أقلام فكرية

أسعد عبد الرزاق: الديني والتاريخي في المعرفة الدينية

تختلف الحقيقة الدينية عن الحقيقة التاريخية من ناحية جوهرية، ومن المفترض اختلاف منهج المعرفة الدينية عن منهج المعرفة التاريخية، سواء على مستوى الإدراك الذهني لقضايا الدين وقضايا التاريخ، أم على مستوى مناهج البحث والتفكير التخصصي، كذلك يختلف تأثر الفكر البشري أمام كل من المجالين، فالدين يقدم حقائق كلية عن البعد الغيبي وارتباط الإنسان بخالقه وما يترتب على ذلك الارتباط من وظائف وممارسات، فضلا عن الرؤية الكونية التي يطرحها الدين للإنسان.

أما التاريخ فهو مجموعة من المعارف المتراكمة التي وظيفتها توثيق الأحداث من اجل خلق وعي كلي بمجمل ما حدث فضلا عن توفير سنن الأحداث والمتغيرات التي تطرأ على واقع الإنسان على مختلف الصعد.

والتاريخ يمثل وسطا ناقلا للمعارف، ومن ضمنها المعارف الدينية، وهنا تتضح منطقة الالتقاء في الوعي البشري بين ما هو ديني وما هو تاريخي، ويتلقى الذهن البشري معارفه الدينية بوسائط وأدوات تاريخيّة وهي نتيجة طبيعية لتداول المعارف بين الأجيال، لكنها تفصح عن مشكلة منهجية ومعرفية بالدرجة الأولى من خلال اختلاط الديني بالتاريخي، وعملية الفصل تستدعي وعي الفروق بين أدوات المعرفة الدينية والتاريخية، وهنا يتكون أدوات المعرفة التاريخية في خدمة وعي الحقائق الدينية، لذا يمكن عد علوم الحديث في النطاق الديني الإسلامي مجالا هامة لما يؤديه من وظيفة نقل المعرفة الدينية بعد فحصها والتدقيق فيها إلى المتلقي في زمن متأخر عن عصر صدور المعرفة الدينية.

ولم تسلم مناهج البحث الديني في مجال نقل المعرفة الدينية من مشكلة التداخل بين الديني والتاريخي، لأن المنقول يتم تلقيه على نحوين:

إما أن نتلقى المنقول على كونه معرفة أو حقيقة أو فكرة أو نظرية أو مفاهيم بسيطة.. أو نتلقى المنقول على كونه حدثا أو معرفة مركبة من مجموعة أفكار أو أحداث يختزل بعضها بعضاً، أو مفاهيم تشكلت بنحو متراكم أو جاءت في سياق مرحلي وتاريخي..

والأمثلة كثيرة، لكن سنركز على مثال بسيط في المجال الفقهي، وذلك من قبيل ما تجب فيه النفقة على الزوجة من مأكل وملبس فهو يحاكي الخصوصية الزمانية لعصر التشريع، بينما اليوم تغيرت معالم حاجات الفرد والمجتمع إلى ما يتجاوز طبيعة المأكل والملبس في العصور المتقدمة إلى طبيعة الحاجات الضرورية التي تفرضها الحياة المعاصرة اليوم، وهذا مثال بسيط لا يشوبه الخلاف في حين توجد مسائل بالغة التعقيد على النحو الذي ذكرت.

إن الوعي البشري لا يمكنه الفرز ببساطة بين النحوين من المنقول، وطبيعي أن كل مالدينا من معارف وعلوم منقول في الغالب وواصل الينا بالتراكم، والخبرة البحثية كفيلة في أن نميز -على مستوى الدراسات الدينية- بين ما هو ديني وما هو تاريخي، فثمة معارف تم فهمها على أنها حقائق دينية في حين لا تعدو كونها تراكم تاريخي، وذلك يجري كثيرا في حيز الدراسات الفقهية والعقدية، إذ تحولت بعض المفاهيم التاريخية إلى عقائد مما أدى إلى تضخم العقائد، وهي إحدى مشكلات التراث.

إذن نحن أمام تراث يستدعي التمييز بين ما هو ديني مقدس وما هو تاريخي اكتسب صفة المقدس من خلال التراكم وسلطة التداول، وهذه مهمة ليس باليسير الخوض في غمارها، وهي ذات تبعات كبيرة تفرض متغيرات في قيمة المنقول والمقبول.

وعلى مستوى الفقه والتشريع ثمة مساحات من المدركات التي تستدعي المراجعة والتقصي في مدى اعتبارها جزءا من منظومة الأحكام أو خصوصية وتابعة من توابع مرحلة إمكانية، كما في التراكمات التي حصلت من تداخل السياسي مع الديني وما أنتجت عنه من مفارقات في الواقع الفكري الإسلامي.

ومن جملة ذلك ما اختلف عليه من مسألة الإمامة إذ يعدها فريق من المسلمين على أنها مسألة سياسية ذات طابع تاريخي في حين يعدها الشيعة الإمامية أصلا اعتقاديا، وهذه حالة معكوسة لتحول الديني الى تاريخي، من وجهة نظر شيعية طبعا، وهكذا نلحظ التحول في الأحداث لتغدو ثقافات راسخة في المجتمعات، ويعرض استاذنا الدكتور عبد الامير كاظم زاهد لاشكالية التداخل بين التأريخ والدين في فهم القرآن الكريم، اذ يذكر تفصيلا: (في النظر في آيات الكتاب المجيد نجد مجموعة من الآيات التي تشرّع الأحكام لها معطيات زمنية تاريخية قد انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقوال:

أ/ ما يرى أن النص والتفسير والتموضع الزماني والمكاني والممارسة التاريخية كل ذلك دين يتعبد به، ويعد من المقدسات غير القابلة لاعادة النظر او المراجعة بناءً على معطيات التطورات الاجتماعية والمدنية هؤلاء هم أغلب المفسرين والفقهاء.

ب/ ويرى آخرون: إن هذه النصوص تحمل في ثناياها حقائق قانونية جوهرية يمكن أن يطبق الجوهر (كمعايير أساسية) على كل الأزمان والأحوال كل بحسبه تطبيقاً كلياً لا تفصيلياً بما لا يتصادم مع الحركة الطبيعية لتطور الإنسان ولا يحصل الاعتناء بما التصق بالنص من قضايا زمنية.

ج/ من يعتبر النص، والمفهوم الفكري من النص كله تاريخ زمني منحصر في الماضي وعليه يلزم التعامل معه على أنه (تراث تاريخي)، يمكن أن تتم الاستفادة منه كسوابق تطبيقية للنص1.

إن التمييز بين الديني والتاريخي في المعرفة الدينية يتطلب فهمًا عميقًا لطبيعة النصوص الدينية وسياقها التاريخي، ومن بعض النقاط التي تساعد في توضيح هذا التمييز:

أن الديني يتضمن ما يتعلق بالمعتقدات والطقوس والشعائر التي يتبعها المؤمنون، هذه المعرفة تُعتبر مقدسة وثابتة، وتأتي ضمن  المصادر الاساسية، فضلا عن النصوص المقدسة التي تعد مصدرًا رئيساً للمعرفة الدينية، وهناك ما يمكن ادراجه ضمن الديني والمتمثل بالتجربة الروحية، وما يجربه العرفاء من معارف خاصة.

بينما يتحدد التاريخي، بالسياق التاريخي، فالمعرفة التاريخية تتعامل مع فهم السياق الذي فسرت فيه النصوص الدينية، بما في ذلك الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أثرت على تشكيل الفهم، كذلك النقد التاريخي، الذي يستخدمه المؤرخون والمحدثون في سياق تنقية المنقول، وتحقيق المخطوطات، والتحقق من الأحداث التاريخية المذكورة، ومقارنة النصوص مع مصادر تاريخية أخرى، فضلا عن التطور الديني، فالفهم التاريخي يتضمن دراسة كيفية تطور العقائد والشعائر الدينية عبر الزمن، وكيف تأثرت بالأحداث والشخصيات التاريخية، وهذا مما لا يمكن إدراجه ضمن الديني.

وبعض العلماء يحاولون الجمع بين المنهجيات الدينية والتاريخية لتقديم تفسير متكامل وصورة شاملة للمعرفة الدينية، والدراسات الأكاديمية للدين غالبًا ما تتبنى مقاربة متعددة التخصصات، تجمع بين الأساليب الدينية والتاريخية لتحليل النصوص والظواهر الدينية، كما لا يختلف التعليم الديني من حيث استفادته من إدراج المعرفة التاريخية لتقديم صورة أكثر شمولية وواقعية للطلاب عن دينهم وتاريخه.

إن التوازن بين المعرفة الدينية والتاريخية يساعد في تكوين فهم أعمق وشامل للنصوص الدينية، مما يعزز التفاعل بين الإيمان والمنهج العلمي، ويشجع على دراسة الدين بطريقة تحترم كلًا من الجانب الروحي والجانب العلمي.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

........................

1- انظر: صحيفة المثقف/ عبد الأمير كاظم زاهد: التداخل بين الدين والتاريخ

 

في المثقف اليوم