أقلام فكرية

فاطمة الثابت: ألحان الهوية.. تأملات في سوسيولوجيا الغناء

معَكِ

لا توجدُ أنصاف حلول

ولا أنصاف مواقف

ولا أنصاف أحاسيس

كلُّ شيءٍ معَك يكون احتلالاً

أو لا يكون

كل يومٍ معَك يكون إنقلاباً

أو لا يكون

كيف يمكنني أن أربح المعركة

أنا رجل واحد وأنت

قبيلة من النساء...........

***

في ألبومه الأخير، يقدم كاظم الساهر كالمعتاد كلمات قوية على مسامعنا كنساء تعكس موضوعات سائدة في جميع أعماله، لكن عند الاستماع المتكرر، خاصة أثناء التجول في الأماكن التي غالباً ما تتجاهل وجودنا كنساء، لا يسع المرء إلا أن يتساءل: من هي المرأة التي يغني لها الساهر؟

لا يُطرح هذا السؤال فقط بسبب اتساق رسائل الساهر عبر أعماله الفنية، ولكن أيضًا في ضوء الحقائق الصارخة التي تواجهها النساء في المجتمعات التي كثيرًا ما يتم فيها التغاضي عن حقوقهن وإنسانيتهن، وبالتالي فإنه يدفعنا إلى إجراء فحص أعمق للجمهور المستهدف والرسائل الأساسية التي ينقلها هذا الفنان.

أكتب هذا المقال أنطلاقاً من الموسيقى كظاهرة أجتماعية، كونها أكثر الفنون شفافية وتحرراً من المادة وأقربها الى المشاعر الأنسانية، وأقتفاءاً بأثر صاحب العقلانية ماكس فيبر التي يقودنا الى عالم مختلف في السوسيولوجيا، كأحد العوالم التي تجوبها عقلانيته باحثاً عن المعنى خلف الفعل الأجتماعي، فالقليل يعرف عن فيبر أنه كان مهتماً بدراسة الموسيقى. من المخطوطات المهمة التي نشرتها زوجته بعد وفاته هو فصل قد كتبه " سوسيولوجيا الموسيقى " الذي نشر في مؤلف بعنوان " الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى "، "والفحوى فيه عن عقلنة الموسيقى الأوروبية بقوله أن أوروبا هي الوحيدة التي كان لها الفضل في كونية الموسيقى وهرمونيتها، ولم تتأت هذه العقلنة، حسبه، إلا بظهور النوطة كإحدى العلامات الفارقة في تاريخ الموسيقى عامة. يقول فيبر: "إن من يريد أن يدل إنسانا غريبا تماما على الأشياء التي تحدد ثقافتنا الموسيقية في أوضح صورة، عليه أن يذكر هذه الأشياء الثلاثة: الهارمونية، كتابة النوطة الموسيقية والبيانو" فهو بذلك يقر أن الموسيقى هي فعل أجتماعي ذي دلالة ثقافية.

ومن التنظيرات السوسيولوجية المعاصرة عمل تيا دينورا، حيث قدمت رؤى واسعة النطاق في علم اجتماع الموسيقى، بما في ذلك الغناء ومن مساهماتها البارزة كتابها الذي يحمل عنوان "الموسيقى في الحياة اليومية" في هذا العمل، تستكشف دينورا كيف تؤثر الموسيقى، بما في ذلك الغناء، على التجارب الفردية والجماعية، والعواطف، والتفاعلات الاجتماعية في سياقات الحياة اليومية، ترى دينورا أن الموسيقى ليست مجرد شكل من أشكال الترفيه أو التعبير الجمالي، ولكنها جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية، وتشكل الهويات والعلاقات والممارسات الثقافية، وهي تؤكد على الطبيعة المتجسدة للتجارب الموسيقية، وتسلط الضوء على كيفية تفاعل الأفراد مع الموسيقى من خلال الحركات الجسدية والعواطف والتصورات الحسية، ويُنظر إلى الغناء، على وجه الخصوص، على أنه ممارسة مجسدة بعمق لا تنطوي على النطق فحسب، بل تشمل أيضًا الإيماءات والتعبيرات الجسدية.

علاوة على ذلك، تناقش دينورا دور الموسيقى، بما في ذلك الغناء، في بناء الهويات الاجتماعية والتفاوض بشأنها، وهي تدرس كيفية ارتباط التفضيلات والأذواق والممارسات الموسيقية بالهويات الفردية والجماعية، بالإضافة إلى الفئات الاجتماعية الأوسع مثل الجنس والعرق والطبقة يمكن للغناء باعتباره نشاطًا اجتماعيًا، أن يعزز الأعراف الاجتماعية والتسلسلات الهرمية القائمة أو يتحدىها من خلال أعمال المقاومة والتخريب.

وبالعودة الى كاظم الساهر وأغنيته التي تجسد موسيقى وكلمات ثورية في عالمنا العربي، من خلال مفردات الشعر التي يستنهض بها تصويره للمرأة من خلال أوجه متعددة، فالبعض قد يفسر كلماته على أنها إدامة للصور النمطية التقليدية المتعلقة بالجنسين، وقد يراها البعض الآخر على أنها تحتفل بقوة المرأة ومرونتها وتعقيدها، وتعقيباً على ذلك لايفوتنا أن نذكر قد يكون الغناء في شكل أخر كونه مهنة يحاول صاحبها ترويضها لتناسب القالب الاجتماعي والثقافي الذي يساهم في تشكلات الأغنية، وهذا ماجاء في مقدمة أبن خلدون وما أسماه صناعة الغناء " وهذه الصناعة أخر ما يحصل في العمران من الصنائع، لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف ألا وظيفة الفراغ والفرح، وهي أيضاً أول ماينقطع من العمران، عند أختلاله وتراجعه..."

بشكل عام، يمكن أن يكون الغناء شكلاً قويًا من أشكال التعبير النسوي، مما يسمح للفنانين بتحدي الصور النمطية، والاحتفال بتجارب المرأة، من خلال موسيقاهم، يمكن للمغنين إلهام المستمعين للتفكير في ديناميات النوع الاجتماعي، والتساؤل حول الأعراف المجتمعية، والعمل من أجل عالم أكثر إنصافًا وشمولاً لجميع الجنسين، بالتالي نلاحظ أن تفسيرات موسيقى الساهر قد تختلف، ولا يمكن اعتبار جميع أغانيه نسوية بشكل واضح، بالإضافة إلى ذلك، قد يعكس تصويره للمرأة المعايير والقيم الثقافية الخاصة بالعالم العربي، والتي قد تختلف عن وجهات النظر النسوية ومع ذلك، لا شك أن موسيقاه لاقت صدى لدى الجماهير، بما في ذلك النساء، الذين يجدون التمكين والإلهام والتضامن في كلماته وألحانه.

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع في جامعة بابل

 

في المثقف اليوم