحرى مواجهة لما يفترض أنه " عدوّ" وهي، أي إرادة المقاومة في المقابل تطلب " الصداقة" أو هي " تطلب الحريّة" في مواجهة من يريد " استعبادها " بالقوّة. وهذا هو المعنى الذي قام عليه تصوّر " المقاومة" بوصفها " حقّا" من حقوق الإنسان في معنى " التشريع لمواجهة الأفراد لاستغلال النفوذ".(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1789). غير أنّ هذا الحقّ في المقاومة  يستعمل في سياقات خاصّة، في حال احتلال خارجي للأرض، في حال الاستعمار مثلا. وقد ارتبط هذا الحقّ تاريخيا بما سمّي " بحركات التحرّر" من ربقة الاستعمار، ولا يزال قائما كحقّ بالنسبة إلى " الشعوب التي وقع احتلال أراضيها، أي التي اعتدت عليها قوة خارجية شان ما كان وما يزال لفلسطين المحتلّة. يتعلّق الأمر في هذا الباب " بمقاومة جماعية" وبالتالي بإرادة جماعية للمقاومة. وهو شكل مقاومة مشروعة على صعيد "الحق" وإن كانت تعدّ لدى " المحتلّ" وداعميه ضربا من" الإرهاب".وبالفعل، فإنّ مفهوم "المقاومة " بات اليوم ملتبسا، التباسا ناتج عن، دلالته الأصلية كما أسلفنا، بل عن اقترانه بالتوترات والنزاعات بين الشعوب والجماعات، وعن توظيف سياسي وإيديولوجي لمفهوم "الحق" والعنف...وتجدر الإشارة هنا إلى أن مفاهيم " حقّ المقاومة" و" إرادة المقاومة" تحيلنا مبدئيا إلى سجلّ " أخلاقي" وتستند إلى " مشروعية أخلاقية". ذلك أنّها تستند إلى إيتيقا خاصة، وتستمدّ مشروعيتها من أساس قيمي كوني:  التسليم بأفق إيتيقي كوني هو " الإنساني". منه نستمدّ حقّ الفرد والجماعة في " المقاومة"، مقاومة كل ما يسلبها إنسانيتها. إنّ المقاومة بهذا المعنى هي حركة أو عمل فردي وجماعي يسعى إلى استرداد ألإنسانية المسلوبة، إلى التحرّر ورفض الاستعباد. ذلك أن المقاومة هي رفض وتمرّد بل " وثورة" تستند إلى مبدإ إرادوي وتنشأ عن طواعية، بفعل تجميع القوى والدخول بالتالي في "فعل المقاومة". تستند كل مقاومة بوصفها مسارا " ثوريا" بمعنى " رفضا " إلى " أساس قيمي "، وتتعلّق كما قال نيتشه في شأن " مثال القس الزاهد" (المقاوم ضعفه وضعف الآخرين وبالتالي قوّة " الأسياد") إلى "مثل أعلى". يقول بول ريكور في صدد الثورة وعلاقتها بالقيم:

" ماذا يعني أن نثور؟ هو أن نقول لا، بالتأكيد: لا، لن أتسامح، لم أعد أحتمل أكثر. لكن العبد الذي يثور على السيّد لا ينفيه فحسب، بل يثبت أيضا أنّ له الحقّ؛ تماما كما يقول ذلك "كامي"، دون إدراك كل الاستتباعات الميتافيزيقية:" يوجد في كلّ ثورة، وفي ذات الوقت مع النفور من الدخيل، التحام الإنسان الكامل و الحيني بجزء ما من نفسه" ويضيف:" لا تؤدّي كل قيمة إلى الثورة، ولكن كل تحرّك ثوري يستدعي ضمنيا قيمة". الالتحام والتمسّك، كلمات إيجابية بامتياز. ألا نقول بأنّ موضوع الالتحام، هو بالتحديد ما لا يوجد، بما أن هذا الجزء من الذات الذي يرفعه العبد تجاه السيّد ليس له بالمرّة مكانا في هذا العالم؟ هذا الجزء لا مكان له ضمن المعطى، في الكائن - هكذا، لكن الالتحام الذي يحرّض على الثورة هو شهادة لـ"أنا موجود" من وراء الكائن المعطى، " أنا موجود" مساوٍ بالضبط لـ " أنا أستحقّ" je vaux". يتجّه الالتحام صوب الوجود - القيمة l'existence -valeur، نحو الكرامة، التي ليست افتقارا إلى العالم فحسب، بل جهدا من أجل الوجود؛ فالرغبة في أن " يوجد الآخر" مختزلة ببساطة في " هذا للفعل" ؛ إذن " فـ "مشروع الفعل"le à faire الذي للقيمة والـ" لْيَكُنْ" qu'il soit الذي لوجود الآخرين هما تماما في تبادل.

يبدو لي عندئذ بأنّه لا يمكن لنا أن نأخذ القيمة بما هي مجرّد نقصان، إذا ما كانت الموقف الفاعل لوجود الآخرين بوصفه في تبادل مع موقفي. بالقيمة أتجاوز ذاتي كآخرين. أقبل أن يوجدوا، بغية أن أوجد أنا أيضا، بأن أوجد لا فحسب بوصفي إرادة - حياة vouloir -vivre، بل بوصفي وجودا - قيمة existence - valeur. لن أقول إذن بأنّ القيمة هي نقصان، نقصان للقيمة، افتقار للقيمة. إنّما الأشياء هي التي لا قيمة لها وليست القيم هي التي وجودها ناقص." 11)

المقاومة "ثورة" إذن. وما من مقاومة إذن دون إرادة مقاومة. وما من مقاومة دون " إلتزام" في معنى " اضطلاع بمسؤولية " التحرّر" والدخول في مواجهة صاحب " إرادة السيطرة" أو " القوّة". غير أن المقاومة تاريخيا كحركة أو بالأحرى كمسار تحرّري لا تنشأ إلاّ بعد تحقّق " الوعي " بالحاجة إلى " المقاومة"، وعيا لا ينشأ دفعة واحدة وبشكل فجائي، بل يقتضي مسار تكوّن يرتقي في الانفعال والشعور بالضيم والألم إلى مستوى " الرهان" كما يقول بول ريكور، فيكوّن لدى الفرد أو الجماعة " الحاجة إلى " المواجهة. حينما يبلغ الوضع، وما ينتج عنه من ألم حدّ " لا يطاق" أو حتى " تكتمل الوضعية"،فتصبح " المقاومة قرارا" كما يقول سارتر في "الوجود والعدم":

" يحدث للإنسان، طالما كان في خضمّ الوضعية التاريخية، أن لا يدرك عيوب ونقائص تنظيم سياسي أو اقتصاديّ معيّن، لا لكونه كما نقول بغباء قد " اعتاد الأمر"، بل لأنّه يفهم الوضعية مكتمَلة، وأنه لا يقدر حتى على تخيل إمكان أن تكون على خلاف ما هي عليه. ذلك أنه لابدّ هنا من قلب الرأي السائد والاتفاق على أنّ ديمومة وضعية أو ما تفرضه من معاناة، هو الدافع لتصوّرنا وضعا آخر تجري فيه الأمور على نحو أفضل بالنسبة إلى الجميع؛ بل على العكس، إنّه بدءا من اليوم الذي نقدر فيه على تصوّر وضعا آخر، يقع نور جديد على معاناتنا وعلى آلامنا ونتخذ القرار بكونها غير محتملة. إن عامل 1830 بإمكانه الثورة لو خفضنا الأجور، إذ يتصوّر ييسر وضعية يكون فيها مستوى معيشته البائس أقلّ تدهورا من المستوى الذي يراد فرضه عليه. غير انه لا يتمثّل معاناته بوصفها غير محتملة، لو تكيّف معها، لا خضوعا، بل لأنّه تنقصه الثقافة والوعي الضروريين اللذان يجعلانه يتصوّر وضعية اجتماعية ستختفي فيها معاناته ". (12)

يعني هذا أنّه في غياب الوعي بالحاجة إلى المقاومة لن توجد مقاومة ولا " إرادة للمقاومة". ولا ينشأ هذا الوعي إلاّ حينما تضحى وضعية العيش غير محتملة ولابد من تغييرها إلى وضعية أفضل. وفي هذا الباب، فإنّ وضعية الاحتلال والاستعمار...وضعية محفّزة على " المقاومة" وشرطا لنشأة " وعي" بضرورتها وتولّد "إرادة للمقاومة" لدى الجماعة التي تخضع للاحتلال. ذلك أن وضعية الاحتلال بوصفها " وضعية غير محتملة" (لكونها وضعية لا إنسانية..) تولّد نزاعا بين قوى أو علاقة قوّة بين "إرادة مسيطرة " (إٍرادة قوّة) وبين " إرادة مقاومة" (إرادة تحرّر، قوّة إرادة). لذا غالبا ما يجابه الاحتلال "بقرار المقاومة" الجماعي من أجل التحرّر أو" الاستقلالية " أي استعادة السيادة على " الأرض" والوطن. ويقدّم الاحتلال الصهيوني  صورة واضحة لا لبس فيها على "إرادة السيطرة" على " الأرض" وإرادة استعباد شعب وهو ما يولّد لدى " الفلسطينيين" إرادة مقاومة، تتمثّل في تجميع القوى للدخول في مواجهة للاحتلال الصهيوني الغاصب. وهو ما يفسّر بوضوح أيضا تنامي " القمع" لهذه المقاومة بكلّ الأشكال الوحشية ممّا يجعل المواجهة أو النزاع  على أشدّه بين " إرادة" تقاوم وتصرّ على "المقاومة " وبين إرادة مسيطرة تصرّ على الهيمنة، وعلى إنكار حقّ المقاومة بالنسبة لهذا " الشعب المقاوم". من هنا يسعى المهيمن أو بالأحرى الغاصب للحقّ إلى " سلب إرادة المقاومة" لا بمزيد القمع وحتى الإبادة فحسب بل بطمس ثقافة وتراث وتاريخ أو ذاكرة المقاوِم بل والجهد في تدمير " النواة الإيتيقية" التي تقوم عليها إرادة المقاومة" لديه والتي يستمدّ منها المقاوم" طاقته أو قوّته" في المقاومة. ونعني هنا قيمه ومثله العليا ورصيده الروحي وتاريخه الخ... يجهد المحتلّ غالبا في خلق " حالة نسيان " جماعي بطمس الذاكرة القومية حتى يفقد الشعب المحتلّ أرضه " بوصلته" أي محدّدات وجوده وهويته وخصوصيته وأصالته. حينها تموت لديه إرادة المقاومة ويستسلم للاستعباد. وتتولدّ لديه ما يمكن أن نسميّه قابلية " الاستعباد". يقول ميلان كونديرا:"  للقضاء على شعب، نبدأ بسلب ذاكرته. ونحطّم كتبه وثقافته وتاريخه. ثمّ يعمد آخرون إلى تأليف كتب أخرى، ويمنحونهم ثقافة أخرى ويبتكرون لهم تاريخا آخر. ثمّ يبدأ الشعب في نسيان بطيء لما كان عليه. وينساه كل العالم حوله بأكثر سرعة." (13).

إنّ المقاومة بهذا المعنى تعني تمسك بالوجود والاضطلاع بمسؤولية تحقيق معنى لهذا الوجود. و"إرادة المقاومة" هي إرادة الشعب في امتلاك حريته بوصفه بشرا كامل الإنسانية وجديرا بالحقّ. وأيّ كانت أشكال المقاومة (سلمية ومسلحة الخ...) وأي كانت دوافعها  (ذاتية أو موضوعية...)، فإنها تظلّ تأصيلا للوجود وإثباتا للذات في أفق قيمي: منزلة الإنسان الحرّ. إنّ إرادة المقاومة هي إذن التوسّل بالقوّة لا من أجل السيطرة على الآخرين بل من " التحرّر" وامتلاك السيادة على الذات. إنّ إرادة المقاومة هي " قوّة الإرادة" التي تأبى الاستعباد بكلّ أشكاله.

***

عبد الوهاب البراهمي

......................

هوامش:

1- ميشيل هنري -الفصل الثاني من كتابه" فينومينولوجيا الحياة ""نحن الشرفاء، الخيرون، الجملاء، السعداء ": انظر نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الأولى:" الخيرون والأشرار"،، الحسن والسيء"، 10، ترجمة هيلدانبرنت و ج. قراتيان  في الأعمال الكاملة، باريس  قاليمار  7، 1971 ص.234

2- نفس المصدر

3 - نفس المصدر

4 - نفس المصدر

5 - نفس المصدر

6 - نفس المصدر

7 - نفس المصدر

8 - نفس المصدر

9 - نفس المصدر

10-

11- بول ريكور " الحقيقة والتاريخ" ص 396 دار سيراس للنشر1995

12- جون بول سارتر " الوجود والعدم".(1943) الفصل 4 ص 489 " والوجود والفعل:الحرية " قاليمار

13- ميلان كونديرا " مقابلة مع كونديرا 1980- نشر " موقع حكمة " 2020

في المثقف اليوم