أقلام حرة

الشعب ومزوري الإنتخابات - صراع النمس والأفعى

 فالرجل، وبعد أيام من المراوغات والكلام الدبلوماسي، بدأ يهذي كلص حوصر في غرفة مغلقة يرفض فتح بابها! الرجل ببساطة يكذب بشكل مفضوح ووقح، فلا يوجد ما يمنع إعادة العد، وهي عملية تجري في مكان في العالم، فلماذا هي مستحيلة بهذا الشكل في العراق؟

الكذبة الأخرى في نفس الجملة، يقول الحيدري: "إن هذا الأمر يتطلب عملا مضنيا لأكثر من ثلاثة أشهر على الأقل، هذا إذا لم تواجهنا أية مفاجآت أو اعتراضات من الكتل الانتخابية". (1)

في السابق قال المستصعبين للعملية أنها "قد تستغرق شهراً كاملاً" وفي مقالة سابقة لي بعنوان " هل جرى تزوير مدراء المراكز الإنتخابية بالحاسبة ايضاً؟ "، حاولت حساب الوقت، فكان لا يزيد عن أسبوع في أسوأ الأحوال وبفرض استخدام عدد محدود من الموظفين (2) واليوم صار الزمن "ثلاثة أشهر على الأقل"، وحين لا تكون هناك مفاجآت أو أعتراضات!! هذا الرجل لا يكلف نفسه طبعاً حتى تقديم حسابات مبسطة كالتي قدمتها في مقالتي أعلاه، ليقنع العراقيين بأن كلامه صحيح أو حتى قريب من المعقول.

الكذبة الأخرى في نفس الإتصال التلفوني للحيدري جاءت بمقولته: " الكتل السياسية إذا لم تثق بالفرز الإلكتروني وبأجهزة الكومبيوتر التي لا تعرف الانحياز إلى أية كتلة، وهي أصلا غير منتمية إلى أي حزب ولا تقبل الخطأ، فكيف لها (الكتل السياسية) أن تثق بالفرز اليدوي الذي يقوم به أشخاص لا نعرف انتماءاتهم؟"

وهنا أذكر مقولتي التي قلتها في مقالة لي قبل أكثر من أسبوع بعنوان " الحاسبة .... المزوّر الصامت لأصوات الناخبين!" (3) قلت فيها: "...فالحاسبة ليست "جهة محايدة"، بل هي متحيزة تماماً، لمن صنعها، ومن يستطيع توجيهها" وهذا ما يعرفه ليس فقط كل عارف بالحاسبات، بل أيضاً كل من عمل عليها يوماً، ولا يمكن لـ "دكتور باحث في البيئة" أنه لم يتعامل مع الحاسبة سابقاً! والحقيقة أن الحاسبة تواجه بعدم الثقة في كل مكان في العالم، ولم يتم استعمالها بشكل كبير إلا في بضعة قليلة من الدول، وهي ليست من أكثر الدول ديمقراطية ولا تقدماً. ولقد وصل الأمر بالبعض منهم، كما بينت في نفس المقالة، وبالروابط الدالة، بأن الهولنديين بعد عشرات السنين من استعمال الحاسبة، قرروا أنها ليست جهازاً موثوقا "لا يخطئ" كما يتفضل الدكتور الحيدري بمحاولة إيهامنا، بل أنهم لم يجدوا طريقة لجعله مأموناً، فاضطروا للتخلي عنه تماماً! فأي عجب أن لا تثق الكتل السياسية العراقية بالحاسبة، أسوة بالكتل السياسية الهولندية؟ إنني لا أتخيل رجلاً يشغل منصب رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ولم يسمع بأحد يشكك بالثقة بالحاسبات في عملية الإنتخاب.

لذلك فأن محاولة الدكتور الحيدري لا يمكن تفسيرها وتصنيفها إلا ضمن محاولات الخداع الصريحة، التي تضاف إلى محاولاته السابقة، وتؤكد الشكوك حوله وحول ما يجري في داخل الهيئة التي يرأسها.

 

وفي محاولة أخرى للخداع يكمل الحيدري : " فكيف لها (الكتل السياسية) أن تثق بالفرز اليدوي الذي يقوم به أشخاص لا نعرف انتماءاتهم؟" وهو هنا يقول في حقيقة الأمر، بأنه لا يمكن اختيار أشخاص من البشر من أجل إنجاز عد يدوي بأية درجة من الثقة، فكيف وثق بموظفيه إذن؟ وهل الخداع عن طريق إدخال المعلومات للحاسبة، أصعب من الخداع بالعد اليدوي؟ وإن كان الحيدري قد وجد طريقة للحصول على "موظفين ثقة"  فلماذا لا يستطيع أن يفعل ذلك ثانية في حالة إعادة العد، بدلاً من رفض فكرة العد اليدوي جملة وتفصيلاً، وكأنه اقتراح عجيب قادم من المريخ، لم يسبق لأحد أن طالب به في الأرض؟ أترك لكم ذلك لتفسيره.

وأخيراً قال الحيدري "حتى إذا قمنا بالفرز اليدوي فإن الكتل غير الفائزة سوف تعترض وتقول إن من كلف بالفرز قام بتزوير النتائج" وهنا يحاول رئيس الهيئة أن يعكر المياه ليوحي بأن الأمر مستحيل، رغم أنه بسيط للغاية. فالمعترضين لا يطلبون منه أن يسلم الأوراق إلى مجموعة من الناس مجهولة الهوية، أو تنتمي إلى جهة واحدة، وإنما إلى فريق يتكون من ممثلين عن مختلف الجهات المشاركة في الإنتخابات، وتتم موافقة تلك الجهات على الثقة بمن يمثلها، فلا يكون لها حجة للإعتراض مستقبلاً إن لم يتعرض ممثلوها لحظة وقوع الخطأ. بل لا بأس أيضاً بمراقبة العملية بواسطة مجموعة كامرات تلفزيونية تنقل ما يجري في مراكز العد وربما تسجله، حتى لأفلام يكون طولها عدة أيام أو حتى شهر أو أشهر كما تفضل الحيدري، ليرى كل من يريد أن يرى كيف تجري الأمور، فليس هناك أسرار عسكرية سوف تفتضح في ذلك!

 

لو فعل فرج الحيدري ذلك، لكان العراقيون ممنونون له ولجهده، مع أنه يستلم راتبه المجزي من أجله، فلماذا يرفض ويصر على الرفض ويختلق مشاكل ليست موجودة ويضخم جهوداً ويكبرها ويحاول تصوير الأمر بأنه مستحيل؟

 

واخيراً قال الحيدري أن "الكتلة أو الكتل التي تطالب المفوضية بالقيام بإعادة الفرز يدويا لم تحدد محطة معينة أو مركزا بذاته أو حتى لم تطلب مثلا إعادة الفرز لأصوات الناخبين في مدينة من مدن العراق، بل تريدنا أن نعيد الفرز يدويا لجميع المحطات وفي جميع أنحاء العراق، وهذا مستحيل".

لكن مستشار المالكي لشؤون الاعلام علي الموسوي قال ان "ائتلاف دولة القانون لا يطالب بإعادة العد والفرز اليدوي في جميع انحاء العراق، وانما فقط في بعض المحافظات كبغداد وكركوك". (4)

ألا يفترض إذن أن تكون المشكلة قد حلت، وأن تباشر المفوضية بالعد اليدوي لبغداد وكركوك لإسكات المعترضين، إن كانت صادقة فيما تقول؟

ولنزيد الدلائل دليلاً نشير إلى أن منظمة تموز للتطوير الإجتماعي بأن عملية اعادة العد اليدوي ليست مستحيلة وأن مطالب القوائم المختلفة بإعادة العد والفرز يضع علامات استفهام أمام شرعية الانتخابات ويجب العمل على أقناع المواطنين أولا بنتائج الانتخابات ومن بعدها الكيانات التي تمثلهم  مهما كلف الأمر، مبينا ان تعطل إعلان النتائج لمدة أخرى مهما طالت لا ضير فيه أذا كان يأتي بنتائج منطقية تساعد على إضفاء الشفافية والمصداقية .(5)

لكن هذا بفرض أن رافضي العد، يريدون فعلاً الشفافية والمصداقية.

 

من الواضح بالنسبة لي، وبعد دحض كل الحجج، أن الدكتور فرج الحيدري يراوغ ويتهرب لإخفاء شيء ما وللتخلص من فضيحة، فيقول بأنه سيعلن النتيجة ويترك الأمر لجهات أخرى لتحله (إن لم يفعل ذلك بعد، وقبل أن تقرأ هذه السطور)، علماً بأن الجهة الوحيدة المخولة بإعادة العد والمسؤولة عنه، هي هيئته هذه! إنه يريد أن يعلن الفائز اعتماداً على حساباته المزوره، ليترك العراق في حالة فوضى تم التخطيط لها، وقد يغرق فيها في عنف لا حدود له، بسبب إحساس الناس بالخديعة والظلم، ليذهب هو لينعم بما جناه مقابل بيع ضميره! أما الأمريكان، فيحسبوها: إن لم يستطيعوا أن ينصبوا حاكمهم المفضل الذي سيمدد بقاءهم باتفاقية طويلة كما كانوا يطمحون، فسوف يمكنهم البقاء بحجة الوضع الأمني في البلاد!

لا يجب أن يتوقع المرء من الحيدري، إن كان مذنباً، أن يتساهل بأي شكل ويسمح بما يكشف تحايله ويقضي على مستقبله، لذا فسوف يصر على الرفض بشدة، وعلى المطالبين بإعادة العد أن يجهزوا أنفسهم لذلك، ويعدوا خياراتهم.

 

بعيداً عن الحيدري، يمكننا أن نرى خيوط المؤامرة الأمريكية على حركات أياد علاوي ايضاً.

في البداية أثار علاوي قلق العراق بلهجة تهديدية مسبقة حول الإنتخابات وحول توقعاته للتزوير، والآن بعد أن حصل على نتيجة إيجابية هائلة (حتى إن تبين أنه سيكون الثاني فقط) فقد ركز جهده مع بقية عصابته، على سلامة الإنتخابات و "الإنتقال السلمي للسلطة" إلخ. ومن الممكن جداً أن تكون القضية كلها مخططة من قبل خبراء دوليين في الكذب: علاوي يثير القلق والتشكك والتهديد، الجهة المقابلة تخشى أنه يريد القيام بشيء في حالة فشله، فتؤكد على أن الإنتخابات تم الإستعداد لها بشكل جيد، وأن تزويرها غير ممكن، الخ. ثم حين تعلن النتائج المفاجئة في صالح علاوي، فأن الجهة المقابلة ستجد صعوبة في تبرير الإحتجاج على تزوير الهيئة التي كانت قد امتدحتها قبل أسابيع قليلة! وهذا ما يركز عليه الـ "علاوييون" اليوم بالفعل.

 

لكن ما يستوجب التوقف عنده هو أن أعضاء القائمة العراقية لا يحاسبون انفسهم على انقلاباتهم بمثل ما يحاسبون الآخرين على انقلابات رأيهم.

في برنامج "هارد توك" يقول علاوي (من عمان) :

"لاحظنا الكثير من المخالفات، والتي حصلت قبل الإنتخابات وأثناء الإنتخابات وبعد الإنتخابات،...وكنا نتوقع فارقاً أكبر بكثير لصالحنا في المقدمة، لأن الشعب العراقي تعب من الطائفية...."

"هل تقول بأنك ستقبل النتيجة فقط إذا فزت بالإنتخابات، الآن وصل العد إلى حوالي 80%،

"يجب أن يجيبوا على الإعتراضات التي قدمناها لهم، وقالوا أن 38 منها كانت إعتراضات "حمراء" مما يعني انهم اعترفوا بها ....ويجب أن نفهم النتيجة، بغض النظر عما إذا كانت لصالحنا أو لا، لكننا نحتاج أن نعرف لماذا حدث ذلك" الآن وفي المستقبل لأننا نريد أن تسود الديمقراطية الحقيقية في العراق ونريد للعملية الإنتخابية في العراق أن تكون ، مستقيمة، أمينة، شرعية وشاملة"

"...هل أفهم أنك تقول بأنك ستقبل النتيجة فقط إذا فزت بالإنتخابات، وإلا فإنك ستطالب بإعادة العد أو إعادة الإنتخابات؟"

"لا، لن نطلب إعادة العد، ولا أعادة الإنتخابات، نريد أن نعرف الحقيقة...الشعب العراقي يريد أن يفهم لماذا كانت الهليوكوبترات تلقي بالمناشير المضادة للعراقية فوق بغداد....نريد أن نفهم من أجل الديمقراطية، ومن أجل أن تكون العملية السياسية سليمة، نريد الأجوبة...أجوبة واضحة وقطعية من الحكومة ومن المفوضية"

"لكن هذا سيحتاج إلى بعض الوقت....الشعب العراقي لايستطيع الإنتظار طويلاً...لقد رأينا كيف أن التأخير قد يأتي بالعنف الطائفي، فالعراق لا يستطيع الإنتظار"

"لقد انتظرنا صدام أكثر 30 عاماً، ويمكننا أن ننتظر بضعة أشهر أو أسابيع.. العراقيون يريدون أجوبة" (6)

 

 

نعم "الشعب العراقي يريد أجوبة" كما تفضلت، وقد أيدت أغلب الكتل الكبيرة أنها تريد أجوبة، إضافة إلى الأغلبية الساحقة من الكتل الصغيرة والمستقلين، فلماذا تقفون بوجهه، وتصفون من يطلب الأجوبة عن تساؤلاته واعتراضاته بأنه يحاول ألقيام بانقلاب عسكري؟ وإن كنت ترى أن بإمكانك الإنتظار لـ "بضعة أشهر أو أسابيع" من أجل إطمئنانك، فالآخرين أيضاً يرون بأن بإمكانهم الإنتظار "بضعة أشهر أو أسابيع" من أجل إطمئنانهم! هم أيضاً يريدون أن يفهموا "من أجل أن تكون العملية السياسية سليمة" وهم أيضاً مثلك يريدون " للعملية الإنتخابية في العراق أن تكون ، مستقيمة، أمينة، شرعية وشاملة "!

فلماذا إذن الإعتراض على إعادة العد والتهويل به والتطير منه؟ هل هناك شيء يجعل "الشعب العراقي يفهم" أفضل من إعادة العد والتحقق من سلامة النتيجة؟ لقد بين المعترضون أن نتائج المفوضية لا تتطابق مع النتائج التي حصلوا عليها من وكلائهم، وأن الأقراص لم تنطبق أيضاً وأن عدد الأصوات كان ينخفض أحياناً لدى بعض المرشحين، أثناء العد، وكلها أمور غريبة، والشعب يريد أن يفهم!

 

بدلاً من أن "يساعدوا الشعب على أن يفهم" فأنهم راحوا يهددون بوقاحة وصلافة، الجهات التي بدأت تتزايد في تأييدها للإعتراض على النتائج والمطالبة بالعد اليدوي، فقال المتحدث الإعلامي باسم العراقية محمد تميم رداً على تجمع عدد من المحافظين المطالبين بإعادة العد: "أن على المحافظين العودة الى رشدهم وعدم التدخل في امور خارجة عن اختصاصهم والا سيقعون تحت طائلة القانون وتتم محاسبتهم من قبل رئيس الوزراء القادم!"  (7)

في هذه الأثناء انتشر في وكالات الأنباء والصحف والإنترنت، سيل هائل من المقالات التي تعتمد على مصادر مجهولة وتؤكد أن المالكي يستعد لأعتقال موظفي المفوضية، أو يتسعد لأستعمال الجيش وأن المالكي وحلفاؤه لا ينوون تسليم السلطة سلمياً" (الواشنطون بوست) وجميعها لا تشير إلى أي مصدر، وكثيراً ما تحور العبارات لتعطي انطباعاً أقوى أو حتى مختلف عن أصلها!

 

من الذي يسعى إلى إعاقة إعادة العد يدوياً، وفحص الحقيقة؟ إنه من يرفض ويهول العد، ومن يقف وراءه: الإحتلال! بالتأكيد لا أقصد الشعب الأمريكي نفسه، والحقيقة أن المراقب الجيد للأمور يكتشف دائماً أن الشعبين العراقي والأمريكي يتعرضان لنفس المؤامرات من قبل الإدارة الأمريكية التي تقودها الشركات. وفي وهنا أيضاً مثال ممتاز على ذلك. ففي عام 2000، كانت هناك دلائل على أن ألغور كان يتقدم بوش بـ 500 الف صوت، وحكمت محكمة فلوريدا العليا بإعادة عد الأصوات في فلوريدا المختلف عليها، إلا أن المحكمة العليا الأمريكية الغت قرار محكمة فلوريدا في قرار سياسي بحت، فصوتت بخمسة أصوات مقابل اربعة لصالح الغاء قرار إعادة العد! وحينها قال القاضي جون بول ستيفنس: "بالرغم من اننا قد لا نعرف بشكل مؤكد من هو الفائز في الإنتخابات الرئاسية لهذا العام، لكن هوية الخاسر واضحة بشكل كبير" (قاصداً الشعب الأمريكي). (8)

 

إن من يقف وراء أياد علاوي اليوم، هم نفس من جاء به وفرضه في أول حكومة عراقية بعد الإحتلال، رغم تغير الحزب الحاكم في اميركا. ومن لا يتورع أن يزور الحقائق ويضر بالديمقراطية في بلده، لن يتورع عن ذلك في بلاد الآخرين!

 

لقد أتضحت خطوط وخيوط المؤامرة، ولم تعد مسألة شكوك وقلق، بل حقائق دامغة، فما العمل؟

 

هناك طريقان: الأول التساهل والقبول بالنتيجة، أو ربما مفاوضة المخادعين ومن يقف وراءهم من أجل "حل القضية" بشكل سلمي. والثاني هو الإصرار على المواجهة ومحاولة كسب المعركة، وأنا مع الثاني قطعاً، فهو ليس فقط الأكثر صدقاً ومبدئية، لكنه أيضاً الأكثر أماناً!

فالمتساهلين في بعض الأمور، يتعرضون لأشد الأخطار، وأحياناً يقومون في الواقع بالإنتحار، خاصة عندما تكون الولايات المتحدة في الجانب الآخر من المعادلة. فالوحوش التي تقف وراء الأطماع النفطية والحربية والتي تسير الإدارة الأمريكية مباشرة وبشكل غير مباشر، هولاء لا يرون في تساهل المقابل إلا فرصة جديدة للإنقضاض عليه لاحقاً.

 

في العراق لدينا ما يكفي من الأمثلة، وإن كانت خفيفة نسبياً. الجعفري تساهل فلم يصرّ على كشف تورط الإحتلال بقيادة عمليات الإرهاب، عندما أمسك منتسبيهم متلبسين بمحاولة عملية تفجير إنتحارية في البصرة عام 2005، وقال "ليس لدينا مشكلة" معهم...لم يقدروا له ذلك، فعادوا ليخلعوه بعد شهور من ذلك، رغم انتخابه، حين جاءت كونداليزا رايس لتضع عليه خطاً أحمر وتستبدله!

والمالكي، أساء إلى نفسه حين كان يلعب معهم في الظلام ويوقع الإتفاقيات السرية بعيداً عن البرلمان، فوقع اتفاقاً أسماه مذكرة تفاهم ليتجنب عرضه المسبق على البرلمان، وقصف من أجل عيونهم، مدينة الصدر، ووقع المعاهدة الإطارية الإستراتيجية التي لم يعلم بها أحد حتى الآن، إلا اللهم سفير الولايات المتحدة ومساعده وزير خارجيتنا زيباري. لعل المالكي كان يطمح إلى رضاهم، ولعله كان يأمل بأن يواجههم في موقف يكون فيه أقوى، كما كان الجعفري يأمل. لعل كلاهما كان يأمل أن تساهله معهم سيعطيه بعض الأفضلية أو الوقت ليرتب أمره، لكنهم دائماً أكثر وعياً من ان يعطوا المقابل فرصة ثانية لضربهم، فإن جاءت تلك الفرصة وجب استغلالها فوراً.

ومثلما أنقلبوا على الجعفري أمس، إنقلبوا على المالكي اليوم، حين حاولوا فرض البعثيين عليه قبل الإنتخابات، ويحاولون اليوم فرض علاوي بانتخابات مزورة، كما فعلوا ذلك حين كان خيارهم المفضل وعينوه إجبارياً كرئيس للسلطة بدون حتى سؤال رأي مجلس الحكم.

 

على الصعيد الدولي، نجد أنه ما من دولة حصلت على شيء من الولايات المتحدة، دون أن تبدي معها أولاً صلابة كافية وصموداً ومخاطرة بالرفض. فالولايات المتحدة لا تعطيك شيئاً مجاناً، ولا مقابل أن تكون لطيفاً معها. هاهي إيران تستلم العروض تلو العروض، تماماً كما استلمت كوريا الشمالية العروض السخية، بعد صمودهما أمام التهديدات الخطيرة المخيفة لفترة كافية من الزمن.

ولقد حصل المالكي أيضاً بصموده في معركة المساءلة والعدالة على إذعان الأمريكان وتراجعهم، وكرروا الموقف المضحك بأنهم "ليسوا مع إعادة البعث"، وهو نفس ما كرروه قبل ذلك حين فشلت محاولاتهم في محادثات تركيا. إنهم يحاولون، فإن فشلوا تبرأوا من المؤامرة، في انتظار فرصة مؤامرة جديدة. هذه هي الفلسفة الأمريكية. ولأنها استعملت كثيراً، فقد توصلت إلى الحل بعض دول أميركا الجنوبية التي تحررت من الحكومات التي فرضتها أميركا عليها، فوجدت أنه من الأكثر أماناً لها أن تطرد السفير الأمريكي تماماً، بدلاً من المحاولات السابقة المتمثلة بمحاولة عدم إغضاب أميركا، وإدامة العلاقات معها.

 

أميركا ماتزال تنظر إلى العراق كبلد محتل، تطمح إلى امتصاصه تماماً وحتى العظم، أو تحويله إلى قاعدة عسكرية لها وتكون حكومته وجيشه فرقة اغتيالات وإرهاب لصالحها في المنطقة، كما فعلت مع غيره. وما يجب على العراقيين ان يفعلوه، هو أن يبرهنوا للأمريكان أنهم لن يتمكنوا من ذلك. عندها فقط، ستأتي أميركا وربما تتصرف مثل بقية البشر، وتحاول أن تحقق الممكن من مصالحها في العراق، بشكل علاقة بين دولتين، أو على الأقل أن تكون العلاقة أقرب إلى ذلك، فكل ما أعرفه عن علاقات أميركا مع الجميع، هي علاقات ضغط وابتزاز وإفساد، حتى مع حكومات أشد الدول قرباً إليها (ربما عدا إسرائيل، لأنها تفوق سيدها في هذه المهارات)، ومنها بلا شك الدول الأوروبية.

 

يجب العمل على إبعاد أميركا المحتلة أولاً، لكي يمكن أن تبنى معها علاقة طبيعية، لكن لا يجب أن ننتظر من أميركا أن توافق على ذلك بلا مقاومة أو محاولات. لذا فعلى من يتصدى لها أن يفتح عيونه "على مصراعيها" ..وأن ينتبه بشكل خاص للآلاف الذين جندتهم لحين الحاجة. إني لم أشك يوماً بأن أياد علاوي واحد من هؤلاء، بما عينه من ضباط أمن، وأكاد أجزم أيضاً بأن وزير الدفاع الذي كان من الدناءة أن يهدد العراقيين بالقراصنة إن لم يوقعوا المعاهدة، واحد من هؤلاء ينتظر الأوامر!

 

الآن فرصة سانحة لتوجيه ضربة لمحاولة أميركا خنق العراق وإعادة بقايا ضباط الأمن الصداميين من خلال أياد علاوي ورفاقه، وتمديد بقاء جيوشهم الكريهة، أو توقيع اتفاقية جديدة تبقيها إلى الأبد...فيقع العراق بين فكي كماشة جيش الإحتلال والأمن الصدامي، وما يعرفه عنه من تاريخ أسود دموي.

إنها فرصة العراق ليفتح لنفسه طريقاً للهرب من هذا الوحش وعصابته، وإجباره على إعادة النظر والإكتفاء بعلاقات كالعلاقات الطبيعية بين الدول، أو الإقتراب من ذلك. إننا لا نصارع الولايات المتحدة، بل طموحاتها التي تمنعنا من الحياة بكرامة وأمان، والعصابة التي تريد تسليطها علينا، كما كان الحال دائماً معنا ومع الشعوب التي تسيطر عليها. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أراد الأمريكان أن يضعوا جنرالاً عميلاً ليحكم فرنسا، لكنهم رضخوا للأمر الواقع بعد أن تخلص ديغول منه، ولم يجدوا بداً من قبول الأخير، البطل الشعبي الفرنسي، لألا يخسروا أكثر. إن التخلص من العصابة التي يريدونها لنا، لا يكون بالضرورة بنفس الطريقة، فالمهم أن يجدوا هذا الباب مغلقاً ليتعاملوا معنا كالبشر مستقبلاً، وإننا بحاجة إلى أن نقنعهم بأن ليس هناك طريق آخر.

الوقت مناسب لإحداث إصلاح في العلاقة القبيحة بين العراق وأميركا، فهي ليست في وضع يسمح لها أن تفتح جبهة قتال حقيقية في العراق، لذا فهي في وضع أكثر استعداداً للتراجع والبحث عن "حل وسط" في سيطرتها على العراق وتحديد طموحها فيه. فما تعاني منه في أفغانستان يكفيها وزيادة ويكاد يحطم علاقاتها بأصدقائها الذين يضطرهم ضغطها إلى الإحراج الشديد مع شعوبهم، وآخر نتائج ذلك سقوط الحكومة الهولندية قبل بضعة أسابيع لإمتناع أحد حزبيها عن تمديد بقاء الجنود الهولنديين في أفغانستان إلى ما بعد المدة المحددة لهم سابقاً!

 

العلاقة بين الشعوب وطموحات شركات الولايات المتحدة، أشبه بعلاقة النمس بالثعبان. عندما يجد النمس فرصته، فإنه يقفز إلى رقبة الثعبان ويعضها بقوة، ولا يفلتها مهما حاول الثعبان أن يخيفه أو يضربه، فهو يعلم أنه إن أفلته، كانت نهايته! إن معركة مع الثعبان خطرة دائماً ويفضل تجنبها إن أمكن، لكن حين لا يكون هناك مفر من المواجهة، فالخوف سيكون أشد ما يصيب النمس من الأخطار!

 

 

(1) http://www.yanabeealiraq.com/news_2010/n240310015.htm

(2) http://almothaqaf.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=12169

(3)  http://almothaqaf.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=11881

(4) http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=4851

(5)  http://www.nasiriyah.org/nar/ifm.php?recordID=6380

(6)  http://news.bbc.co.uk/2/hi/programmes/hardtalk/8573201.stm

(7)   http://www.failyoun.com/wesima_articles/index-20100322-28043.html

(8)  http://www.alternet.org/story/144529

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1356 الجمعة 26/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم