أقلام فكرية

عدنان عويّد: الفكرة المطلقة عند هيجل

قد يكون من الصعب أن تجد فيلسوفاً شغل فكره تاريخ عصره ولم يزل يشغل الكثير من المساحة الفكريّة لتاريخ الفكر الحديث والمعاصر أيضاً، كهيجل. فهيجل يختلف عن كلّ الفلاسفة الذين سبقوه. فهو لم يكن مجرد جزءٍ من مرحلةٍ، أو تابعٍ لعصرٍ من العصور، إذ يمكن القول بصراحة أنه فيلسوفٌ يشكّل بذاته مرحلةً تاريخيّةً هامّةً في تاريخ الأفكار.

الفكرة المطلقة عند هيجل:

إن من يتابع معنى أو دلالات الفكرة المطلقة عند هيجل، سيجد غموضاً وصعوبةً في الوصول إلى الدلالة الحقيقيّة أو الجوهريّة لهذه الفكرة، وهذا يعود بنظري إلى عمق تفكير وصياغة هيجل لأفكاره، التي جاء الكثير منها على درجة عالية من التجريد والغموض من جهة، ثم للخلط المنهجي الذي ينوس بين الماديّ والمثاليّ في فكره من جهة ثانيّة، ففي الوقت الذي نرى البعد الماديّ في تفكيره، وخاصة في جدله القائم على الحركة والتبدل في الفكرة والواقع معاً، نرى الفهم المثاليّ واضحا في مواقف فكريّة عدذة له، كموقفه من الدين، والدولة والفن. مع تأكيدنا بأن فكر هيجل قد أثرت فيه طبيعة المرحلة التاريخيّة التي كانت تعيشها ألمانيا المجزأة والمتخلفة بشكل خاص بسبب سيطرة الكنيسة، وسلطة النبلاء والملك، إضافة لتأثير أفكار الثورة الفرنسيّة، ومفهوم الدولة، ووجود نابليون في عصره وتأثيره على تفكيره وأعماله، الأمر الذي جعل فكره يتجلى بتيارين أساسين، الأول التيار الماديّ الجدليّ وخاصة فكرة الجدل التي شكلت أهم منطلقاته الفكريّة. والجدل عند هيجل « هو الميل المستمر الذي نتجاوز بواسطته التحديد، وأحاديّة الجانب لصفات الفهم، بحيث توضع في وضعها الصحيح، أي يتضح ما فيها من سلبٍ لأنّ الشيء المتناهي يطمس معالم نفسه، ويضع نفسه جانباً). (1). وهذا ما جعله يقول: (التحديد يعني الثبات). هذا وقد مثل هذا التيار الفكري العقلاني النقدي بعض من الفلاسفة المعاصرين له أو الذين جاؤوا بعد وقاته، ما سمي  باليسار الهيجلي، كماركس وانجلز وفيورباخ وشتنر وغيرهم. أما التيار الثاني، فمثله الهيجليون التقليديون أو «اليمينيون» الذين ساروا على الأسلوب الذي اتبعه هيجل في سنواته الأخيرة، ووفَّقوا بين آرائه الدينيّة والمسيحية البروتستانتية، وقَبِلوا وجهة النظر الإيجابية عمومًا عن دولة بروسيا التي عبَّر عنها هيجل في كتابه «فلسفة الحق». علماً أنه لم يتمخَّض عن هذه المدرسة الهيجليّة المحافظة أي مفكرين كبار،..(2). فنقد هيجل للمسيحيّة لم يصل إطلاقاً إلى النقطة التي وصلت إليها فلسفة الإلحاد الماديّة، وعلى العكس تماماً فإنّ جوهر تفكيره هنا وفي الكتابات اللاحقة يبدو دينيّاً خالصاً، فدعواه تنصبّ على ردّ الدين وتحريره من العبوديّة ليجعل منه ديناً للحريّة والحياة التي تخلو من مظاهر التمزق والاغتراب.).(3). وكذلك يتجلى موقفه المثالي واليميني معاً من الدولة التي يقول عنها: (.. بأنّها الشكل الكامل الذي يتحقق فيه العقل والحريّة). (4َ).. وهو لا يتردّد في أن يضفي على هذه الدولة صفات القداسة والجمود، حيث يقول: «... إنّ مبادئ الدولة ينبغي أن يُنظر إليها على أنّها صحيحةٌ في ذاتها ولذاتها، وهو ما لا يكون ممكناً إلا إذا نظرنا إلى هذه المبادئ بوصفها تجلياتٍ متعيّنةً للطبيعة الإلهيّة»(5). ولاشك في أنّ صورة الدولة على هذا النحو الذي يريده هيجل قد جعلت بعض المتابعين لفكره، ينظر إلى مفهومه عن الدولة بوصفه الأساس الفلسفي لقيام الفاشيّة، فالجرائم التي ارتكبتها النازيّة، وممارساتها الوحشيّة مع المنشقين والمعارضين لها، ونقضها لمعاهداتها مع الدول الأخرى، كل ذلك تم تحت اسم الدولة وبدعوى المحافظة على كيانها. (6). في آخر كتابٍ أصدره في حياته (أصول فلسفة الحق)، نجد في هذا الكتاب أن هيجل يرفض حتى الأمل البسيط  لقدرة الفلسفة على تجاوز ما هو قائمٌ في الواقع، بل ويعتبر ذلك مستحيلاً، حيث يقول: «إنّ مهمّة الفلسفة تنحصر في تصوّر ما هو كائن، لأنّ ما هو كائنٌ ليس إلا العقل نفسه... وكما أنّه من الحمق أن نتصور إمكان تخطّي الفرد لزمانه فإنّه لمن الحماقة أيضاً أن نتصور إمكان تجاوز الفلسفة لزمانها الخاص...»(7).

على العموم: عادة ما نعتبر الفلسفيّة المثاليّة هي المقابل لما هو واقعي... لما هو مادي وملموس، وأن المثالي هو ما يجب أن يكون في مقابل ما هو كائن كما كان يتصور أفلاطون. بينما نجد أن هيجل يرفض هذا النوع من التفسير الفلسفيّ المجرد معتبراً إياه مفارقا للواقع المعيوش، بحكم أنه ينطوي على عدم الرضا أمام الحوادث التاريخيّة، لهذا جاءت معه غاية الفلسفة المثاليّة تتمثل في ضرورة تعقيل الواقع أي جعله معقولاً، بمعنى آخر، جعل الذات العارفة والعالم الخارجي من جنس واحد مصرحا بما يسميه: تعقيل الواقع.

والحق أننا – حسب هيجل كما يقول "عبد الرحمن بدوي" – إذا عَقّلْنَا الواقع فقد يصبح كل شيء من الذات ومن الواقع معقولاً، ومن ثم تصبح أيضا كلمة المثاليّة، من منظور هيجل، تحمل معنى "تعقيل الواقع، أي جعل كل ما هو واقعي معقولا، وكل ما هو معقول واقعي، والوصول إلى عمليّة توحيد فيما بين الواقع والمعقول بالانتهاء إلى أن كل شيء معقول. تلك هي المثاليّة بالمعنى الحقيقي. (8).

2. الفكرة المطلقة عند هيجل:

أما بالنسبة للخاصيّة الرئيسة التي تميز مثاليّة هيجل فهي: (الفكرة المطلقة)، التي تجلت عنده في حالة من الغموض والتجريد، بحيث يصعب على الدارس أن يحدد دلالتها الحقيقيّة الواضحة عنده. فتارة يراها الروح التي تقود التاريخ، أيضاً الفكرة غير المنظورة التي يحركها ويحكمها العقل بحتميّة التقدم التاريخي الى الأمام. وتارة أخرى يرى أن الفكرة المطلقة ممكن إدراكها لأنها أكثر الاشياء واقعيّة. والمطلق وحدة عضويّة يمكن إدراكها العقلي. (9).

كما أنه يراها أيضاً – الفكرة المطلقة - من خلال رؤيته للمطلق، على أنها الذات الكليّة التي تنظم كل شيء. والأشياء ليست إلا تطورا ونموا دياليكتيكيّا عن الفكرة الأصليّة. وهذه (الذات الكليّة) هي عينها الفكرة. مما يعني أن كلمة التصور تعني الشمول أو الإدراك الشامل. وعلى هذا الأساس، يبدو لنا التصور الهيجلي يتمثل في الكلي الذي يُنظم كل تعييناته ويشملها في تطور دياليكتيكي، وبهذا المعنى، فالتصور هو العيني عينيّة مطلقة". (10).

من خلال هذا المنطلق وعلى أساسه، يميز هيجل أيضاً وبدقة بين الفكرة المطلقة والتصور، من منطلق أن "الفكرة هي التحقيق الكامل للتصور، أي أن الفكرة هي الوحدة المطلقة للتصور وللموضوعيّة، وهي الحق في ذاته ولذاته، الفكرة هي الحياة، هي الخير في المعارف والأفعال. وهي المعرفة الكليّة المطلقة التي يصل إليها فكر الفيلسوف، إنها الحق حين يعرف نفسه، أما التصور فهو مجرد لحظة تابعة للفكرة المطلقة ويخرج من عباءتها، حيث يظل دائما مبدأً لها، وهو يحدد الفكرة في علم المنطق بأنها التصور الموافق، وهي الحق الموضوعيّ، أو هي الحق بوصفها الحق. فحينما يكون الشيء حقا، يكون كذلك بما فيه من فكرة. والوجود يبلغ معنى الحق حينما تكون الفكرة هي الوحيدة بين التصور والواقع، فيصبح الوجود هو الفكرة." (11).

وفي اتجاه آخر تُقَدَمُ الفكرة المطلقة عند هيجل أساساً على الحريّة التي سماها وعي الضرورة، أي التخلص من كل ما يعيق الذات الإنسانيّة من التعبير عن ذاتها. وهذه الفكرة المطلقة جسمها هيجل في ثلاثة مسائل هي: الفن، والدين ، والفلسفة.

1- الفكرة المطلقة في الفن: يرى هيجل أن الفنان يبقى محتواه لصيقاً به، بذاته، ويكون هذا حتماً روح الإنسان (الفنان) التي تعين ذاتها بذاتها، وتتأمل لا نهائيّة مشاعرها ومواقفها، وتفكر بها وتعبر عنها، ولم يعد هناك أي شيء غريب عنها، مما قد يكون حياً في صدور البشر. أي اعتبار أي شيء يمكن أن يستوطن الإنسان الفنان بداخله، هو موضوع محتل لهذا الفن الذي أصبح مطلق الحريّة.(12).

2- الفكرة المطلقة في الدين: يرى هيجل إن الدين كان محكوماً بمقاصد محددة بالإيمان، هدفها تخليص الإنسان الفرد (الخلاص الفردي). وذلك يعني تخليصه من شركه وأنانيتة وحقده وظلمه.. الخ. أي تخليصه من نوازع أخلاقيّة وقيميّة محددة، غالباً ما تحددها المذاهب الدينيّة المشتقة من الدين الكلي ذاته. ولكن مع الزمن راح الفكر النقديّ يدخل إلى الدين كما سبق أن دخل إلى الفن، وهو فكر لا يمكن إيقافه، ويجب أن يستمر حتى النهاية، لأنه القاضي المطلق الذي يجب على الحقيقة الدينيّة أن تثبت ذاتها أمامه. وكما أصبح الفن علم الفن، أصبح للدين كذلك فلسفة الدين بعد أن تجاوزت الروح المفكرة عتبة الإيمان المباشر إلى الفهم المستنير المحض. أي الفهم العقلاني النقديّ للدين.

3- إن الفلسفة، أو التفكير العقليّ، أو العقلانيّ النقديّ، تمنح الدين مفهوماً ووجوداً يمثل الشكل الأعلى أو الأنقى للروح العارفة ذاتها، إن علم المعرفة المطلقة غدا (عبادة روحيّة) حقيقيّة. وبمثل هذه الطريقة أصبح هناك توحد أو ترابط بين الفلسفة والدين والفن، فكما نجد ذاتيّة الفلسفة التي تحولت إلى عبادة روحيّة، نجد ذاتية الفن الذي فقد هنا الحسيّة الخارجيّة بالفعل، لكنه استعاض عنها بالشكل الأرقى لما هو موضوعي (أي شكل الفكرة)، وكذلك  نجد ذاتيّة الدين التي تحولت بعد تنقيتها من شوائبها صارت ذاتيّة التفكير، لأن هذه هي الذاتيّة الأكثر صميميّة وخصوصيّة. ولأن الفكرة الحقيقيّة هي الفكرة الساميّة، فهي في العموميّة نفسها، الأكثر شيئية وموضوعيّة التي تستطيع في التفكير الإحاطة بكل شيء. (13).

الفكرة المطلقة في الفلسفة:

لقد أوصل هيجل مملكة الفكرة إلى كمالها حسب تحقيقه لتاريخ الفلسفة. فهو على المستوى الفلسفي حقب التاريخ كالتالي من الناحية الفكريّة:

الحقبة الأولى: تمتد من طاليس إلى بروكلوس، وتمثل بداية ونهاية العصور القديمة، والنهاية هنا تشكل بداية التدوين التاريخيّ لميلاد المسيح، ففي عصر بروكليس حدثت المصالحة بين العالم الأرضيّ والعالم الإلهيّ.

الحقبة الثانية: تمتد من بداية التقويم المسيحيّ حتى الاصلاح الدينيّ عند "مارتن لوثر"، وهي المرحلة التي وصل فيها التصالح ذاته أيضاً بين الدنيويّ، مع ما هو إلهيّ على صعيد أرقى.

الحقية الثالثة: وتتعلق أيضاً في الفلسفة المسيحيّة العقلانيّة، التي بدأت مع ديكارت لتنتهي عند هيجل. وهنا تخرج المنظومة الفلسفيّة لهذه الحقبة الأخيرة، وكذلك المصالحة التي كانت موجودة بادئ بدء في الإيمان وحده، إلى ضمير الفكر المدرك. وهذه المنظومة ليست جميعها سوى طرائق مكتملة بهذا القدر أو ذاك للتوحيد، حيث يأتي في نهايتها التامة الكاملة نظام هيجل المطلق، نظام الروح المسيحيّة المطلقة التي تدرك ذاتها في عناصرها، أي في الواقع بوضعه جزءاً منها ليصبح العالم الواقعي عالماً (روحيّاً) بالمعنى المسيحي.

(يبدو أن "روح العالم" قد نجحت الآن في أن تطرح عنها كل جوهر غريب وموضوعيّ، وأن تدرك نفسها أخيراً كروح مطلقة، وتنتج من ذاتها ما يصبح موضوعاً بالنسبة لها، وتبقيه بهدوء وثقة تحت سيطرتها. وضمن هذه الوحدة بين الموضوعيّة والفعاليّة الذاتيّة يقع المعنى المتحقق الكامل للحقبة الجديدة، وعلى أساس هذه النيّة التاريخيّة النهائيّة فقط، يمكن ويجب فهم إغلاق هيجل لتاريخ الفلسفة في كامل صوته ووزنه. لقد وصلت روح العالم الان إلى هذه النقطة. إن الفلسفة الأخيرة هي نتاج لكل الفلسفات، إذ لم يصنع أي شيء، بل بقيت جميع المبادئ سلميّة، وهذه الفكرة المشخصة هي نتاج لجهود الروح خلال ما يقارب 2500 سنة .). (14).

***

كاتب وباحث من سوريّة

د. عدنان عويّد

....................

المراجع

1- هيغل: موسوعة العلوم الفلسفية: ترجمة وتقديم وتعليق د. إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1983، ص217.

2- موقع هنداوي- هيجل - مقدمة قصيرة جداً.

3- موقع الاستغراب – دورية فكرية تهتم بدراسة الغرب، وفهمه معرفياً ونقدياً – موقع المركز الإسلامي  للدراسة الاستراتيجية.

4- هيغل: محاضرات فى فلسفة التاريخ، الجزء الأول، ترجمة د. إمام عبدالفتاح إمام، دار الثقافة، القاهرة، 1980، ص 153-154.).

5- المرجع نفسه – ص159.

6- موقع الاستغراب – المرجع نفسه.

7-  هيغل: أصول فلسفة الحق، المجلد الأول،ص188.

8- موقع (connexion  مناهج فلسفيّة حديثة – نقلا عن عبد الرحمن البدوي.

9-  شبكة النبأ المعلوماتيّة- هيجل والفكرة المطلقة.

10- موقع (connexion  المرجع نفسه، عبد الرحمن البدوي.

11- كتاب من هيجل إلى نيتشه – وزارة الثقافة دمشق- ترجمة ميشل كيلو – ص52.).

12- المرجع نفسه- ص 53.

13المرجع نفسه- ص 53.

14- المرجع نفسه. ص56.

في المثقف اليوم