أقلام فكرية

مصطفى غلمان: في الذكاء الاصطناعي: عزلة الكائن الرقمي

ـ "ما يجعل المشكلة أسوأ هو أننا قلما ندرك أننا داخل منزل من المرايا، وهذا الانعزال يجعلنا أكثر جهلا. فنحن نفشل في تقدير وجهة نظر الطرف الآخر. وفي المناسبات الناذرة التي نسمع فيها ما لدى الخصوم، يبدون جاهلين، لأنهم يفشلون في فهم وجهة نظرنا. إنهم يصفوننا بشكل مبسط، دون أي تقدير للتفاصيل الدقيقة وعمق موقفنا". (س سلومان/ ف فيرنباخ)1.

من البدهي أن تصير النظرية الإعلامية المعاصرة، في انصرافها إلى تمثل مناهج التحديث الجديدة الداعية إلى الملاحقة والتطوير وتأويل الحدث، أن تتعبأ معرفيا ونفسيا بنظرية بايز الشهيرة، التي ترتجع احتمالاتها السابقة، في ضوء الأدلة المنظورة، مما يدفع إلى تشكل احتمالات لاحقة. وهو ما يؤشر لتوفر طريقة منهجية لتحديث هذه الاحتمالات، مما يضمن بقاءا تفكيريا متسقاً ومنطقياً.

ـ الإعلام كقيمة استدلالية

تلتقي نظرية بايز المذكورة، بالطفرة التكنولوجية الإعلامية الراهنة، التي تتماشى وانتهاج المسار الإحصائي الذي يتضمن تحديث الاحتمالات بناءً على البيانات المرصودة. ومن خلال دمج المعرفة السابقة والأدلة الجديدة، حيث يمكّننا الاستدلال البايزي (الإعلامي تحديدا) من اتخاذ قرارات وتنبؤات أكثر استنارة.

التفكير بهذه الثنائية المتشابكة، يحيلنا إلى حاجتنا الملحة، لإعلام يحتذي لبيانات أكثر تجسيدا لإرادة التغيير، بما هو علامة واعية بالتنشئة الاجتماعية التي توفر هامشا من الاستقبال الفردي والجماعي للمحتوى والسلوك المحفوف بالمخاطر؟.

لقد دعت ديفينا فراو ميغس، وهي أستاذة بجامعة باريس الثالثة في علوم الإعلام والاتصال وفي اللغات والآداب الإنجليزية والأنجلوسكسونية، إلى إعادة النظر في الإنتاج الثقافي الإعلامي في ضوء الأسس العصبية للسلوكيات الاجتماعية (2)، وهو ينطوي في نظرها، على تطوير رؤية تكاملية حيث تؤثر الآليات المعرفية والعوامل الاجتماعية على بعضها البعض بشكل متبادل. حيث إنه ينطوي على تصور للطبيعة البشرية باعتبارها اجتماعية في جوهرها لأن "رفاهيتنا" بنظرها تعتمد على تفاعلاتنا مع الآخرين.

هذا الإدراك الحاصل في بنية تلقينا للإعلام كنتاج سلوكي واجتماعي، يقدم صورا مشهدية مغايرة للوظائف التقليدية التي انبنت عليها الطفرات الإعلامية عبر ثلاثة عقود على الأقل. إذ كانت تؤسس وجودها الاعتباري، في بدايات القرن الذي ودعناه، على أنماط لا تحقق فيها المعارف اللازمة، بعد أن تم تكريس مفاهيم مضادة أو نقيضة للأخلاقيات الصحافية، وما إليها من قيم النشر والإتقان وأنساق المعنى الموازية. وسرعان ما زكت ماكينات الإعلام الجديد ، بسلطها الرمزية وتداخلات ثخومها وأحوالها، في بنى المجتمع والإنسان. ما أهلها للعب أدوار بديلة، تتربع على أعرش السبق والانتشار الواسع، مع الكثير من إهدار أدوات العسف والتنطع والانبهار الزائف.

وأسقطت البروبغندا العصرية المتنطعة، آخر قلاع القيم المؤسسة، فبدا الوعي بالنصوص والصور المتحركة وباقي أنماط وقياسات الإعلام الأخرى، كأنها تنافس على تشكيل مخزون مجافي لتمظهرات الوعي الحقيقي بهذا المنظور الهش والمتآكل؟.

ـ خوارزمية افتراضية هجينة

وفي حدود هذه النمذجة المتشاكلة والمبهورة بنرجسيات الصرعة التكنولوجية الجديدة، تظهر العديد من إواليات هذه الإحداثيات، كظهور الأجهزة والمنصات الجديدة، التي تمكن من التواصل والعمل بسلاسة أثناء عملية التلقي عن بعد أو أثناء السفر، في المنازل والمكاتب أو حتى الشارع العام، مع إمكانية الحصول على المعلومات وتشغيل الأشياء بجرة إصبع أو صوت أو حس. وهو ما يجعل صلب تأثير مجال الاتصالات، على وجه الخصوص، بشكل كبير بالوسائط الرقمية والتكنولوجيا، أمرا في غاية العجب والذهول.

وعند استشفاف وسائل وطرق تصريف هذه الخوارزمية التي غيرت بها الوسائط الرقمية الاتصالات، أحوالا وبدلت أزمنة ونهضت بأفكار ورؤى، نجد أن وسائل الإعلام الجديدة بالمقابل قد نسفت تماما متماثلاتها النصية بكل ما تعني الكلمة من معنى.

لقد خلقت التكنولوجيا الجديدة فرصًا جذابة، لرواد العالم الافتراضي، بمن فيهم المعلنين والمؤسسات الإعلامية للتواصل مع الجماهير، حيت اعتاد الناس على الاعتماد على الصحف والتلفزيون للحصول على المعلومات، وبأقل جهد أضحت  العديد من القنوات الفضائية والعوالم الافتراضية الاجتماعية من وسائل التواصل والبودكاسات وغيرها والمنافذ التي يمكن للأشخاص من خلالها استهلاك المحتوى، بما في ذلك مواقع الويب ومنصات الفيديو، تشكل بؤرا للتغيير في جوهر البنى الخلفية للتلقي، وتشاكس أكبر امتدادات التحيين والتوجيه والاسترشاد والمواكبة والمراقبة وإبداع الروابط وتفتيق أبعادها ومواعيدها، حتى أبلغت حدودها القصوى، المكامن العميقة لاستدعاء "التفكير" كتطور آني وخالص لدعم الأفعال المعقدة، اعتمادا على الفرد فقط، وبدون أي خلفيات. (3).

أما ما يعنينا في هذا الباب بالضبط، فيمكن استيعابه على درجة من التأمل والشك. إذ يبدو الوضع في مثل إعادة استهداف الإعلانات، التي تتبع مستخدمي الويب أثناء زيارتهم لمواقع مختلفة، وخلال تموقعنا الافتراضي، وفي مواجهتنا لسيول من المحتويات والصور والفيديوهات المبثوثة، كأننا نمخر في عباب كسيح ومعطل من الرسوبات الثقافية والإحالات والرموز المكسوة بعطور لا تدركها حدوس العقل وموجهاته.

وينطبق هذا الافتئات المروع لعوالمنا المشهودة، كما هو الشأن بالنسبة للإعلانات الأصلية، التي تشبه المحتوى التحريري في أحد المنشورات، حيث يدفع ثمنها أحد المعلنون المروجون لمنتجاتهم أو خدماتهم، ودون أن يكون للمبادر أو المبحر داخل هذه العملية أية علاقة تذكر.

محتوى مغاير: قوى تدميرية أخرى

منطقيا، وبأقل جهد من التفكير، سنصل لا محالة إلى فرضية اجتياح القوة التدميرية للذكاء الاصطناعي فضاء المعلومات، على نحو يعيد سؤال المعرفة بما سبق، وفي واجهة استقواء  السياسية والاقتصادية الشديدة في المعمور.

 ومن المرجح أن تكون العواقب المترتبة على موثوقية المعلومات واستدامة وسائل الإعلام الجديدة عميقة في زمن يشهد انقسامات واصطفافات حاسمة في ميسم القطبية الغربية والشرق أوسطية على الأرجح، مع استمرار الحروب وتقاطعاتها التكنولوجية والسباقية، وفي ظل هذه الخلفية - ومع توقعات تشير إلى أن الغالبية العظمى من محتوى الإنترنت سيتم إنتاجها صناعيًا ومستقبليات تكنولوجية عالية الدقة، ستحتاج العلوم الإعلامية والاتصالية، ومعها السوسيولوجيا المختصة، إلى إعادة التفكير في دورها وهدفها ببعض الإلحاح.

ولكن لن يقتصر الأمر على المحتوى الذي سيتم شحنه بشكل يثير أسئلة الاجتماع والاقتصاد والتفكير المؤسسي عامة، بل إن التوزيع إياه مهيأ أيضًا لاضطراب كبير. إذ سيكون هذا الوضع والسياق المضطرب والحتمي، الذي سيبدأ فيه طرح تجارب البحث التوليدية (SGE) عبر الإنترنت، جنبًا إلى جنب مع مجموعة من روبوتات الدردشة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والتي ستوفر طريقة أسرع وأكثر سهولة للوصول إلى المعلومات. في أعقاب الانخفاضات الحادة في حركة الإحالة من Facebook وX (Twitter سابقًا، من المرجح أن تؤدي هذه التغييرات، بمرور الوقت، إلى تقليل تدفقات الجمهور إلى المواقع الإخبارية القائمة وتضع المزيد من الضغط على النتيجة النهائية. حيث إنه في اللحظات المتفائلة، التي يتطلع فيها الناشرون إلى عصر يمكنهم فيه كسر اعتمادهم على عدد قليل من منصات التكنولوجيا العملاقة وبناء علاقات مباشرة أوثق مع العملاء المخلصين. ولتحقيق هذه الغاية، يمكننا أن نتوقع من مالكي وسائل الإعلام بناء المزيد من الحواجز أمام المحتوى، بالإضافة إلى الاستعانة بخبراء مكلفين بحماية ملكيتهم الفكرية.

 وفي الوقت ذاته، سندرك أيضا أن هذه الاستراتيجيات تخاطر بوضع علاماتها التواصلية في حالة من العزلة والتعري، من خلال زيادة صعوبة الوصول إلى الرواد والمتحمسين لتغيير التواصل والامتداد والتفاعل، حيث يشعر الكثير منهم بالفعل بالارتياح تجاه الأخبار التي يتم إنشاؤها خوارزميًا ولديهم علاقات أضعف مع وسائل الإعلام التقليدية. لكنهم بالمقابل، سيرفضون بالتدريج عملية استعبادهم وتحفيزهم على الاستسلام وشح المبادرة والخروج عن سلطة الجماعة أو المجتمع.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

........................

هوامش:

ـ (1) " وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟" س سلومان و ف فيرنباخ ـ مبادرة ترجم السعودية، ط1 2022 ـ ص 192

ـ (2) Socialisation des jeunes et éducation aux médias . Divina Frau-Meigs . Divina Frau-Meigs . Éditeur : Érès. Année : 2011/ p. 128

ـ (3) "نظرية الفعل التواصلي: في نقد العقل الوظيفي" م 3 ـ يورغن هابرماس، ت فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، ص 317

في المثقف اليوم