أقلام فكرية

سامي عبد العال: فلسفة النعال (5)

مع ألوان وزركشات الأحذية يُمكننا قراءةَ الكثير والكثير من الخلفياتِ. الحذاءُ هو المادة الثقافية المتأخرة لعلاقات االقوى بين الناس. ويمكننا تصنيفه (أي الحذاء) داخل البنية التحتية لحركة الإنسان. لأنّه يندرج مع قدرات (الفعل والتأثير) بحكم وجوده عبر الانشطة المختلفة. فلكي نبدأ في الحركة والانطلاق، يجب التأكد من إرتداء الحذاء كأحد متطلبات العمل.

كما أنَّ مظهراً معيناً لأي حذاء إنما ينمُ عن معانٍ خارج سياقه. كأنَّه يحمل بصمات وجودنا الإنساني في لحظةٍ مكثفةٍ من الحركة السائلة. ومن ثمَّ، عندما نريد أنْ نفهم المعنى البعيد للأشياء، ينبغي الانهماك في فهم المعنى القريب جداً. وليس ألصق بأقدامنا- على وتر حسّاس مع اعصابنا- من الأحذية. والوتر الحساس لأجسامنا يتشكل بكل الجلود المحيطة ثقافياً واجتماعياً.

جسم الإنسان مغلَّف بنوعين من الجلود:

1-  " الجلد الطبيعي" الذي يبدو وجوداً حيوياً يشعرنا بأحوال المناخ والأشياء والكائنات والعلاقات مع العالم، مثل البُرودة وارتفاع الحرارة والإحساس بالأسطح والأماكن. وهذا الجلد هو مادتنا البيولوجية التي تشركنا مع الكائنات الحية. ويظهر الجلد الطبيعي كأنه عالمنا الفوى الإحسايس. إنه آن ٍدائماً، بمعنى أننا نشعر به آنياً وفورياً في كل لحظة وهو بمثابة إعلان حضور في العالم.

2- "الجلد الثقافي" وهو رمزية العالم الذي نصطّنع منه وجوداً (معنوياً ومتخيلاً وقيمياً) لدينا نحن البشر. وهو نقش إنساني لما نود أنْ نكون عليه. إن القبائل البدائية التي كانت توشم جلودها بالرسومات والخطوط والألوان والروائح والصور المختلفة هي أبرز الأمثلة على ذلك. وتبدو النقوش حضوراً مضاعفاً لهويات الكائنات الاقوى التي يتطلع إليها الإنسان. وكذلك تحمل جلودنا الثقافية فنوناً من نوع مبدع. لكونها تمد عقولنا بكل ما هو خارج عن القيود، حين يستشعر البشر حرية الوجود وإثارة الأخيلة.

إشكالية الحذاء هي الخلط بين الإثنين كممارسة تُعطي الفرد تجرية الوجود طبيعياً وثقافياً في الوقت نفسه. ومع وجود العلاقة التي تحضر عندها فكرة الإحساس بالطبيعة كما هي، فالإنسان دوماً صانع عتيد لهذا النوع الأخير (الجلد الثقافي)، حتى يتلقى إشارات الأشياء وعلاماتها بشكل مختلفٍ. إنه لا يريد أن يكون كائناً طبيعياً كباقي الكائنات ولا يقبل بالإلقاء على قارعة الوجود وبالتالي يصطنع شيئاً مغايراً. فالتمرد يجعله كائناً يعاند الطبيعة (الجلد الطبيعي) ويرتدي فوقه جلداً ثقافياً ملتوياً مموهاً. والخطورة عندما لا يميز بين الإثنين، وعندما يجد الجانب الثقافي عاجزاً عن خلق عالم مليء بما يريد، عالم دال بالمعاني المطلوبة للحياة.

وتلك كانت أزمة الإرهابيين عندما تعاملوا مع الأفكار كـ"جلد طبيعي" لا يتغير، كأنها أحذية من نوعٍ خاص لا يجب الاقتراب منها ولا ينبغي التنازل عنها. والأدهى أنْ تحولت الأفكار إلى أسلحة يُضرب بها الأعداء والأغيار. ولذلك لا تعد فكرة اللثام لدى التنظيمات الدينية فكرةً بريئةً بالمرة، عندما كان تنظيم الدواعش وبعض الجماعات الدينية يرتدون غطاءً للرأس كما لو كان حذاءً بالأعلى. وذلك حتى يشعرون بترديد الأصوات الخاصة بهم فقط. وحتى لا تكون هناك مبارحةٌ بين ما يتخيلونه وما يمارسونه في الواقع. والأهم أنهم يفعلون ذلك، لكيلا يشعروُن بمن حولهم كوقاية مضافةٍ إلى جلودهم الطبيعية.

أثر واكسسوار

إنَّ احساسنا بالثقافة وردود أفعالها يترك آثاره على أجسامنا بالمثل، فالفرد الذي يعيش تجربةً من القهر والعنف، لن يكون جسده سوى مرآة عاكسة للتفاصيل التي مر بها. وكذا تجارب الحب وتجارب الإيمان وتجارب الحرية، إذ تمثل الثقافة جلداً رمزياً symbolic skin قابلاً للشد والجذب. ونشعر بالمواقف كما لو كانت تأتينا في صورة التجارب الحياتية. الحذاء يندمج في هذا المحيط، فيصبح جزءاً من إحساسنا العام بأنفسنا. إنَّ الإنسان الذي يرتدي حذاءً يصله إحساس عن كل ما يلامسه ويشعر به.

هذا هو ما يجعل الاحساس الاجتماعي وضعاً ممكناً بما يرتديه الشخص. أي نتيجة كون الحذاء مفردة إحساس وانعكاس خارج الأفراد (بالنسبة للآخرين)، ستكون رؤيته في سياق تاريخ ما أمراً مُتاحاً. وتلك هي الوضعية الفلسفية التي تجعل منه موضوعاً للتفكير. كانت أحذية فان جوخ التي رسمها بأنامله الفنية مثالاً على ذلك، لكونها مثقلة بأزمنة وملامح تاريخية ودلالات عميقة باستمرار. وكلّ منا لديه فيما يخصه نوع من  حذاء فان جوخ، يحتفظ به أو يستعمله بهذه الطريقة الفنية أو تلك. إن أحذيتنا محتفظة بالوقائع والمشاوير والرحلات والظواهر والأحداث وتمتص الصدمات الإنسانية التي تجدد نفسها من وقت لآخر.

من صميم تلك الخاصية، يندرج الحذاءُ كأثر وكعلامة تجارية طويلة التسييس في مجتمعاتنا الراهنة. أثر لثقافةٍ حرصت أن يكون الحذاء المعاصر بصمة تاريخية لها. وعلامة مارّة عبر مراحل مختلفة من القيمة والعرض والطلب والتسوق على نطاق واسع. وهذا الاتجاه مرتبط أيما ارتباط باستغلال القوى الكبرى للمجتمعات. ليس الحذاء إلاَّ هذا الاثر الممتد والعلامة التي لا تكف عن الاستعراض. وبطبيعة الحال تريد الدول القوية الهيمنة عبر الصناعات المختلفة. ومن ثمَّ، كان حضور الاكسسوار حضوراً حضارياً لا يخلو من سيطرة. وهو ما يلبي رغبة الأفراد، ولكنه يمثل قوةً ناعمةً لن يفلتوا منها.

لعلَّ ما جرى على كافة (الأشياء ما بعد الحداثية) قد جرى على الحذاء في الاتجاه ذاته. لأنه تشكل بكل ما توافر في عصرنا من قدراتٍ. فلم يعد الحذاء مجرد غطاء للأقدام، ولكنه بات صورة متحولة ومتطورة. وتحمل توقيع الشركات الكبرى في العالم، وليس غريباً أن تبادر العولمة بتوفير هذه المنتجات وملحقاتها،  بل الغريب أن تحظى بشهرة جابت الآفاق. وأن يكون هناك إقبال على شرائها دون تردد. وتبدو الأحذية مفتاحاً لشبكة معقدة من المصالح  التي تضرب أطرافها في السياسة والإقتصاد والرياضة والفنون والحروب.

بالإمكان أنْ تمسي شركات صناعة الأحذية متعددة الأنشطة بين المجالات السابقة. فالأحذية الرياضية تضخُ عوائد أرباحها في تجارة الممنوعات. والعكس تجارة الأسلحة تدعو أصحابها لفتح مجال للأحذية. أيهما أكثر أهمية عندئذ الأسلحة أم الأحذية؟ وأيهما يوفرُ غطاءً خادعاً للآخر؟! وكذلك تجارة الحروب والمرتزقة تتداخل مع تجارة الأحذية. فعقود الشركات والتمويل الضخم للأنشطة العسكرية يجري في عروق وجلود الأحذية بالقوة ذاتها التي يجري بها في السياسة. هذه هي السمة المميزة لمنتجات ما بعد الحداثة، كل سلعة تصب في مصلحة الأخرى وتدعو للتعددية الربحية على أكثر من مستوى. وذلك لكون الشركاء الأقوياء قلائل ويهيمنون على مشهد العالم وأحداثة في أغلب المجالات. ويديرون أوضاعاً عالمية بكافة الأيادي الخفية: اليمن واليسار ويمين اليمين ويسار اليسار.

إنه العمل الدؤوب لعولمة الأحذية وتسييس الموديلات التي تجتذب الرغبات من شتى بقاع العالم. أمريكا في متاجر البيع والشراء داخل دول الشرق والغرب على السواء. وتدل الأحذية عالية الجودة عن أصابعها اقتصاديا وسياسيا. وإذا وقعت جريمة حربية كما تحدث جريمة الإبداية في غزة ومن قبل جريمة الإبادة للشعب العراقي ولشعوب العرب بالموت البطيء، فسيكون دليل الإدانة في مواقع الجرائم هو الأحذية.

الحذاء والهوية

في جميع عصور التاريخ، تتكيف الأحذية مع نمط الحياة القائم. فالحياة البدوية تتميز بالصعوبة والحركة البطيئة على الرمال وبين الصخور والتلال والوديان. ومع وجود الترحال من موطن إلى آخر وسط الصحاري، وهو ما يتطلب نوعاً من الأحذية المناسبة لهذه النمط. والحياة الريفية تتطلب أحذية تواكب الزراعة والري والأرض الممهدة وتغيُر الفصول ونزول الانهار والمصارف المائية. وحياة المدينة تفرض أحذية خفيفة الوقع وسريعة الإرتداء وسهلة الخلع أيضاً. لأن الحياة سريعة الايقاع ومعقدة العلاقات وتهتم بالمظهر والجاذبية والقدرة على ملامسة الصور العامة بين الناس.

يبدو الحذاء موضوعاً للتكيف مع البيئة المحيطة (الجلد الطبيعي). ولكن مع مرور الزمن يصبح لصيقاً بحضور الإنسان زماناً ومكاناً. حتى أنه يُلخص كلَّ السمات التي تجسدها الجماعات البشرية(الجلد الثقافي). إنَّ البيئة هي السر الخفي الذي يتسلل إلى ثقافة البشر طارحة شروطاً يصعب مخالفتها. لأن البيئة إحدى المصادرات(المسلمات) التي تعد طبيعية وثقافية في الآن نفسه. وهو ما يختزل وجود الإنسان في زيٍّ أو في قطعة حذاءٍ أو في أسلوب من أساليب العيش.

انطلاقاً من هذا، أخذ الحذاء يمس قضايا الهوية والانتماء، لأنَّ الهوية تنتمي لفصيل القضايا المزدوجة ثقافياً وطبيعياً. وهي تتقمص الأشياء التي تبدو مموهة عند الدرجة الغامضة لأشياء الإنسان. فالأدوات والأزياء والأشكال ترتبط بالهويات، لكونها تتحدد مع مظاهر البيئات المختلفة، وتأخذ دلالات رمزية بالثقافة. وعند معرفة جوانبها لا ندري: ما إذا كانت ظلالاً لهذه (الطبيعة) أم تلك(الثقافة)؟

لكن بالامكان – مع عدم التحديد- القول بأن متعلقات الإنسان (الأزياء والأحذية والمنازل) تمس شيئاً جوهرياً فينا. والشيء الجوهر يتجاوز التصنيف دوماً، ورغم كونه يدخل دائرة الأدوات إلاَّ أنه يمثل رابطة قوية مع مرجعية معينة. وكما لو كان التعلق بالأشياء يجدد الإنتماء إليها ويعطيها بُعداً آخر من القوة. ومن ثمَّ، كانت الأحذية إحدى المتعلقات واللا متعلقات جنباً إلى جنب. تعكس قيم أصحابها وتبدو تجسيداً للأنشطة وصورة الحياة الخاصة. لأنَّ تلك المتعلقات تأخذ مكان التفضيل وترتبط بالأذواق والحميمية. وهو ما يجعل الرابطة معها ليست رابطةً عاديةً. إنها محط عناية واهتمام من جنس عناية الإنسان بذاته، وماذا يحب؟ وأي شيء يكره؟

لو قلنا لأفراد أية جماعة بشرية: ماذا سترتدون من أحذيةٍ؟، سيكون الاختيار مناسباً لجوهر حياتهم ولما يعطيهم انطباعاً بعمق الانتماء. ولذلك سيكون ثمة اتساق بين ما يرتديه الفرد وما يعتقده ويؤمن به وما يتبناه من رؤى. الحذاء سيرسم لمن يتابع دائرةَ كل ذلك. معتبراً - على نحو ضمني- أنَّ الأدوات فنون، والفنون معرفة وقدرة ووسيلة.

وإذا كانت الهوية استحواذاً وهيمنةً، فالأحذية تظهر كموديلات تحمل هكذا معنى. وبخاصة مع زحف العولمة وإتيانها بأنماط جديدة من الأزياء والأحذية  والأدوات. حيث انتشار الشركات العابرة للقارات والأسواق الممتدة رغم اختلاف الدول. ووجود الانتاج الذي يعبر عن قدرات اصحابه الذين يقفون في الأقاصي محركين كلّ ما يخدم مصالحهم. ليس بعيداً عن المشهد تعلق الأحذية بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث تظهر موديلات الأحذية في صور براقة ولامعة وفي شكل أقرب إلى أجواء الاساطير.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم