أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: لغز الوعي ومحدودية فهم العلم له؟

كان التقدم العلمي في الأربعمائة سنة الأخيرة مدهشا وساحقا. منْ كان يعتقد اننا سنكون قادرين على تعقّب تاريخ الكون الى أصله قبل 14 بليون سنة؟ زاد العلم من مدى ونوعية حياة الناس، وبدت التكنلوجيا الحالية الشائعة في العالم الحديث كأنها تشبه السحر لدى أسلافنا.

لكل هذه الأسباب، جرى الاحتفال بالعلم وتمجيده، لكن الموقف الصحي المؤيد للعلم لا يعني ذات الشيء كـ ـ "العلموية" scientism، وهي الرؤية بان الطريقة العلمية هي الطريقة الوحيدة لتأسيس الحقيقة. وكما تكشف مشكلة الوعي، هناك حدود لما يمكن ان نتعلّمه من خلال العلم وحده.

ان الشكل الأبرز للعلموية منذ بداية القرن العشرين كان حركة الوضعية المنطقية. الوضعيون المنطقيون تبنّوا "مبدأ التحقق"، الذي بموجبه تكون أي جملة لا يمكن اختبار صحتها من خلال الملاحظة والتجربة هي اما تافهة منطقيا او مجرد رطانة بلا معنى. بهذا السلاح، كان الوضعيون المنطقيون يأملون استبعاد جميع الأسئلة الميتافيزيقية باعتبارها ليست فقط زائفة وانما بلا معنى.

هذه الأيام، تواجه الوضعية المنطقية رفضا عالميا من جانب الفلاسفة. ذلك لأن الوضعية المنطقية منهزمة ذاتيا، بسبب ان مبدأ التحقق ذاته لا يمكن اختباره علميا، وبهذا، فان المبدأ يصح فقط اذا كان بلا معنى. في الحقيقة، هذه المشكلة تلاحق كل أشكال العلموية غير المؤهلة. لا وجود هناك لتجربة علمية نثبت بها ان العلموية صحيحة، وبالتالي اذا كانت العلموية صحيحة، فان صحتها لا يمكن إثباتها.

وبالرغم من جميع هذه المشاكل العميقة، فان معظم الناس في المجتمع يفترضون ان العلموية صحيحة. أغلب الناس في المملكة المتحدة غير واعين كليا بان "الميتافيزيقا" يستمر حضورها تقريبا في كل قسم من اقسام الفلسفة في البلاد. بالميتافيزيقا، لا يقصد الفلاسفة كل شيء شبحي او فوق الطبيعة، هو فقط مصطلح تقني للتحقيق الفلسفي في طبيعة الواقع مقابل التحقيق العلمي .

الحقيقة بدون علم

كيف يمكن ايجاد معرفة حول الواقع بدون عمل العلوم؟ السمة المميزة للنظريات الفلسفية هي انها "متكافئة تجريبيا"، بما يعني انك لا تستطيع الاختيار من  بينها من خلال التجربة . لو أخذنا مثالا عن فلسفة الوعي التي هي موضوع بحث الدكتور فيليب جوف Philip Goff استاذ الفلسفة المشارك في جامعة دورهام البريطانية،ان بعض الفلاسفة يعتقدون ان الوعي ينشأ من العمليات المادية في الدماغ – هذا هو الموقف "الفيزيائي". آخرون يعتقدون العكس: الوعي شيء رئيسي، والمادي ينشأ من الوعي. نسخة من هذه الرؤية هي رؤية "علم النفس الشامل" panpsychist بان الوعي يسير نزولا على طول الطريق الى اللبنات الاساسية للواقع. المفردة مشتقة من كلمتين يونانيتين pan وتعني الكل وكلمة psyche وتعني روح او نفس.

لايزال آخرون يعتقدون ان كل من الوعي والعالم المادي أساسيان لكنها مختلفان راديكاليا – هذه هي رؤية "الثنائيون". من الواضح نحن لا نستطيع التمييز بين هاتين الرؤيتين بواسطة التجربة لأنه بالنسبة لأي بيانات علمية، كل واحدة من هذه الرؤى سوف تفسر تلك البيانات بعباراتها الخاصة .

فمثلا، افرض نحن نكتشف علميا ان شكل معين من نشاط الدماغ مرتبط بالتجربة الواعية للكائن الحي. الفيزيائي سوف يفسر هذا كشكل من الترتيب او الفعل العضوي الذي يحوّل العمليات المادية غير الواعية – مثل الإشارات الكهربائية بين خلايا الدماغ – الى تجربة واعية، اما علم الروحية الشاملة سوف يفسرها كشكل من الترتيب العضوي الذي يوحّد جزيئات الوعي الفردية بنظام وعي أكبر. وهكذا نحن نجد تفسيرين فلسفيين مختلفين لنفس البيانات العلمية.

اذا لم نستطع معرفة أي رؤية هي الصحيحة بالتجربة، كيف يمكننا الإختيار بينها؟ في الحقيقة،عملية الإختيار ليست مختلفة جدا عما نجده في العلوم. العلماء، بالاضافة الى لجوئهم لبيانات تجريبية، هم ايضا يلجأون للمزايا النظرية للنظرية، على سبيل المثال كم هي بسيطة وأنيقة وموحدة.

 الفلاسفة ايضا يلجأون الى المزايا النظرية في تبرير موقفهم المفضل. فمثلا،اعتبارات البساطة تُحسب ضد النظرية الثنائية للوعي، والتي هي أقل بساطة من منافسيها كونها تعرض نوعين من المادة الاساسية – المادة الفيزيائية والوعي – بينما النظرية الفيزيائية physicalism (كل شيء فيزيائي) و الروحية الشاملة panpsychism (الذهن خاصية اساسية للواقع) متساويان في البساطة في عرضهما فقط نوع واحد من المادة الاساسية (اما مادة فيزيائية او وعي).

ومن الممكن ايضا ان تكون بعض النظريات غير متماسكة، ولكن بطرق خفية تتطلب تحليلا دقيقا للكشف عنها. فمثلا، هناك من يرى ان الرؤى الفيزيائية للوعي هي غير متماسكة (رغم ان هذا – كما في الكثير من الفلسفة –  مثير للإشكالية).

هذا لا يضمن ان هذه الطرق سوف تفرز بوضوح منْ هو الفائز. ربما في قضايا فلسفية معينة، هناك العديد من النظريات المنافسة المنسجمة والبسيطة بنفس المقدار، وفي هذه الحالة يجب ان نكون محايدين او لا ندري حول أي منهما هو الصحيح. هذا في ذاته سيكون استنتاجا فلسفيا هاما فيما يتعلق بحدود المعرفة البشرية. الفلسفة يمكن ان تكون محبطة لأن هناك الكثير من عدم الاتفاق. مع ذلك، هذا ايضا ينطبق في عدة مجالات للعلم، مثل تاريخ الاقتصاد. وهناك أسئلة عليها إجماع متواضع، على سبيل المثال، حول موضوع الرغبة الحرة.

الميل لمزج الفلسفة بحركة متنامية مضادة للعلم يُضعف الجبهة المتحدة ضد المعارضة المؤذية للعلم التي نجدها  في إنكار تقلبات المناخ ورفض حملات التلقيح ضد الأوبئة.

وسواء أحببناها ام لا، لا نستطيع تجنّب الفلسفة. عندما نتجنّبها، كل ما يحدث هو اننا ننتهي بفلسفة سيئة. السطر الأول من كتاب ستيفن هاوكنك ولينارد ميلدنوس (التصميم العظيم) أعلن بصراحة:ان "الفلسفة ميتة". الكتاب استمر في الإنغماس بنقاشات فلسفية مبسطة عن الرغبة الحرة والموضوعية. يقول فيليب جوف " لو اني كتبت كتابا يطرح تصريحا مثيرا للجدل حول الفيزياء التطبيقية، سيكون امرا سخيفا، لكوني لم أكن تدربت على المهارات الملائمة، ولم أقرأ الادب والبحوث ذات الصلة، ولم تكن آرائي في هذا المجال خاضعة لتدقيق وتمحيص الأقران". ومع ذلك هناك العديد من العلماء الذين يفتقرون للتدريب الفلسفي ينشرون كتبا سيئة جدا حول موضوعات فلسفية دون ان يؤثر ذلك على مصداقيتهم،وهو امر مؤذي وخطير.

نعتقد ان المجتمع سيكون عميق الثراء حين يصبح أكثر اطّلاعا بالفلسفة. يبقى الأمل قويا في الانتقال من هذه الفترة "العلمية" للتاريخ، وفهم الدور الحيوي الذي يلعبه كل من العلم والفلسفة في المشروع النبيل لمعرفة طبيعة الواقع.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم