أقلام فكرية

أسعد الامارة: النفس وبنية النقد من الداخل

ما لا نراه.. ولكنه يؤثر فينا

ما هو الشيء الذي يحرك فينا ما لانراه ولكنه يعكر مزاجنا من الداخل، يعكر صفونا ونحن في غفلة من اللحظات التي تتأرجح بين القبول والرفض، لم نحدد بعد ما  هو الرأي الصواب، هل هو الصراع؟ هل هو الرقيب الذي تأسس في دواخلنا منذ طفولتنا ؟ هل هو عامل القيم والدين والاعراف والتقاليد ؟ ربما صح، وربما لا . هل هي ذاتنا التي تبحث عن دال جديد كما يراها "جاك لاكان" لأن الدال هو ما يمثل الذات نحو دال آخر، وتَعلمنا من لاكان الذي يعد الدال له الأسبقية على المدلول، الدال هو المكون الواعي واللاواعي للغة الدال في التحليل النفسي، أنه العنصر المهم في الكلام كما وضحت لنا الرؤية اللاكانية التحليلية.

هل هو محرك النقد في النفس ينبع من هذه المنظومة المعقدة القائمة على اللغة؟ وتؤكد لنا بعض الرؤى العلمية التي يراها " الدكتور ريكان إبراهيم" بأن النقد وسيلة من وسائل دراسة اللغة وتقنين اعماقها وتعرضه في اللسان الناطق والبناء الفني في تكوين الفكرة، أو الخاطرة التي تمر في النفس وتترك الأثر ثم تتحول إلى نقد للنفس، أو نقد بأشكال مختلفة، إذن لابد أن يكون لهذه الوسيلة الحية سيكولوجية محددة، مقننة باختبارها، رغم علمنا بأنها متأسسة من بدايات فجر الإنسان في تكوينه الفردي، والجمعي " أقصد تراكمات عصور الاساطير والسلالات والتراكمات الحضارية في البناء النفسي "  

 سنحاول في تساؤلنا هذا بفكرة إجتهادية لربط النفد من داخل النفس وما يعتمل بها من تداخلات لا حصر لها.. وعلاقتها باللغة بكل أوجهها لا سيما أنه منتج اجتماعي لملكة اللغة وقدرتها، ويتمثل في اللسان الذي ينطق بها، وما يستوقفنا هنا كيف تبلور هذا المخزون في مستودع اللاشعور – اللاوعي وتبلور بشكل آثار تراكمية ويقول "سوسير" بأنه شكلَ مجموعة من الآثار الموضوعة في كل ذهن، وهو حصيلة الصور اللغوية المختزنة عند كل الأفراد، ونقول لا تظهر للعلن إلا عند قلة، أو مجموعة تخصصت في هذا الطراز من الإبداع اللغوي، ويحق لنا أن نقول أيضًا  إنها قدرة يتميز بها البعض عن الآخرين. وتساءلنا هو  تبقى النفس بما أحتوت من عوالم اللاشعور – اللاوعي، ولو بجزء بسيط من هذه القارة المترامية الأطراف الشاسعة،  يظهر لنا منها في هذا المنحى، ويضيف لنا العلامة مصطفى زيور قوله: يطلق سراح اللاشعور إذا ما تدثر بالجمال " مصطفى زيور – في النفس، ص 140" 

ينشأ النقد من داخل النفس، وللنفس لها أولًا، ولا يعلن عن نفسه إلا بعد أن وصل إلى أعلى درجة  من الغليان، فحتى النقد الأدبي كمنحى في علوم اللغة والعربية منها ، أو النقد الفني، أو النقد بمستوياته الشديدة، أو المعتدل، أو الطفيفة، إنما هو يعبر عن ذات تحاول أن تتحرر عن ما يخنقها، أو يضايقها، لا ندري من ترسبات من الأفكار تكونت،  لا سيما إن بنية اللاشعور – اللاوعي التي لا نعرف سوى آثارها اللغوية والتي لا تملك آثارًا غيرها كما يقول "جاك لاكان في وضعية اللاشعور، كتابات 1966" ولعلمنا أن الأفكار تترك بقايا في النفس تتبلور وتتلائم وتظهر، أما  من لحظة إنفعال لحظية قادتها لتعلن الرفض، أو القبول، أو طلب التغيير. " التغيير هنا قسري، وليس في حالة استرخاء".

نحاول أن نستعير نص من التحليل النفسي يقدمه لنا استاذنا العلامة " مصطفى زيور" بقوله: الصراع في التحليل النفسي هو ذلك التعارض اللاشعوري – اللاواعي بين رغبة غريزية تنشد التفريغ وميل يعارض ذلك ويناهضه. لذا فالنقد من الداخل هو بحث في ميدان تحليل النفس بصفة لا مثيل لها في ميادين البحث الأخرى وإن أعطت طابع النقد الأدبي، أو الفني، أو الفكري لقضية علمية، أو فكرية، إنما يبقى أساسه نابع من أعماق النفس، وهذا يذكرنا بسلوك البعض في حياتنا اليومية حينما يلجأ الكثير من  الناس إلى سلوك الغيبة والنميمة وتناول الآخرين في أعراضهم وشرفهم، أو إسقاط مشاعر دفينة في داخله أمتنعت النفس من البوح بها، فصب جام غضبه على الآخرين .

تؤكد لنا أدبيات التحليل النفسي النظرية وتطبيقاته الميدانية بالتأكيد على النفس بإن المحللين النفسيين من حيث إنهم أمناء على اللاشعور – اللاوعي، هم بيروقراطيته، إنهم يدونون ويتحملون تناضد الخطابات المحددة تاريخيًا من زاوية مصدرها، خطابات الأشكال الطفولية القديمة للغة، كما تقول " كاترين كليمان" وتضيف قولها حَولَ " سيجموند فرويد" التصور المحدود للاشعور – اللاوعي إلى بناء كامل يتعلق بالدافع كعلة، وقد عمم "جاك لاكان" هذه اللعبة على اللغة، ومن ثمة على العلاقة التحويلية كلها، وذلك بقدر ما أن الناقد بمعنى أدق كالمحلل النفسي هو في نفس الوقت آخر الذات ومؤرخ لغتها. ويمكننا القول لو سمح لنا به الإجتهاد هذا هو خطاب النقد النفسي من الداخل، أقصد داخل النفس، ومن الخارج، أعني .. التقد الذي يوجهه الناقد الأدبي، أو الفني، أو ما يطلقه الآخر في أي موضع في حياتنا المعاشة، لذا فهو يتمثل وجود اللاشعور – اللاوعي في أن يكون لهذا الأخير مفعول الكلام، وأن يكون بنية لغوية، تمتلك هذه اللغة بلاغة معينة كما يدونها لنا جاك لاكان.  خلاصة القول أن النقد هو محاولة جادة في فهم سلوك معين في تراث ادبي، أو علمي، أو فني على وفق ما تمليه دواخل من يوجه النقد، بدءَا من داخله ثم إلى الخارج ودوافعه بحيث تؤدي دراسة المتروك كأثر إلى دراسة النفس المنشئة للنص، وهي سبيل من سبل قياس الوعي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الفرد، وهنا يضيف أيضًا " ريكان إبراهيم" تداخل اللغة مع العوامل البيئية، وهي محاكمة لعلاقة النفس باللغة كمجمل، وبالكلمة كمفردة وينتهي بقوله :  والكلمة في اللغة بالمنظور النفسي تمتلك ثلاث محاور في  الاستدلال:   الاستدلال الشكلي والاستدلال الوصفي والاستدلال التحريضي، وما يهمنا هو الاستدلال التحريضي ويقصد به قدرة الكلمة في اللغة على احداث الحث النفسي، فهي تحرض لاشعوريًا على استلهام ما يحيط هذه الكلمة وما يتبعها من ابتناء – بناء لافكار لاحقة.  

*** 

د. أسعد شريف الامارة

في المثقف اليوم