أقلام حرة

الضغوط البشعة والضغوط الجميلة

الحكومة لا تعير أهمية لرأي الشارع العراقي. 

المشكلة لدى المطلك أن الحكومة لم تنسجم مع "رأي الشارع العراقي" في حياتها، كما فعلت هذه المرة! ولعل المطلك كان غاضباً، لأن الحكومة هذه المرة، "لم تعر أهمية لرأي الحاكم الأمريكي"، وليس "الشارع العراقي". ليس "رأي الشارع العراقي" هو ما يقف مع المطلك، فلم يكن "الشارع العراقي" هو من أرسل الوفود لتضغط من أجله، ولم يكن "الشارع العراقي" هو من دخل إلى غرفة الهيئة التمييزية لـ "يقنعها" بأن تقول ما أسعد المطلك في أول الأمر.

 

لو راجعنا هذه "الضغوط البشعة" التي مارستها الحكومة على الهيئة التمييزية، وهي ضغوط لا ينكرها أحد، لوجدنا أن تلك الضغوط  لم توجه نحو "تغيير" قرار للهيئة التييزية، وإنما كما قال المطلك نفسه بانتباه، من أجل "إصدار" قرار! كما يفترض بالهيئة أن تفعل، وهو ما لايبدو أن المطلك يريده. فقضيته يائسة، والنص الدستوري واضح وينطبق عليه تماماً، وأي "قرار" يصدر لا بد أن يكون ضده، لذا لم يجد بايدن سوى فخ "التأجيل"، وهو أقصى ما يأمل به المطلك.

ولو كان التأجيل مجرد تأجيل، ولم يكن فخاً، لما كلف بايدن نفسه أن يأتي من هناك من أجله، ولما تحملت السفارة حرج فضيحة الضغط المباشر على التمييزية، والإصطدام بالحكومة وفضح مخططاتها أمام الشعب العراقي. تلك المخططات التي طالما حرصت في الفترة الأخيرة على إنكارها. ولو كان التأجيل مجرد تأجيل، لما أنتفض المطلك وعلاوي وبقية "العراقية" بهذا الشكل الهستيري دفاعاً عنه. فإن كان القرار سيكون بالسماح للمطلك، فليكن الآن ليفهم الرجل و "الشارع العراقي" دربهم، وإن كان العكس، فماذا سيستفيد المطلك وشارعه من الترشيح، وثم منعه بعد ذلك من ممارسة العمل النيابي؟ كل هؤلاء، من مطلك وصحبه إلى بايدن والسفير الأمريكي، كانوا يعلمون جيداً أن التأجيل سوف يكفي لطمس القضية كلها، إن لم يكن سيثير مشكلة انشقاق أكبر بكثير، وهو أمر ليس غريب عن تاريخ مخططات بايدن للعراق.

 

أن التشويش الإعلامي الذي صاحب ويصاحب هذه القضية يدعونا لمراجعة ما حدث ووضعه بكلمات بسيطة:

 

ما حدث أن الهيئة التمييزية، وبعد ضغط أمريكي صريح، "رفضت" إتخاذ قرار!  وما ضغطت به الجهات التي دعمت هيئة المساءلة هو ان الهيئة التمييزية "ملزمة أن تتخذ قراراً".

 

الهيئة التمييزية، وبعد ضغط مباشر وصريح، متمثلاً باجتماعات مع الجهات الأمريكية استمرت أربعة ساعات، وبدون أية مناسبة, رفضت اتخاذ قرار قضائي بشأن شمول الأشخاص المعنيين بقانون المساءلة، وقامت بدلاً من ذلك بتقديم "رأي سياسي" أو "نصيحة" أو "فتوى" ، لا ندري ما نسميها، لحل المشكلة مؤقتاً، بالسماح للمعنيين بالترشيح للإنتخابات وأن يتم النظر في مسألة شمولهم بالمساءلة فيما بعد!

هيئة المساءلة اعترضت بأن التمييزية لم تجب عن سؤالها، وإنما عن سؤال آخر لم يطلب منها أحد المشورة حوله.

 

المشكلة التي ادعت التمييزية أنها تمنعها من إتخاذ القرار، هي ضيق الوقت.

 

والرد الطبيعي في مثل هذه الحالة أن تطلب التمييزية إعطاءها بضعة أيام أخرى، وتتفاوض مع المساءلة حول الموعد وحول عدد القضايا التي يمكنها ان تقدم تقييماً لها.

ولو أن مثل هذا الرد لم يخطر ببال التمييزية، على غرابة ذلك، و اكتفت التمييزية بالإعتذار عن القرار لمشكلة ضيق الوقت، وأعادت الملف إلى المساءلة، لأمكن للمساءلة أن تبحث بنفسها عن حل لمشكلتها. كأن تعيد للتمييزية عدداً أصغر مثلاً، يتناسب مع ما تعتقد التمييزية أنها قادرة على إنجازه ضمن المدة المتبقية. ويمكن للمساءلة أيضاً أن تقتنع باعتذار التمييزية وترفع المسألة إلى هيئة قضائية أخرى للنظر فيما يجب العمل في مثل هذه الحالة. لكن ما فعلته الهيئة التمييزية هو أنها لم تكتف بالإمتناع عن إصدار القرار القضائي، بل حاولت أيضاً قطع الطريق على المساءلة من إيجاد حل للفراغ القانوني الذي وضعتها فيه، وحددت بنفسها  ما يجب عمله في حال عدم تمكنها من القيام بواجبها (1) في الموضوع! وكانت تلك خطة بايدن بحذافيرها!

 

إن لم يكن هذا التطابق التام، صدفة من صدف الدهر العجيبة، فلا تفسير له سوى أن التمييزية خضعت لضغوط أمريكية لتبني موقف بايدن. هذه الضغوط الأجنبية، والتي يفترض أن تعتبر "أبشع الضغوط" على الإطلاق، يتجاهلها صالح المطلك وظافر العاني وأياد علاوي وطارق الهاشمي وصولاً إلى ميسون الدملوجي وبقية العراقية والمدافعين عن نفس الموقف. فلا تجد شخصاً واحداً منهم يصل من الإلتزام بالموضوعية، بأن يشير إلى تلك الضغوط، على الأقل من جانب التوازن، ولو تلميحاً!

 

وعلى أية حال، لقد تبين فيما بعد أن تقدير التمييزية بأن ضيق الوقت يفرض التأجيل كحل وحيد، تقدير خاطئ، فهاهي تنفذ المهمة المطلوبة منها، (مع بعض التعديلات على الفترة الزمنية وعدد القضايا). إذن فالقضية أمريكية 100% و"الشارع العراقي" بريء منها كبراءة الذئب من دم يوسف.

ليس ذلك غريباً، فلدى نعوم جومسكي ووليام بلوم في كتبهم أمثلة لا تحصى من تاريخ الولايات المتحدة في إعادة الفاشست إلى السلطة أو فرضهم عليها في كل قارات العالم التي تعرضت لإحتلالهم أو تواجد جيوشهم أو سلطتهم على ارضها، من أميركا الجنوبية إلى آسيا وأفريقيا، ولم تسلم من ذلك حتى أوروبا الغربية في نهاية الحرب العالمية الثانية.

 

وقد يتساءل المرء: لماذا تريد أميركا فرض البعثيين على الحكومة؟ ما الذي تريده من الحكومة العراقية أكثر مما قدمته لها الحكومة الحالية؟ ربما يتصور المرء أن التنازلات (التي نرفضها) والتي قدمتها الحكومة الحالية، هي أقصى ما يمكن أن يريده الأمريكان للعراق. إن ذلك يعبّر عن محدودية الخيال، فهناك الكثير، على مستوى النفط والإقتصاد وبقاء القوات والعلاقة مع إسرائيل، ما لا يوافق عليه إلا "بايع ومخلص" من أمثال من لايخجل من تمجيد حكم دموي مرير تسبب بالمصائب والآلام للشعب. مثل هؤلاء هم وحدهم المستعدين لكل شيء بلا استثناء.

 

أن الحكومة المفضلة للإحتلال، هي ليست بالذات حكومة تتوافق معه، أو تتفق مصالحها معه فقط، بل حكومة - عصابة ليس لها أي سند شعبي، تعتمد في بقائها عليه وعلى استمرار سلطته، وإن احتاج أن يزيحها لأي سبب، فلن تقاوم ذلك. فمهما كان البرزاني والطالباني أمريكيي العواطف والمصالح أو مستعدين لتبنيها مثل عمار الحكيم أوعادل عبد المهدي ، فأن نقطة ضعفهم بالنسبة للإحتلال، أن لديهم جماعهتم الخاصة المساندة لهم. المحتلون يفضلون صالح المطلك وعلاوي وأمثالهما ممن يعتمدون في وجودهم ومناصبهم وربما حياتهم على بقاء وقوة السلطة الأمريكية في البلاد. هؤلاء لا يمكن أن يتغيروا مستقبلاً مع مصالح من يمثلونهم، لأنهم لا يمثلون أحد، وليس لديهم "حزب" قد يضغط عليهم يوماً. هؤلاء يكادون يعملون لبقاء الإحتلال بلا رقابه. إنهم المرونة القصوى والطموح الأكبر والحلم الأجمل لأي احتلال.

 

وفي حالة العراق، لدى الأمريكان ثلاثة أسباب إضافية على الأقل لفرض سلطة منحطة تابعة لها، وهي أهمية النفط العراقي، والموقف من إسرائيل، وأخيراً حقيقة أن الحكومة القادمة هي التي ستقرر تنفيذ ما أسمي بـ "إتفاقية سحب القوات" أم ستسمح للقوات الأمريكية بالبقاء. إن من يصدق إدعاءات الأمريكان برغبتهم في الخروج بسرعة، ليس بأفضل ممن صدق ادعاءاتهم التي لم تقل كثافة وإصراراً بأنهم لا يدعمون حزب البعث، قبل أن تحدث هذه الأزمة الأخيرة. إن أعمال الأمريكان وتحليل مصالحهم تشي بما يريدونه بشكل أفضل مما تشي بها تصريحاتهم. وقد جاء تصريحات طارق الهاشمي إثر زيارته الأخيرة لواشنطن مؤكدة (دون أن يعي) هذه النقطة، (2) وطموحات الإدارة الأمريكية بوصول حكومة عراقية تسمح لها بالبقاء، رسمياً وبشكل تام، بعد الموعد المحدد في الإتفاقية.

 

إنني أوافق المطلك في تقديره لـ "حجم الضغوط التي يتعرض لها القضاة ، ومعاناتهم جراءها"، ومثله كنت آمل منهم أن "يضعوا نصب اعينهم مدى الاثار السلبية التي قد تقع على حياة العراقيين ومستقبلهم" جراء قرارهم. لكن ما اختلف به مع المطلك هو مصدر الضغوط الأساسية والمخاطر التي يتعرض لها القضاة.

فلم يُقتل أي من الذين وافقوا على المعاهدة الأمريكية، لكن أحد أهم النواب الصدريين الذين قاوموا الضغط الأمريكي، دفع حياته ثمناً لموقفه. ولا تقتصر التهديدات على القضاة، بل يلجأ جانب المطلك إلى تهديد الحكومة والبلاد بالحرب الأهلية والإرهاب، بشكل مبطن، كما يفعل أياد علاوي، وبـ "أصعب القرارات" (3) التي لا ندري كيف نفسرها.

 

لا أدعي أنني مطمئن إلى مبدئية الجانب المخاصم للمطلك، وقد كتبت عن ذلك كثيراً، لكن ذلك الجانب يقف في هذه اللحظة الموقف الشعبي والدستوري، على العكس من جماعة المطلك، الذي يعتمد على الدعم الأجنبي بشكل شبه تام، ويضع آماله عليه. فهؤلاء الأخيرين لا يتمتعون بدعم شعبي كاف داخل العراق. وكانت التظاهرات التي تمكن هؤلاء من تنظيمها، من أجل إعفائهم من تطبيق المادة السابعة من الدستور عليهم، ضئيلة للغاية مقارنة بتلك التي خرجت لتحتج على ذلك الإعفاء والسماح لهم بالمشاركة بالإنتخابات.

يحاول المطلك أن يقنعنا بأن "الشارع العراقي" خرج في تظاهرات لتأييده، لكن قراءة منتبهة للأخبار تكشف أمراً مختلفاً. فمثلاً جاء في خبر من مراسل "فرانس برس" أنه قد : تظاهر عشرات من مؤيدي صالح المطلك (4) قرب مقره في شارع الزيتون مطالبين بالسماح له بالمشاركة في الانتخابات. ويقول الخبر أن المتظاهرين رفعوا صور المطلك ولافتات كتب عليها "كل العراق معك"

"عشرات المتظاهرين" و "كل العراق معك"! ورغم أن تظاهرات أخرى عدت بـ "المئات" إلا أنها تبقى قطرة في بحر التظاهرات المضادة للمطلك.

 

بالمقابل ينزعج المطلك من التظاهرات ضد قرار الهيئة التمييزية الأول، فالتظاهرات التي تؤيده هي وحدها "الشارع العراقي". قال ان تلك التظاهرات تهدد القضاء العراقي، وعبر عن مخاوفه من ان تؤدي هذه الاساليب (التظاهرات) الى اجبار الهيئة التمييزية على اتخاذ قرارات لا تصب في المصلحة الوطنية". (5) على العكس من التظاهرات المؤيدة له طبعاً.

 

أما الهاشمي فقد كان أكثر مباشرة فيمن يعتمد عليه، فبين أنه يريد من الولايات المتحدة المضاعفة السريعة لجهودها العلنية والسرية " (6) المأزق السياسي العراقي، ولمنع تدهور الأمن"!

 

بمقابل هذه الشحة في الدعم العراقي والتركيز على الدعم الأمريكي والعربي، فأن التركيز الإعلامي العالمي والعربي، كان شديد التحيز لصالح المطلك والهاشمي وعلاوي، وهم يسيطرون على المقابلات ولقطات الأخبار في قنوات الجزيرة والعربية والصحف العربية (الأمريكية والبريطانية) الكبرى.

ويركز إعلام الجانب الأمريكي – المطلك، على الضغط العراقي على التمييزية، وأهمل تماماً الضغط الأمريكي على تلك الهيئة، والهادف إلى الضغط لإجبارها على تبني موقف نائب الرئيس الأمريكي بايدن.

 

وقد انسجمت تصريحات مؤيدي المطلك مع تلك الصورة الإعلامية، فاعتبرت الناطقة باسم القائمة العراقية النائب ميسون الدملوجي في تصريح الى «الحياة» (7) ان «إصدار سياسيين ومسؤولين في الدولة بيانات حول عمل هيئة التمييز يمثل تدخلاً واضحاً في عملها». ويبدو أن اجتماع أعضاء السفارة وما نتج عنه، لم يكن "واضحاً" في نظر ميسون التي  دعت "المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء لممارسة دورها في الحفاظ على عدم التدخل" (8) بالقرارات. وطبعاً لم يكن المقصود إن يشمل ذلك منع الأجانب من التدخل بتلك القرارت.

 

أما ظافر العاني فلاحظ  (9)ان احمد الجلبي وموفق الربيعي رئيس تيار الوسط كانا خلال الايام الماضية في ايران ولذلك فإن قرار التمييزية يعني "ان التعليمات الايرانية لاستبعادنا قد وصلت الى الحكومة العراقية ".وأقر أنها ملاحظة مثيرة للإهتمام، لكني أستغرب أنه لم يلاحظ أن الهاشمي على سبيل المثال لا الحصر، كان في واشنطن، وعسر عليه أن يلاحظ أن واشنطن نفسها كانت في البرلمان وفي غرفة الهيئة التمييزية!

 

ودعا حيدر الملا من العراقية،(10) القضاء العراقي الى " ان يكون بمستوى المسؤولية التاريخية مثلما وقفها قبل ايام".  أي أن الملا يدعو القضاء العراقي إلى التحلي بـ "المسؤولية التأريخية" التي وقفها عندما خضع للضغط الأمريكي و أصدر "قراراً" كتبه بايدن دون أي تعديل! وإلى درجة أن تقريراً أمريكياً أضطر إلى الإشارة إلى حدة تلك المفارقة المحرجة، ووصف قرار الهيئة بأنه تأثر الى حد كبير بوجهة النظر الأميركية، وكان على اعضاء (الهيئة) أن "يأخذوا بالحسبان موقف الاطراف السياسية من مبادرة بايدن، لكي يتوقعوا كيف ستكون ردة الفعل أمام قرارهم."! (11)

 

لماذا ينتبه ويثور ممثلوا العراقية بهذا الشكل من الضغوط التي تأتي من الجانب العراقي على الهيئة التمييزية لكي تقوم بواجبها وتتخذ قراراً، ويفشلون تماماً في أية إشارة إلى الضغوط الأمريكية التي وجهت لكي تمنعها من أتخاذ قرار؟

 

لعلنا نجد دليلاً لهذه الأحجية في كلمة صالح المطلك الذي وصف الضغوط الأولى بأنها "ضغوط بشعة". فلا بد أنه وعلاوي وظافر وبقية "العراقية" يرون أن الضغوط الأمريكية الأجنبية، والتي حددت للهيئة التمييزية بالضبط ما يجب أن تقوله، "ضغوطاً جميلة"!

 

......................................

(1) http://al-iraqnews.net/new/siaysiah/54638.html

(2) http://www.yanabeealiraq.com/articles_10/s_kalil050210.htm

(3) : http://www.yanabeealiraq.com/news_2010/n11021007.htm

(4) http://www.alquds.com/node/236084

(5) http://www.yanabeealiraq.com/news_2010/n11021007.htm

(6) http://www.yanabeealiraq.com/news_2010/n13021004.htm

(7) http://www.yanabeealiraq.com/news_2010/n13021028.htm

(8) http://www.alquds.com/node/236084

(9) http://www.yanabeealiraq.com/news_2010/n13021003.htm

(10) http://www.yanabeealiraq.com/news_2010/n11021007.htm

(11) http://iraqshabab.net/index.php?option=com_content&task=view&id=31624&Itemid=1

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1318 الاثنين 15/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم