أقلام فكرية

اسعد الامارة: الوهم في النفس بين الحقيقة ونقيضها!!

الحياة وهم نعيشه مرغمين بوجودنا، ولكن الحقيقة ليست كذلك.. أين تكمن الحقيقة؟

الوهم هو الألم في هوية صامته لا تعبر عن نفسها إلا بما خزن في النفس وصار حقيقة لا يدانيها الشك، فالفرد حين يدخل عالم الوهم لا يستطيع أن يتخلص منه إطلاقًا، لأنه غلاف النفس من الداخل وضبابية لا رؤية أخرى فيها، فتعم الذاتية المطلقة بدل الموضوعية في رؤية الأشياء، والأمر أمر موضعة، لأنها لا توجد موضوعية، فقبولها يصبح حقيقة ووهم.

 ويرى الفلاسفة ومنهم " كيركجارد" أن الكائن البشري محكوم بالتوتر بين ما هو عليه وما يجب أن يُكونهُ، فهو يبحث في الوهم الخيال الذي يراه واقعي، لا يتنازل عنه، أو لا يستطيع رفضه، ربما هذا الوهم مقدس – الدين إنموذجًا – عند كل الديانات السماوية وغير السماوية، أو الفلسفات ذات الطابع الديني، أو وهم سياسي، أو وهم الشعور بالعظمة والقوة، أو الوهم بأنه يمتلك بتحقيق الوجود الذي لا ملامح له، لذا فإن الفرد لا يستطيع الفكاك منه بل بنفيٍ داخلي لقدرة الذات على الفعل، على أن تكون واقعية، حقيقية، ترى بعين أكثر موضوعية. إنه النموذج البدائي الذي نصادف موضوعاته لدى أفراد يعيشون بيننا في أيامنا هذه، في خيالاتهم وأحلامهم، هذياناتهم وضلالاتهم، هذه الصور النموذجية، وما يتصل بها، هي ما أطلق عليه اسم الأفكار البدائية، وكلما اشتدت حيوية هذه الأفكار اشتدت حدة المشاعر الناجمه عنها، فهي تنطبع وتؤثر فينا وتفتتنا، هذه الأفكار البدائية تستمد أصولها من النموذج البدائي الذي هو – بحد ذاته – شكل سابق الوجود، غير شعوري، وغير قابل للتمثيل، ويبدو جزءًا من بنية النفس الموروثة كما يراه " يونغ"

دخل الكثير من السياسيين في دوامة الوهم، ومن قاد دولته إلى الإنهيار معتقدًا بوهم النصر وتحقيق المكاسب والنجاحات. أما الوهم لدى الفصامي فهو وهم فلسفي، لأنه يتكلم فلسفة، وسماها أطباء النفس الفلسفة الكاذبة، فهو يعتقد بأن أفكاره تسرق، وإن المخابرات العالمية تطارده لأفكاره، حتى صاحب الشخصية البرانويه " برانويا العظمة " تسيطر عليه أوهام العظمة.

نتساءل ويتساءل معنا بعض العقلاء هل نحن نفكر فعلًا؟ إذا كنا كذلك فمن أين يداهمنا الوهم، وكيف يغلف تفكيرنا بضبابية معتمة لا رؤية فيها، رغم أننا نتحصن بما نؤمن به حتى وإن كان وهم من أوهام تاريخية – حفرية من حفريات الحضارات التي سادت ثم بادت وشكلت سلوكنا وطريقة تفكيرنا، فهي تراكم آثار الحضارات القديمة وغبارها، وما تبقى في النفس وخير من يعرف ذلك من درس انثربولوجيا الإنسان، والانثروبولوجيا الثقافية.

إن العوامل الذاتية تلعب الدور الأكبر وبالأخص الميول والاستعدادات الذاتية لكل فرد، تلعب دورًا يصعب تقييمه عندما يكون القصد تكوين مثل ذلك الحكم كما عبر عنه " سيجموند فرويد " في كتابه مستقبل وهم. ويضيف " فرويد " أن الناس يعيشون الحاضر عادة على نحو ساذج اذا جاز التعبير ويعجزون عن تقييم ما يحمله إليهم، فالحاضر لابد له من أن يكتسب بعض التراجع، أي أن يصبح ماضيًا حتى يمكنه أن يقدم بعض نقاط ارتكاز ليبني عليها حكم بصدد المستقبل.

وهم الحقيقة، وحقيقة الوهم!!

نعيشها كل لحظة في كل يوم ولا ندركها، وإن أدركنا بعض منها نهرب إلى موضوع آخر، بمعنى أدق نزيحها كما تعودنا في استخدام ميكانيزمات – الحيل – الدفاع، هروبًا منها لإننا لا نريد أن نكشف الوهم في داخلنا، فنتبجح بالنصر ونحن مهزومين، ونتبجح بالصحة ونحن مرضى، ومنها بدأت فكرة الذهاني " مريض العقل " حينما يرفض الاعتراف بأنه مجنون، ويتهم الطبيب الذي يعالجه بأنه هو المجنون. فهذا جزء من وهم الصحة، أو من يعتقد بالتدين الصحيح ولكن يكشف زيفه أول مواجهة بين الحق وشبيهه فيذهب إلى شبيه الحق بحيلة شرعية كما يسميها بعض المتدينين وهو ما نعنيه الوهم في النفس بين الحقيقة ونقيضها.

كثير من أولئك المتدينين ممن يمارسون الشعائر الدينية في العلن ولديهم أعتقاد عميق بما يؤمنون ولكن الواقع يكشفهم، فضلا عن غطاء الوهم الذي لا ينجح في كبح هذه الرغبة في تحقيقها، أو ما تمارسه بعض النساء من وهم الشعور بالسطوة والقوة، ولكن يظهر زيف هذه القوة بسطوة الرغبة الجنسية الجامحة أمام مخلوق بشري ليس جدير بالاحترام، لا نقول غير أنها النفس في ما ترغب وهو وهم، وما تريد وهو وهم، وما تعتقد أنه حقيقة ولكنها وهم الحقيقة، ونقول هي النفس في صدقها مع نفسها، وفي توهمها مع نفسها والأمر سيان لأن النفس هي هي.. في الرغبة الأولى، وفي تأثير الوهم. وعند " جاك لاكان " الأب الرمزي هو القانون، أو الأب المقتول " الميت " حيث لا يمكن لأحد أن يحل مكانه إلا في حالات الأنظمة الديكتاتورية، حيث يصبح الحاكم هو القانون، والقانون " هو " يشرع القوانين على هواه، الأب الرمزي يشير إلى الفراغ أي إلى النقصان، أي عمل يملأ الفراغ يحيي الشعور بالذنب المرتبط بقتل الأب كما عبر عن ذلك " عدنان حب الله" وهذا هو لب الوهم بالأبوة ورمزيتها التي تحولت إلى مفهوم سياسي سلطوي، والأمر نفسه عند رجل الدين الذي يقود أتباعه إلى ما يعتمل بداخله من أوهام وخيالات واعية أو لاواعية، ويظهر لنا " عدنان حب الله" في وهم الأب المخيالي حد التقديس للأب وهذا ما يهمنا في مبحثنا حيث يحمل الأب المتخيل في طياته كل هذه الصفات التي تعود إلى الأب البدائي، صورة المنقذ القوي الرادع ضد فكرة الأله قبل التوحيد، أي رادع إله الزوابع، أو الأقدار، أو المعالج ضد الامراض، أو حتى قابض الأرواح التي ينقلها إلى عالم الخلود، يمكننا القول أننا نعيش الوهم منذ الخليقة وما بعدها في التحضر وفي عصر التطور التكنولوجي.

نعرض بعض الأمثلة القديمة عن الأوهام عن الروح لدى القبائل البدائية حيث يكون من المفترض أن الروح تخرج من المنافذ الطبيعية للجسم كما تعتقد بعض الأقوام البدائية، خصوصًا الفم والمنخرين " الانف " لذلك نرى قوم " سيليب " يربطون أنف المريض وسرته وقدميه بصنابير صيد السمك كي تعلق الروح بالصنارة عندما تهرب، ويرفض قوم تيوريك على بارام في بورنيو أن يفارقوا ومعهم حجارة تشبه الصنارة لأنها تربط الروح بالجسد وتمنع انفصال الروح عن المادة، وعندما يبدأ الساحر من البحر عمله، من المفترض أن تملأ الصنابير أصابعه ليتثبت بوساطتها من الروح البشرية عندما تطير بعيدًا ثم تلتقط أرواح الأعداء بالاضافة إلى أرواح الأصدقاء وعملًا بهذا المبدأ يعلق صيادوا الرؤوس في بورنيو صنابير خشبية بجانب جماجم أعدائهم المقتولين معتقدين أن هذا يعينهم في غزواتهم على التقاط رؤوس جديدة، كما ذكر هذا " جيمس فرايزر " في كتابه المهم الغصن الذهبي ويضيف " فرايزر" ومن وسائل الطبيب أو الساحر في " هايدي" عَظمَةٌ " عظم " مجوفة يحبس فيها الأرواح المغادرة ثم يعيدها إلى أصحابها، ومن أوهام الشعوب القديمة أيضًا كلما تثاءب الشخص بحضور الهندوس ينقفون بابهامهم معتقدين أن هذا يعيق خروج الروح من الفم المفتوح، وكذلك كما أعتاد قوم " الماركويسكان " أن يسدوا فم وأنف الشخص الذي يحتضر كي يحافظوا على حياته ويمنعوا روحه من التسرب، ومن أوهام الشعوب حيث يقوم قوم الـ " إيتوناما في أمريكا الجنوبية" بسد عيني وأنف المحتضر كي لا تخرج روحه وتأخذ معها أرواحًا أخرى، وكذلك يعمد أهالي نياس خوفًا من أن تقوم الأرواح الخفية بالتعرف على الجسد خلال النَّفَس – التنفس. هذه الأوهام في عادات الشعوب التي تناقلتها الأقوام وظلت مع ظهور الحضارة وتطور الإنسان وازدياد التعليم والتكنولوجيا إلا انها ما زالت عند  بعض الاقوام في مجتمعاتنا الشرقية المعاصرة مثل تأثير العطسه حينما ترى فيها، بأنها بشرى لتأكيد قول في حضرة الآخرين مثل ما يقولون هذه بـ شهادة، أو عندما يزحف الطفل وهو يمشي منذ سنوات، فإن هناك ضيوفًا سيقدمون إلى هذه الأسرة، أو حينما يحلم الكبير – الرجل أو المرأة بحلم يفسر على انه بادرة خير، أو شؤم. أو حينما يسافر أحد أفراد الأسرة يقذف بعض الماء خلفه إيمانًا بعودته سالمًا.. وهناك الكثير من الأوهام التي تم توارثها.

ولو استعرضنا رؤية " بول ريكور" التي ينقلها عن رؤية التحليل النفسي عند فرويد لوجدنا أن للأخلاق والدين جذعًا مشتركًا، العقدة الأبوية ذات الأصل الأوديبي وبهذا المعنى تكون نظرية الوهم عنوان زاوية في نظرية المثل وَتكُون ما يمكننا أن نسميه خيالي الأنا الأعلى، إنها مرحلة التنسيق المرتبطة بمرحلة التحريم. ويضيف " ريكور " أن مشكل الوهم إنه ذو علاقة بقراءة شيفرة رموز العلاقات الخفية بين الأعتقاد والرغبة. وينقل أيضًا من فرويد في كتابه مستقبل وهم: ما يميز الوهم أنه مشتق من غرائز الإنسان.. ونحن نسمي اعتقادًا أنه وهم عندما يكون إنجاز الرغبة عاملًا سائدًا من عوامل دافعيته، في حين أننا لا نأخذ بالحسبان علاقته بالواقع، شأنه تمامًا شأن الوهم الذي يرفض الواقعي أن يؤكده " كما يراه لاكان في سيمناره " فهذا التواطؤ بين تحديد محتوى الرغبة وتعذر التحقق يُكّون الوهم، والفارق بين الوهم والهذيان لم يعد عندئذ سوى فارق في الدرجة، النزاع مع الواقع مستتر في الوهم، ومكشوف في الهذيان. وفي نهاية القول نرى أن وجهة نظر فرويد هي أن للأفكار الدينية في الأزمة الغابرة أعظم نفوذ وأقوى تأثير على البشرية ونقول تبقى تشكل سلوك الكثير من الشعوب، فقراءة الطالع، وقراءة الكف، وقراءة الحظ والبخت هو السائد في حضارتنا اليوم، فأفضل مثل على ذلك أن معظم الرؤساء والملوك لديهم من هذه الشريحة يالتي تقوم بقراءة الطالع لمعرفة المستقبل ويدفع له الملايين لكي يعرف هل أنه سيبقى في الحكم أم هناك من يدبر له أمرًا في ليلٍ.

***

د. اسعد الامارة

 

في المثقف اليوم