أقلام فكرية

عبد الكريم رحموني: دلالات اللغة من منظور ابن خلدون ومدرسة تشومسكي التوليدية

تتبوأ اللغة مكانة في تاريخ الفكر الإنساني الفلسفي لا يدانيها فيها إلا الفلسفة،  فهي نسق وظاهرة، تشير إلى الأشياء الخاصة المادية وتجردها في أصوات أو خطوط تغني المتكلم أو القارئ عن إحضارها. وعندما نتأمل في صورها وأشكالها نجد أنها من التنوع بحيث يصعب حصرها في كيفية واحدة : فالكلام لغة، والإيماءات لغة والموسيقى لغة، وهي بهذه الكيفيات تراث يرتبط بكينونة الكائن وحضارة الإنسان. و من هنا ارتبطت اللغة دوماً بطبيعة متميزة وأهمية خاصة « فاللغة تدخل بطريقة جوهرية في الفكر والفعل والعلاقات الاجتماعية». [1]  وفي رحلة البحث عن بيان طبيعتها، والكشف عن أهميتها وَجَب أ ن نتجه للإنسان المغمور بوجود الغير، كيفما اتجه ، حتى في انزوائه الصامت من هنا تنطلق اللغة، تنبثق من وجدانه، فجبل المرء أصلا كمخلوق لاغ، يتكلم ويخاطب، يكتب ويعبر ويرسل المعاني و لا يتحقق هذا إلا بالعقل المحكم والفكر المتميز من هنا كان الارتباط وثيقا بين اللغة والمبدع لها فما هو مفهوم اللغة عند عبد الرحمن بن خلدون؟

وما هي أهم الدلالات الجديدة لتشكيل اللغة؟

وهل استطاع عالم اللسانيات تشومسكي أبدع مفهوماً جديداً للغة؟

اللغة في منظور بن خلدون من المفهمة إلى الدلالة:

إننا نعيش في عالم الكلام ؛ وقد يكتسي الكلام التعبير والبوح والانفعال أو التستر والكتمان وبين هذا وذاك تنزع الذات المفكرة الواعية إلى تخريجه عن طريق كتابات وإبداع نصوص مثيرة مشوقة للقراء، هذه النصوص عبارة عن رسالة مفتوحة للقراءة الواعية والقدرة على إعادة إنتاجها ثم الوعي بالعملية الإنتاجية والحرية في التصرف فيها بغية صياغتها نصوصا جديدة قابلة للقراءة والتفسير.

من هنا كان إعجابي شديدا وأنا أطالع مقدمة العلامة عبد الرحمن بن خلدون وهو يبدع في وضع تعريفًا جامعًا، مانعًا شاملاً لمفهوم اللغة؛ وزاد الإعجاب أكثر عندما أصبحت اللغة عند العلامة بن خلدون معطى يلتقي فيه البيولوجي الطبيعي والموروث الثقافي ، يلتقي فيه الاستعداد الفطري بالمكتسب الاجتماعي حسب ما استنتجته من خلال القراءة الواعية الهادفة لمد جسور التواصل الجمالي وتغيب البعد الأيديولوجي القبحي في التعامل مع النصوص الحوافز والمؤثرات مادامت كتابة النص في الوقت نفسه إبداع للنص وإبداع للغة، وأدركت أن عبد الرحمن فاق الفيلسوف الفرنسي لالاند في تقديم مفهوما للغة يتجلى في: « اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل إنساني. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم«.[2]

بناء على هذا الفهم للغة يجمع ابن خلدون بين بعدين، بعد مطلق ويتجلى في كون اللغة تتوقف على قصد وعلى التعبير عنه، وبعد نسبي ينحصر في كون اللغة تظهر عند كل أمة حسب إصلاحها، وها هنا نجد اللغة « ليس الغَرَضُ بِنَظْمِ الكَلِمِ أنْ تَوَالَت ألفاظها في النطق، بل أن تَنَاسَقَتْ دَلاَلَتُها وَتَلاَقَتْ معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.»[3] و العقل مرتبطاً بالإنسان وما يملكه من إمكانيات إبداعية وما يحيط به من شروط ينجز فيها إبداعاته وتواصله الاجتماعي، وبهذا تكون اللغة مفتاحاً لفهم المبدع في ثقافته وبيئته المنتمي إليها.

تشموسكي متجاوزا البنيوية لتأسيس المدرسة التوليدية التحويلية:

إننا نعيش في عالم اللغة، ملكة رمزية نميزها عن بقية الأنساق الأخرى برمزيتها ومفاهيمها، بناءها وأدواتها، كلماته ودلالاتها؛ في الميزة يؤسس الفيلسوف ملكته الرمزية التي تمتلك دلالات قد تجد القارئ الواعي بهذه الرمزية ، ينفتح على لغة الفيلسوف ويشعر بخطورة اللغة وما تحمله من شمولية؛ شمولية التفكير الحر المرتبط بالتساؤل الذي يؤسس للتجربة الإنسانية.

لست أتردد لحظة إذا قلت أن المدرسة الوصفية البنيوية، سيطرت على الدرس اللساني في الغرب، سواء في أمريكا أو أوروبا، وعلى قدر انتشارها وهيمنتها وجهت لها كثير من الانتقادات بسبب الطابع الوصفي الآلي الذي استمسكت به بل ولم تحيد عنه، ومع ذلك لم تفقد صفة الهيمنة والنفوذ، إلى يومنا هذا، حتى بعد أن ماتت، إذ إن جميع المدارس والنظريات التي جاءت بعدها لم تخرج منها، فهي إما كانت مهتدية بمبادئها، أو جعلتها نقطة تبدأ منها لتبرر اختلافها عنها. ومن أهم المدارس وأوسعها انتشارا بعد البنيوية (المدرسة التوليدية التحويلية) والتي انطلقت أساسا من نقد اللسانيات البنيوية بل تجاوزتها إلى حد بعيد.

ففي سنة ( 1957 ) بدأت الثورة الثانية في الدرس اللغوي حين أصدر نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، كتابه الأول ( المبانى النحوية   ( Syntactic Structures ) ومن ذلك الحين تغير اتجاه اللغة من الوصفية إلى منهج جديد، عرف بالنحو التوليدي-التحويلي، حيث ميز نعوم بين اللسان والكلام  « وجعله تمييزاً بين الكفاءة والأداء، وألغى البعد الاجتماعي من تمييز سوسير، واستبدل مفهوم سوسير غير الدقيق عن اللغة بوصفها نسقاً من العلاقات بنظرية العمليات التوليدية »[4] وهو الكشف عن طبيعة وخواص الحرف الذي تتكون منه الكلمة وتطور الحرف من كلمة إلى أخرى وخواص هذه الحروف واختلافها من لغة إلى لغة « إن ملكة اللغة هي ارتقاء تطوري حديث جداً »[5] ثم وضع تشومسكي مصطلح "البنية العميقة" وهو مصطلح في ميدان النحو يعنى بتحليل الجملة وخواصها المعقدة للصوت والمعنى وعليه هو تحليل للغة في حد ذاتها التي تتكون منها هذه الجمل لذلك يقدم لنا عالم اللسانيات تشومسكي ثلاثة أنواع من العناصر التي تنطوي عليها اللغة هي:

« خواص الصوت والمعنى، التي تدعى السمات Features .

مفردات مركبة من هذه الخواص، تدعى المفردات المعجمية Lexical items

التعابير المعقدة المشكلة من هذه الوحدات "الذرية" atomic »[6]

ومن الخمسينيات إلى الآن ما تزال هذه النظرية الأكثر انتشارا وهيمنة على اللسانيات.

فهل النظرية التوليدية التحويلية بقيت قاب قوسين أو أدنى من التطور أم تجاوزتها نظريات أخرى في حقل اللسانيات اللغوية؟

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر

......................

قائمة المصادر والمراجع:

عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، طبعة أولى، سنة 1961.

عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، دار المعرفة، بيروت، طبعة أولى، سنة 1978.

نعوم تشومسكي: آفاق جديدة في دراسة اللغة والفكر، ترجمة عدنان حسن، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، طبعة أولى، سنة 2009 .

نعوم تشومسكي: اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، دار توبقال، المغرب، طبعة أولى، سنة 1990 .

رامان سلدن: من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية، المشرف العام جابر عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، طبعة أولى، سنة 2006 .

هوامش:

[1]  نعوم تشومسكي: اللغة ومشكلات المعرفة، ص: 13

[2]  عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة ، ص: 779.

[3]  عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص: 32 .

[4]  رامان سلدن: من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية، ص:111 .

[5]  نعوم تشومسكي: آفاق جديدة في دراسة اللغة والفكر، ص: 30 .

[6]  المصدر سبق ذكره، ص: 47 .

في المثقف اليوم