أقلام حرة

حكاية النقود

وعندما كان الناس يبادلون بضاعتهم ببضاعة من نوع آخر، فأنه يطلبون منها كمية تحتاج إلى نفس الجهد والوقت الذي تحتاجه بضاعتهم لإنتاجها.

وفي يوم ما، قال أحدهم: لماذا تحتفظون بمحاصيلكم ببيوتكم، وتنقلونها إلى السوق كل مرة لتبادلون بها؟ أنا أحتفظ لكم بها في مخزني، وأعطي كلاً منكم إيصالاً بما أعطاني. عندها يمكنكم أن تتبادلوا دون الحاجة إلى أخذ محصولكم إلى السوق معكم! يكفي أن تتبادلوا الإيصالات، ثم يأتي كل شخص إلي، فأسلمه البضاعة التي تخص الإيصال الذي يحمله!

 

وبعد أن تجرأ البعض للتجربة، وثق الناس تدريجياً بصاحب المخزن وصاروا يسلمونه بضائعهم ومحاصيلهم ويستلمون محلها الإيصالات، ليتم التبادل بسهولة ويسر لم يعرفونهما في الماضي. وصار العمال يقبلون الإيصالات من صاحب العمل بدلاً من الحصة التي كان يعطيهم إياها من الحبوب وغيرها، ليذهبوا إلى المخزن ويستلمون حقهم منه.

ثم غير صاحب المخزن الإيصالات، فلم يعد يكتب فيها "50 كيلو حنطة" أو "10 أزواج أحذية" بل أكتفى بأوراق ممهورة بتوقيعه تحمل علامة تمثل قيمة البضاعة التي استبدلت بها حتى إن اختلفت نوعية البضاعة. فالورقة التي تمثل "10 كيلو حنطة" مثلاً، هي نفسها التي تمثل "زوج من الأحذية".

 

هذا جعل الأمر أكثر سهولة للناس. فمن يأت بمئة كيلو حنطة يأخذ عشرة أوراق، ومثلها يأخذ من يأتِ بعشرة أزواج أحذية. ويستطيع كل منهما أن يعود إلى المخزن متى شاء ليأخذ ما شاء من الأحذية أو الحنطة أو غيرها من البضائع. لم يرفض الناس قبول هذه الأوراق، فهي مازالت إيصالات محددة القيمة حتى وإن لم يكتب عليها ما هي البضاعة التي تمثلها. لقد كان الناس مطمئنين أن هناك مقابل كل ورقة يحملونها، زوج من الأحذية أو عشرة كيلوات حنطة في المخزن ليأخذونها مقابل ورقتهم في أي وقت يشاءون، فكانت البضاعة في المخزن تساوي قيمة الإيصالات التي لدى الناس.

 

تساءل الناس: لكن ما الذي يربحه صاحب المخزن من كل هذا؟ قال لهم أنه فاعل خير ولا يريد مقابلاً!

 

بعد فترة لاحظ صاحب المخزن أن الناس لا يأتون لاستبدال كل إيصالاتهم بالبضاعة مرة واحدة. الناس تحتفظ بالإيصالات بدلاً من احتفاظها بالبضاعة في منازلها، ولا تستبدلها حتى تحين حاجتها لتلك البضاعة. ولكن قبل أن يأتي البعض لإستلام بضاعته، يكون غيره قد جاء ببضاعة أخرى. وهكذا فأن المخزن لم يفرغ يوماً، بل يبقى فيه دائماً مقدار متذبذب بين نصف البضاعة وربعها. فكر صاحب المخزن أنه يستطيع إذن أن يأكل ربع الحبوب ويستعمل ربع الأحذية دون أن يفتقدها أحد! وهكذا كان، فصار له فجأة ربع ملكية قبيلته!

 

صاحب المخزن أعجبته نباهته وحماقة الناس التي أعطته ربع ملكيتها دون أن تدري، ففكر بطرق أخرى لزيادة حصته. فجمع الناس يوماً وقال لهم: أن الإيصالات من صنعه وهو الذي حدد قيمتها، ولذلك فله الحق في أن يقرر أن يغير قيمتها متى شاء، ووفق ما يراه مناسباً. قال لهم أنه قرر منذ الآن أن يعطي كل من يأتي بحذاء، ورقتين بدلاً من ورقة واحدة، ومن الطبيعي أن من يريد حذاءاً من الآن فصاعداً، فعليه أن يقدم ورقتين! لم يجد الناس مشكلة في ذلك.. ورقة أو ورقتين.. ما الفرق بالنسبة لنا، قال الناس، ما دامت في النهاية تمثل حذاءاً؟ لكن لماذا يريد هذا المجنون أن يتعب نفسه فيكتب ورقتين بدلاً من الورقة الواحدة؟

 

لكن للمجنون حكمته كما يقولون. صحيح أن المتعاملين الجدد لم يحسوا بأي فرق، لكن الذين كانوا قد بادلوا في الماضي كل حذاء بورقة واحدة، خسروا نصف ثروتهم، فلم تعد كل ورقة من أوراقهم تساوي إلا نصف حذاء!

 

مر الأمر بسلام، ولم يكتشف الناس الخدعة ويرموا بصاحب المخزن من أعلى الجبل كما كانت عادة أهل القرية مع اللصوص، وهو ما كان صاحب المخزن يخشاه لو أن أمره افتضح. وشجعه هذا النجاح على تكرار الأمر، فصار يضاعف عدد الأوراق اللازمة لكل حذاء، كل بضعة سنين. وبدلاً من أن يزداد احتمال اكتشاف خطته مع زيادة أطماعه، بدا أن الأمر أتخذ مساراً معاكساً، فثبت التكرار والعادة لدى الناس الوهم، وصار الجميع مقتنعاً بأن صاحب المخزن هو المخول بتحديد قيمة الأوراق وتغييرها لأنه من يصدرها، ونسوا أنها لم تكن إلا إيصالات لبضاعتهم، وأن من أول مبادئ التجارة أن الإيصال لا يجوز تغيير قيمته.

 

ولما لم يجد ما يوقفه عند حده، أراد صاحب المخزن أن "ينظم" أموره أكثر، فأعلن لزبائنه أن الاوراق ستهبط منذ اليوم بشكل ثابت، وأنها سوف تنخفض بمقدار عُشر قيمتها كل عامين! وحين سألوه عن السبب، قال أنه "التضخم"! هز الناس رؤوسهم متفهمين، وقالوا لأنفسهم أن هذا "المرض" لا بد أن يكون قد أصاب الأوراق، وأنها ستصاب بالنحول التدريجي وتفقد من وزنها شيئاً بسببه كل عام ، وأنه لا مفر لهم سوى أن يشتغلوا أكثر لتعويض أثره.

هكذا صار لصاحب المخزن دخل ثابت يساوي خمسة في المئة من مجموع محصول القبيلة كلها، دون أن يحس بذلك أحد. كان رجال القبيلة ونساؤها ينظرون بدهشة إلى ثروة صاحب المخزن وهي "تتبارك" كل عام وتتراكم، ويضربون به المثل لأطفالهم ويشرحون لهم كيف أن "الرب" يجازي أصحاب الطيبة وعمل البر!

 

مات الرجل بعد أن شبع من الحياة وأتخم، وورثه أبناؤه، وأسموا الإيصالات "نقوداً"، ومازال الناس ينظرون بإعجاب ودهشة ممزوجة بالقدسية إلى مالكي تلك الثروة المباركة التي لا تتوقف عن التراكم والإرتفاع كأنها السحر، رغم أن أصحابها لا يزرعون ولا يحصدون ولا يخيطون الأحذية!

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1411 السبت 22/05/2010)

 

في المثقف اليوم