أقلام حرة

ما معنى تأخير إعلان نتائج الإنتخابات وهل يستحق القلق الذي يثيره؟

التبريرات التي قدمتها المفوضية العليا للإنتخابات لتفسير التأخير يمكن ضربها جميعاً بالحائط بتذكر حقيقة واحدة: أن هذه التبريرات تنطبق على الآخرين أيضاً لكنها لم تؤخر نتائج انتخاباتهم! .إننا لسنا أول من قام بالإنتخابات، ولسنا نعاني من أية مشكلة خاصة، فلسنا أكبر بلد في العالم، ولا أفقر بلد في العالم ولا أكثر البلدان جهلاً ولسنا البلد الوحيد المتعدد القوميات والمذاهب والأديان ولا البلد الوحيد الذي عليه أن يحسب أصوات المهجرين والمهاجرين والجيش والشرطة والمرضى، ولسنا البلد الوحيد الذي أقام انتخاباته تحت أزيز القنابل، ولسنا البلد الوحيد الذي يتوتر جوه السياسي في الإنتخابات، ولسنا البلد الوحيد الحريص على التأكد من صحة الأوراق...لا توجد أية حجة واحدة يمكن للمفوضية أن تأتي بها، ولم تكن موجودة في أغلب بلدان العالم إن لم يكن كلها، فلماذا إذن يستطيع الآخرون أن يعلنوا نتائج الإنتخابات في نفس يوم إغلاق الصناديق أو في اليوم التالي، ونحتاج في العراق إلى شهر؟

 

الجميع يحس بوجود لعبة ما إذن، لكن ما هي هذه اللعبة بالضبط؟ ومن يستفيد منها؟ وكيف يستفيد منها؟ هنا يبدو الأمر غامضاً، فمن يريد التزوير وتغيير الأوراق يستطيع أن يفعل ذلك بسرعة ايضاً، كما يفعله المزورون في البلدان الأخرى.

 

إذا اعتبرنا أن مقياس الديمقراطية النهائي هو قدرة الشعب على التحكم في القرار السياسي ليخدم مصالحه، يصبح كل ما يعرقل ذلك التحكم، تزويراً بدرجة أو بأخرى. يصبح تشويه الحقائق في الإعلام تزويراً للديمقراطية والتوزيع البعيد عن العدالة لفرص المرشح ليصل إلى الناخبين، من خلال إعطاء فرص للبعض دون غيرهم في وسائل الإعلام، أو من خلال امتلاكهم الكثير من المال او السلطة، تزويراً، مثلما هو التلاعب بعدد بطاقات الإنتخاب، أو تغيير محتواها أو إفسادها عمداً لإخراجها من الحساب أو غيرها من الأساليب.

 

هكذا نرى أن الديمقراطية أمر رمادي، وليس أسود وأبيض. لا توجد دولة في العالم تستاوى فيها قدرات جميع سكانها في إيصال أصواتهم إلى القرار السياسي، كما لا تكاد توجد دولة بلغت من الدكتاتورية بحيت لا تتأثر برأي الشعب تماماً، فحتى دولة العبيد تحسب لهم حساباً أحياناً. ولكي نزيد ديمقراطيتنا وابيضاض صورتها، علينا أن نكتشف ونعالج كل خلل في وصول متكافئ لأصوات الناس إلى القرار السياسي. فكل إخلال بهذا التكافؤ، تزوير للديمقراطية. 

 

نعود إلى موضوع تأخير إعلان النتائج وهل هو تزوير؟ ليس لنا أن نعرف على وجه التحديد ما الذي يستفيده المزورون من تأخير إعلان النتائج في العراق لتبلغ 20 أو 30 مرة بقدر البلدان الأخرى، لكن يمكننا أن نفكر ونتكهن بما يمكن أن يؤثر هذا التأخير فيه وكيف يحتمل أ، يستفيد منه البعض لتغيير تكافؤ فرص المرشحين في تحديد النتائج أو تكافؤ الإستفادة منها.

 

إن لم نصدّق بأن بلادنا بلاد عجيبة لا تشبه غيرها، وأننا من جنس يختلف عن البشر، فسنشك في حجج المفوضية العامة للإنتخابات، وبالتالي نفترض احتمال أن يكون التأخير متعمداً، وأن هناك جهة تسيطر على المفوضية وتؤخر النتائج. لكن لماذا التأخير؟

 

لو فرضنا أن الجهة المسيطرة على زمن إعلان النتائج لها القدرة على تزوير أعداد الأصوات أيضاً، فيمكننا القول أن التأخير يوفر لها فرصة أفضل لتنظيم ذلك التزوير. ليس لأنها لا تستطيع أن تغير الأرقام بسرعة، لكن لأن التأخير يتيح لها أن تدرس وتقدر إلى أي مدى تستطيع أن تزور، دون أن يفتضح الأمر أو يتسبب في مشكلة كبيرة وتخرب العملية كلها.

وهنا يمكن للتأخير وإعلان النتائج "بالقطارة" كما يسميه العراقيون الآن، أن يلعب دوراً مهماً في فحص ردود الأفعال لمعرفة أي درجة من التزوير ممكنة وأين يبدأ الخط الأحمر؟ هل يمكننا أن نجعل قائمتنا تفوز بالمركز الأول؟ هل يمكن أن يتسبب ذلك في أضطرابات غير محسوبة النتائج؟ لا نريد المخاطرة. هنا توفر لنا طريقة الإعلان المشوش بالقطارة، طريقة لإختبار رد الفعل. فنعلن أن قائمتنا فازت أو تتجه للفوز بالمرتبة الأولى بعد حساب 70% من الأصوات مثلاً. ونفحص رد الفعل، ننصت إلى التلفونات، نراقب الأحزاب الأخرى، نراقب الناس، ونقدّر: هل سيتسبب مثل هذا التزوير في مشكلة حقيقية؟ أم أن الأصوات تميل إلى الإكتفاء بخيبة الأمل وتصديق النتائج أو حتى مجرد الإقرار بالأمر الواقع؟ إن كانت الثانية، نمضي في طريقنا ونزور ما يكفينا للفوز، وإن كانت هناك مشكلة تلوح في الأفق، نستطيع أن نعدل طموحاتنا لكي تكسب قائمتنا المركز الثاني بأقل فارق ممكن، مما يمكنها من عرقلة الحكومة التالية بأكبر قدر ممكن. وفي هذه الحالة يمكننا أن نتراجع بأن نطمئن الناس أننا عندما حسبنا 85% من الأصوات وجدنا أن القائمة المعنية أصبحت الثانية وليس الأولى، وهكذا...

 

والآن لنفرض أن الجهة المسيطرة على سرعة عد الأصوات والمسؤولة عن التأخير، ليس لديها القدرة على تغيير عدد الأصوات، وأن النتيجة قد حسمت منذ اليوم الأول وأنها تعرف تلك النتيجة وليست قادرة على تغييرها، فهل يفيدها التأخير في هذه الحالة؟

يمكننا في هذه الحالة الإستفادة من التأخير بإعطاء أفضلية لمجموعتنا بإعطائها النتائج النهائية، ودفعها للبدء بمفاوضة الجهات الأخرى التي لم تعرف على وجه الدقة عدد المقاعد التي ستحصل عليها، وبالتالي سيكون لدى جهتنا أفضلية عليها، ومن الممكن دفعها إلى القبول باتفاقات ماكانت ستقبل بها لوكانت تعرف النتائج بدقة.

بشكل عام يمكن القول بثقة أن وصول المعلومات إلى جهة ما قبل منافسيها يعطي تلك الجهة أفضلية على أؤلئك  المنافسين. ويصح ذلك في السياسة كما يصح في التجارة والبورصة. من تأريخ السياسة الهولندية الحديث أذكر أن النائبة البرلمانية الهولندية السابقة، فرح كريمي، ذات الأصل الإيراني وإحدى أهم النائبات في فريق اليسار الأخضر الهولندي، إشتكت من أن السفارة الأمريكية والجهات الأمريكية الأخرى، تزود الأحزاب اليمينية والليبرالية بمعلومات مسبقة تتيح لها أن تتخذ مواقف مناسبة، لا تتاح للأحزاب اليسارية. أعلنت ذلك قبل أن تترك السياسة بفترة قصيرة لتتفرغ لحياتها، ويفقد اليسار الهولندي بذلك نائبة رائعة نادرة الجرأة والصراحة والذكاء.

 

بنفس الطريقة يمكن للجهة التي تعرف المعلومات قبل غيرها أن تستفيد في موضوع الإنتخابات في العراق وتأخير إعلان نتائجها.

ويمكن زيادة تأثير أفضلية معرفة النتائج المسبقة من خلال تصور سيناريو يستفيد من الطريقتين: التأخير، والإعلان التدريجي الغامض. فبواسطة الإعلان الجزئي للنتائج، يمكننا مثلاً أن نوهم الآخرين بأن قائمتنا هي الفائزة حتى لو لم تكن كذلك، وحتى لو لم يكن بإمكاننا أن نزور النتائج لنجعلها تفوز. هذا الإعلان سيدفع بمكونات قائمتنا إلى التماسك والقوائم الأخرى إلى التفرق، ومحاولة التفاوض مع قائمتنا بأي شكل. وبعد هز وحدة القوائم المنافسة وبعد توقيع اتفاقات ملزمة مع قائمتنا، يمكن عندئذ إعلان النتائج النهائية والتي ستحرم القائمة الفائزة الحقيقية من فرصة تشكيل الحكومة حيث تجد أن القوائم الأخرى قد اتفقت وانتهى الأمر. كل هذا تستطيع أن تؤثر فيه الجهة المسيطرة على زمن إعلان النتائج، حتى دون أن تكون لها القدرة على تزوير عدد الأصوات.

 

السيناريو الأقرب إلى الواقع، وهو أن تكون للجهة المسيطرة قدرة على تغيير العد، ولكن بشكل محدود فقط. فمن المعلوم أن الكتلة الفائزة سوف يهمها أن تسير عملية الإنتخابات بسلام، لذلك فهي لن تعترض بشدة ضد تزوير يحرمها بضعة مقاعد إن كان ذلك لا يغير من تسلسلها في القوائم الرابحة. وهنا تستطيع الجهة المسيطرة أن تستفيد من التأخير والإعلانات الجزئية وتقديم المعلومات إلى قائمتها المفضلة أولاً بأول، عن النتائج وعن ردود الفعل المتوقعة وعن أفضل طرق التفاوض. وتستطيع الجهة المسيطرة أن تعدل خططها حسب المتغيرات الآنية أثناء فترة الإنتظار وإعلانات القطارة،وحسب حاجة الجهة المسيطرة.

 

إن مجريات الأمور ستعتمد على خطط وطموحات الجهة المسيطرة على إعلان النتائج. ولنفرض أسوأ الإحتمالات، وأن الجهة المسيطرة كانت قد قررت أنه يجب أن تحصل قائمتها على الحكومة بأي ثمن، وأن حصولها على معارضة قوية لا تكفي. حتى في هذه الحالة، يفيد التأخير، لتلمس الطريق الأمثل والأسلم للحصول على الحكومة بأقل المخاطرات. فيمكن خلال فترة الإنتظار أن تفهم تلك الجهة، إن كانت قائمتها قادرة على عقد اتفاقات تؤمن فشل القائمة الأولى في تشكيل حكومة، عندها لن يكون هناك داع للتزوير، أو لايحتاج التزوير أن يصل إلى الحصول على النتيجة الأعلى لقائمتها، والتي قد تكون مفضوحة وتسبب المشاكل. وإن لم تتمكن قائمتها من عقد الإتفاقات اللازمة للحضول على الحكومة، فعندها قد تقرر الجهة المسيطرة أن تتحمل المخاطرة وتزور النتائج لتحصل قائمتها على المرتبة الأولى بأي ثمن! كل هذه العمليات تحتاج إلى الوقت، وتستطيع الجهة المسيطرة أن تستفيد كثيراً من معرفتها المسبقة للنتائج والإستعداد لما سيأتي بشكل أفضل من الآخرين.

 

وفي السيناريو الأخير الأكثر عنفاً الذي سنأخذه بعين الإعتبار، يمكن أن تجد الجهة المسيطرة على التأخير، أن وضع قائمتها المفضلة حرج، وإنها لم تتمكن من عقد الإتفاقات اللازمة، كما أن الجهة المسيطرة لن تكون لها القدرة على تغيير الأرقام لجعلها تحتل المرتبة الأولى. وعندها يجب على الجهة المسيطرة أن تفكر وتقرر إن كان يجب أن ترتب إنقلاباً أم لا. هذا التفكير والتدارس سيحتاج الى الوقت الذي توفره عملية تأخير إعلان النتائج أيضاً. وإن قررت الجهة أن تقوم بالإنقلاب، فستحتاج إلى المزيد من الوقت لترتيب التفاصيل ومراجعة المتغيرات، حتى إن كانت قد أعدت الخطة مسبقاً.

 

إن التوجس من تأخير إعلان النتائج ليس مجرد وهم إذن، فهو قد يكون تحضيراً لتزوير محدود وقد يكون أكبر من ذلك. وعندما يصل إلى درجة غير معقولة، فأن رائحة خطيرة تفوح منه، خاصة أن الحكومة القادمة ستقرر أموراً مصيرية بالنسبة للعراق، وخاصة مسألة تنفيذ انسحاب القوات المحتلة أم تمديدها!

 

هذه كلها تحذيرات قد تصدق وقد لا تصدق، لكنها من مؤشرات خطورة تأخير أبعد من المعقول لإعلان نتائج الإنتخابات، ومن الأفضل الإستعداد لكل الإحتمالات السيئة حتى يثبت بطلانها بدلاً من إهمالها مسبقاً على أنها غير معقولة. إننا مضطرون لإطلاق التحذير قبل أن نتأكد من وقوعه، لأننا إن انتظرنا التأكد أنتهى الوقت وضاعت الفرصة وفقد التحذير معناه. كما أن اتخاذ الحذر نفسه قد يردع متآمراً عن تنفيذ مؤامرته، فيجب العمل حتى لو كان احتمال وقوعها واحد من ألف. لقد تصور ضابط خفر معسكر الرشيد ليلة 7- 8 شباط في عام 63 أن التلفون الذي جاءه للتحذير من انقلاب سيقوم بعد ساعات، أنها مزحة غير معقولة، وكانت نتيجة ذلك دخول العراق في ظلمات لم يخرج منها حتى اليوم.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1350 السبت 20/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم