أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: الفلسفة كطريقة لتربية المواطن الصالح

ما هي أفضل طريقة لتربية المواطن الصالح – الشخص الذي يقوم بالشيء الصحيح حتى في أسوأ الظروف؟ هذا المقال يؤكد ان الفلسفة لها الدور الكبير في ذلك. ولهذا فان إشراك الناس في الفلسفة، خاصة في صفوف الدراسة، هو فكرة جيدة.
اثنتان من أشهر المنظمات البريطانية المهتمة بفلسفة الأطفال هما سابيري واود Sapere &Aude. ليس من باب الصدفة ان "سابيري و اود" هو ايضا شعار التنوير. لكن كيف يمكن ان يرتبط التنوير بفلسفة تعليم الاطفال؟
عرّف المفكران التنويريان ديدرو و دالمبير Diderot&d’Alembert المفكر التنويري بانه هو الذي يرفض التحيز اوالتقاليد اوالقبول العام اوالسلطة، أي، كل ما يستعبد العقول، ولديه الجرأة للتفكير بنفسه. كانط، في مقال قصير له بعنوان "ماهو التنوير؟" قال ان التنوير هو:
انبثاق الانسان من طفولته المفروضة ذاتيا. الطفولة هي عدم القدرة على استعمال المرء لعقله بدون رعاية وإرشاد من الآخرين. انها مفروضة ذاتيا، لأنها تعتمد على العجز، وليس على العقل، وتفتقر للعزم والشجاعة في استعمال العقل بدون توجيه خارجي. وهكذا فان شعار التنوير هو توفر الشجاعة لدى المرء لإستعمال عقله.
بالنسبة لكانط، المواطنون المتنورون ليسوا فقط مثقفين قادرين على التفكير بأنفسهم، وانما هم ايضا لديهم الشجاعة للقيام بهذا. مقابل هذا هناك الافراد الذين مع انهم قادرين ثقافيا، لكنهم خاضعين ثقافيا: خائفين من عواقب مسائلة ما تأمر به السلطة او التقاليد.
معظم مؤيدو الفلسفة في صفوف الدراسة يفضلون تربية المواطنين الذين طبقا لكانط هم متنورين. انخراط الشباب في الفلسفة هي طريقة واضحة لجعلهم يفكرون نقديا وبشكل مستقل حول معظم المعتقدات الاساسية التي يجلبونها معهم الى غرف الدراسة، بما فيها عقائدهم الأخلاقية والدينية.
لكن لماذا تُعد تربية مفكرين نقديين مستقلين مستعدين للاعتماد على ذكائهم بدلا من السلطة والتقاليد فكرة جيدة؟ في الحقيقة، لا يتفق جميع الناس على انها فكرة جيدة. لا يوجد هناك إجماع باننا يجب ان نسعى لتربية المواطن التنويري. البعض يحذر من نتائج قد تكون رهيبة. هم يجادلون انه لو جرى تشجيع الشباب على الوثوق بقدراتهم العقلية بدلا من البوصلة الأخلاقية الموثوقة التي عرضتها تقليديا السلطة الدينية، فانهم سوف ينتهي بهم الامر بدون دفة أخلاقية، يجدون انفسهم عرضة للأهواء و التأثيرات الخبيثة التي تهب في طريقهم من كل مكان. هم يُحتمل ان يسقطون في اتون كارثة أخلاقية.
بدون الرد على هذه الانتقادات التي ستتطلب وقتا حسب قوله، يطرح الكاتب ثلاثة أسباب تجعل السعي لتربية المواطنين المتنورين هو في المجمل فكرة جيدة.
1- السبب الأول سواء، أحببت ام لم تحب، نحن مسؤولون بشكل لا يمكن تجنبه عن عمل أحكامنا الاخلاقية الخاصة بنا. اذا كانت هناك سلطة في الكيمياء تأمرني ان أمزج بعض الكيمياويات ويؤدي انفجارها لقتل العديد من الناس، انا يمكن ان ألتمس العذر لنفسي بالقول انا كنت اتّبع التعليمات. لكن لو تطلب مني سلطة دينية ان أذهب وأقتل بعض من لا يؤمنون، اذا قمت بذلك، انا هنا لا استطيع أعذر نفسي بنفس الطريقة الاولى. انا اتحمل مسؤولية لا يمكن التهرب منها لعمل أحكامي الأخلاقية الخاصة، مسؤولية لا استطيع القائها على خبير مفترض بنفس الطريقة التي القي بها مسؤوليتي لإصدار أحكام تتعلق بالكيمياء او الفيزياء او السباكة. نظرا الى ان كل واحد منا يمتلك هذه المسؤولية التي لا يمكن تجنبها لعمل أحكامنا الاخلاقية، ألا يجب على نظامنا التعليمي ان يواجهنا بهذه المسؤولية، وايضا يضمن اننا نمتلك النضج العقلي والعاطفي الذي نحتاجه لتجسيدها بشكل صحيح؟ يقول الكاتب ان ذلك هو ما سيحصل عندما تقوم الفلسفة بعملها بشكل جيد.
2- السبب الثاني لتشجيع الجيل القادم على التحقق وفحص ما كنا نعتبره امرا مسلما به أخلاقيا، ولكي نفهم عواقب ذلك على معتقداتنا الاخلاقية الاساسية والتي ربما نحن غير مدركين لها هو انه من خلال هذا التفكير يتم تحقيق التقدم الاخلاقي. تقدم أخلاقي كبير في مواقفنا تجاه المرأة، والأعراق الاخرى شغل حيزاً كبيرا في القرن الماضي كنتيجة لإستعدادنا لمسائلة الرأي الأخلاقي السائد وتفكيرنا بالأشياء بالطريقة التي تتطلبها الفلسفة.
3- هنا اقتراح ثالث حول سبب اعتبار ان تربية مواطنين متنورين هي فكرة جيدة. ان الاتجاهات التقليدية والمرتكزة على السلطة فيما يتعلق بالتعليم الاخلاقي والديني – الذي يشجع مواقف الخضوع والقبول غير النقدي بدرجة ما – يميل لإنتاج أغنام اخلاقية moral sheep. الأغنام الأخلاقية قد تؤدي الشيء بشكل صحيح، لكن فقط اذا كان هذا هو مايفعله بقية قطيعهم.
مجتمع أخلاق الأغنام يمكن ان يكون سارا بما يكفي. مع وجود قطيع يتبع سلطة حميدة، سوف تختفي الجريمة والشوارع تخلو من القمامة. لكن مجتمع الأغنام الأخلاقية هو شيء خطير. عندما تأتي الى المشهد شخصية سلطوية كاريزمية جديدة وأقل تسامحا، فان القطيع سوف يتبعها بكل سرور، وربما في زقاق مظلم للغاية.
كيف نحقق أفضل حماية ضد هذا الخطر؟ البروفيسور جوناثان كلوفر Jonathan Glover، مدير مركز القانون الطبي والأخلاق في كلية كنغ بلندن، أجرى بحثا حول خلفيات كل من اولئك الذين هم أكثر تلهفا للمشاركة في القتل في بلدان مثل المانيا النازية او رواندا او البوسنة، وايضا اولئك الذين عملوا جاهدين لإنقاذ حياة العديد من الناس معرّضين أنفسهم لمخاطر كبيرة. وكما أوضح كلوفر في مقابلة مع الغاردين:
اذا انت تنظر للناس الذين وفروا الحماية لليهود في ظل النازية، انت تجد عدة أشياء حولهم. احداها هو انهم حازوا على نوع من التربية مختلف عما موجود لدى متوسط الاشخاص، هم مالوا ليتربّوا بطريقة غير استبدادية، كان لديهم حماس تجاه الناس الآخرين لمناقشة الاشياء بدلا من تنفيذ ما طُلب اليهم.
أضاف كلوفر: "انا أعتقد ان تعليم الناس ليفكروا عقلانيا ونقديا يؤثر كثيرا في قدرتهم على التصدي للايديولوجيات المزيفة". في كتابه (الشخصية الإيثارية: منقذو اليهود في اوربا النازية)، يشير المؤلف صاموئيل اولينر Samuel oliner الى ان أحد أهم الفروق بين آباء اولئك الذين أنقذوا اليهود وآباء اولئك الذين لم يحركوا ساكنا يكمن في التأكيد الذي وضعوه على التفكير:
"آباء المنقذين اعتمدوا بشكل كبير على التفكير وليس على العقوبة المادية".
آباء المنقذين اختلفوا عن آباء غير المنقذين في اعتمادهم على الاستدلال والتوضيحات وما اقترحوه من طرق لمعالجة الأذى الناجم بالاضافة الى طرق الإقناع والنصائح التي قدموها.
يضيف اولينر ان "التفكير يوصل رسالة الإحترام والثقة في الاطفال بما يسمح لهم للشعور بمعنى الكفاءة الشخصية والدفء تجاه الآخرين". بالمقابل، غير المنقذين مالوا للشعور انهم "مجرد بيادق، عرضة لقوة السلطات الخارجية".
تجدر ملاحظة ان اولنر وجد ان "التديّن كان فقط مرتبط بشكل ضعيف في الإنقاذ".
استنتاج
يعتقد البعض انه اذا أردنا تحصين الجيل القادم ومنعه من الإنزلاق الى نوع من الكارثة الأخلاقية التي طبعت القرن العشرين، فان أحسن رهان هو الدين. الكاتب ستيفن يرى ان الفلسفة هي رهان أفضل من الدين. انت تستطيع ان شئت تربية الاطفال وفق الايمان الديني. لكن يُستحسن ان لايُعلّم الطفل في مدرسة تحبط استقلالية التفكير لديه، وتضع العقائد الدينية خارج نطاق التفكير، او انها تشجع الاطفال للافتراض ان ما يؤمنون به من عقيدة دينية ليس مسألة خيار خاص بهم. يقول، بالطبع نحن جميعا نريد التأثير بما يؤمن به الآخرون وبالذات ما يؤمن به الجيل القادم. نحن لا نريد الجيل القادم من المواطنين ينشأون على أساس جنسي او عنصري. نحن بالتأكيد لا نريدهم يسقطون ضحية لاولئك الذين يلقنونهم العنف والايديولوجيات المتطرفة.
يقترح الكاتب انه اذا اردنا حماية الشباب من ان يُلقّنوا بمثل هذه الانظمة العقائدية المسمومة، فان أفضل دفاع لنا هو ليس تلقين أنفسنا اولاً، وانما هو إعطاء كل واحد من اولئك الشباب بعض الحصانة ضد ذلك النوع من التلقين.
هم سوف يحتاجون القدرة على التشخيص عندما يتعرضون للاستغلال عاطفيا، او عندما يتعرضون لخداع فكري وهكذا.
بالطبع هناك مخاطرة ترتبط بتربية الافراد ليمتلكوا تلك المهارات والشجاعة لتطبيقها. هم ربما ينتهي بهم المطاف فقط باستعمال القدرات الفكرية الجديدة المطلوبة لعقلنة تحيزاتهم، او تهيئة التبريرات لأي شيء يرغبون ان يكون صحيحا. تلك هي المخاطرة. لكن المخاطرة الكبرى تكمن عندما تتم تربية جيل من الأغنام الاخلاقية.
***
حاتم حميد محسن
.............
من منشورات جامعة كامبردج:
Philosophy and Raising Good Citizens, by Stephen Law, online Cambridge University press: 27 March 2024