أقلام حرة

هل ينقذ اليسار البلجيكي بلاده من التمزق الطائفي؟

الشعب البلجيكي! بل، إذا اخذنا ظروف كل من تلك الشعوب بنظر الإعتبار، نجد أن الشعب البلجيكي هو الذي يجب أن يخجل من نفسه أكثر من غيره.

فهذا الشعب الذي ينعم بالسلام والإستقرار الطويل، والذي تبلغ ملكية معدل العائلة فيه أكثر من ثلث مليون يورو، طالما تصرف بطائفية غريبة، فانقسم إلى نصفين، شمالي يتكلم الهولندية وجنوبي يتكلم الفرنسية، لا علاقة بينهما سوى المشاعر السلبية. ينتخبان بشكل منفصل، أحزاباً منفصلة، ولكل منهما ثقافة منفصلة ونظام صحي منفصل، وغيرها.

 

المشكلة الآن هي أن المقاطعة الشمالية تقول أنها تدفع تكاليف الدولة أكثر من الجنوبية، ولذلك تطالب بالإنفصال، رغم أن الجنوبية كانت في الماضي هي الأغنى وهي التي تدفع، لكن هذا لم يحتسب. لذلك فللشعب البلجيكي ثلاث حكومات، واحدة لكل طائفة وواحدة فدرالية. قسموا الأرض بينهم على أساس اللغة، فلا تتكلم بلدية أية مقاطعة سوى لغة واحدة، ولا تكتب رسائلها إلى الناطقين باللغة الثانية، وليس لهم مدارس بلغتهم، إلا في مناطق محدودة جداً حيث تزيد نسبتهم عن الثلث. وحين بلغت نسبة تلك الأقلية في بعض المناطق أكثر من النصف وانتخبوا عمدة من عندهم، رفضت سلطات الجانب الآخر، والذي يقع ضمن إدارتها، الإعتراف به! وصاروا يمنعون الشركات من بيع الأراضي والدور للناس التي تتكلم اللغة الأخرى خوفاً من "إستحواذ" هؤلاء على مدن ضمن إدارتهم.

 

وتعقدت الأمور وصارت الإنتخابات متداخلة وغير منطقية، فأعلنت المحكمة الدستورية أن إجراء الإنتخابات بهذه الطريقة غير دستوري، وأن حلاً للمشكلة يجب أن يوجد قبل الإنتخابات التالية التي كانت ستجري عام 2007. لم يستطيعوا إيجاد حل، فتهددت بلادهم في السقوط في فراغ دستوري مخيف لا حل له. أبتكروا حينها مراوغة لتجاوز قرار المحكمة، فأقاموا الإنتخابات قبل اسبوع من موعدها، أي قبل أن ينطبق عليها قرار المحكمة، فأجلوا المشكلة بضعة سنوات. 

 

لكن هذا لم يطل كثيراً، فأسقطت الطائفية حكومتين دون أن تحل المشكلة. كان هناك كاريكاتير في إحدى الصحف البلجيكية يمثل تنيناً يسترخي عند شجرة له ثلاث رؤوس (المشكلة تتعلق بثلاث بلديات). التنين أكل تواً ضحيته الثانية، الحكومة الثانية، وبينما يتأهب رأسان منهما لأخذ قيلولة بعد الوليمة، يقول الثالث أنه سيبقي عينيه مفتوحتان، لأن "الثالث" لا بد أن يمر من نفس الطريق!

بعد سقوط الحكومة الثانية، أصيبت البلاد بالرعب، فلا يمكن إيجاد حل بدون وجود حكومة وبرلمان، ولا يمكن أنتخاب برلمان وحكومة جديدين لأن الإنتخابات ستكون غير دستورية! لكنهم وجدوا طريقة ثانية للإلتفاف على قرار المحكمة بالعودة إلى نظام انتخابي قديم لمرة واحدة، وهكذا أعطيت بلجيكا فرصة أخرى للبقاء وإيجاد حل لطائفيتها الشديدة. 

جرت الإنتخابات قبل أيام (13 حزيران) وظهرت نتائجها في مساء نفس اليوم، وصباح اليوم التالي، فلم يكن لديهم مدير لـ "مفوضية مستقلة للإنتخابات" بمثل موهبة وأسرار فرج الحيدري وحاسباته، وإلا لبقيت تنتظر النتائج شهراً. نتائج الإنتخابات كانت ستغير المشهد السياسي البلجيكي بشكل كبير لكنها لم تكن بعيدة عن التوقعات.

ففي الفلاندر الشمالية حقق حزب "التحالف الفلمنكي الجديد" (إن في آ) القومي الذي يطالب باستقلال مقاطعة الفلاندر، نجاحاً باهراً فحصد 28% من الأصوات في منطقته الإنتخابية، محققاً بذلك المرتبة الأولى في المقاطعة الأكبر (وبالتالي في عموم بلجيكا، لأنها المقاطعة الأكثر سكاناً). كما أن الحزب حقق إنتصاراً آخر أكبر في انتخابات مجلس الشيوخ الذي ينتخب في بلجيكا من قبل المواطنين مباشرة، وفي نفس الوقت مع انتخابات البرلمان. وحصل الحزب على حوالي ثلث الأصوات في الشيوخ. لقد كان الجانب الوحيد الإيجابي في انتصار هذا الحزب الإنفصالي هو الهزيمة النكراء التي مني بها حزب "المصلحة الفلمنكية" المكون من "شلاتية" عنصريين يعتمدون على معاداة الأجانب.

 

وكان الحزب قد دعى الى ان تتحول بلجيكا في بداية الأمر الى دولة "كونفدرالية" تعهد فيها السلطات الاساسية للمناطق، بهدف تمكين منطقة الفلاندر من الاعتماد كليا على نفسها قبل استقلالها و زوال بلجيكا كدولة. لكن رئيس الحزب عاد يطمئن البلجيكيين بعد الإنتخابات بالقول ان استقلال الفلاندر "ليس مطلبا ملحا للحزب".

اما في صفوف الجنوبيون الناطقون بالفرنسية، فقد حقق الحزب الاشتراكي انتصاراً ساحقاً بحصوله على 37.5 % من الاصوات وكان الأول بامتياز متقدماً على الحزب الليبرالي الذي لم ينل سوى 22,3 % من الاصوات.

وقد بدأت بالفعل المفاوضات لتشكيل الائتلاف الحكومي الجديد، والتي يتوقع لها أن تستمر عدة أشهر، في الوقت الذي سوف تتسلم فيه بلجيكا في تموز، أي بعد أسبوعين، الرئاسة الدورية للاتحاد الاوروبي، وهي في حكومة تسيير أعمال!

لكن من كل هذا النفق المظلم يظهر ضوء بعيد، فرئيس الحزب القومي، كان مدركاً بأنه ليس مناسباً ليصبح رئيساً للبلاد لقلة خبرته، وعبر عن استعداده لقبول الدخول في حكومة يرأسها الفرانكفونيون (الناطقون بالفرنسية). وللملك أن يختار حزباً يكلفه بتشكيل الحكومة، ومن المعتاد أن يكلف أحد الحزبين الأولين، وليس الأول بالضرورة.

مقابل بادرة رئيس الحزب القومي، بادر رئيس الحزب الإشتراكي الفرانكفوني المعني بهذا التنازل، الإيطالي الأصل أيليو دي روبو، والمثلي الجنس، بإبداء استعداده للتفاوض وتقديم التنازلات الضرورية لتشكيل الحكومة وإنقاذ وحدة البلاد، داعيا الفرنكوفونيين الى "التحلي بشجاعة التوصل الى اتفاق"، وهو ما قوبل بارتياح شعبي وأثنت الصحف عليه فقالت أن زعيمي الحزبين الفائزين تحدثا بعد ظهور النتائج بمسؤولية "رئاسية".

وفي مقابلات صحفية مختلفة حاول كل منهما ان يتكلم لغة الجانب الآخر، دي روبو تكلم بالفلمنكية، التي يقول أنه يتدرب عليها ساعة في اليوم، ودي ويفر بالفرنسية، كإشارات رمزية إيجابية.

 

وفي الجانب الفرانكفوني فأن الناس رأت في الحزب الإشتراكي العريق الخيار الذي يؤمن مصالحهم بأفضل شكل. فأكثر ما يقلق الوالونيون هو التهديد الفلمنكي بقص أجزاء كبيرة من المنافع الإجتماعية التي يتمتعون بها، من خلال برنامجه القاسي للتوفير في الميزانية مثل قوانين الضمان الإجتماعي والتقاعد، وغيرها من القوانين والأنظمة التي يدافع عنها الإشتراكيون أكثر من غيرهم. كذلك وجد هؤلاء أن قائد الحزب دي روبو هو الأقدر على إجراء المفاوضات التي يؤمل أن تنقذ البلاد من التقسيم.

 

ورغم ذلك فأن هذه الأجواء قد لا تكفي حتى لإنقاذ بلجيكا من الخطر المحدق بوجودها كدولة، إن تعثرت المفاوضات. فالحزبان يقفان على طرفي نقيض في الطيف السياسي البلجيكي، ولكل منهما أجندة مختلفة ووعود إنتخابية لناخبيه، تختلف كثيراً عن الآخر، فهل سيتمكنان من عقد اتفاق لا يثير غضب ناخبي أي من الحزبين بشكل كبير؟

 

فمثلاً يريد "التحالف الفلمنكي الجديد" أن يوفر في الميزانية 22 مليار يورو، وعلى حساب الخدمات الإجتماعية بشكل أساسي، وهذا يتناقض مع رؤية الإشتراكيين الذين يطلبون زيادة المصاريف الإجتماعية بمقدار 7 مليارات يورو. ورغم أنه من المتوقع أن يتنازل هؤلاء عن طموحاتهم، إلا أن الفارق يبقى كبيراً.

كذلك ليس من السهل أن نتخيل كيف سيتعامل الإشتراكيون مع مطالب القوميين بوقف الهجرة و"تعديل" نظام المعاشات ووزارة العدل بالطريقة التي قدمها "التحالف الفلمنكي الجديد" في برنامجه الإنتخابي.

يضاف إلى كل ذلك إشكالات بقية الحلفاء المحتملين، مع برنامج وخط سياسة حزب "التحالف الفلمنكي الجديد" القومي الداعي للإنفصال، بينما خاضت معظم تلك الأحزاب حملتها الإنتخابية بشعارات وحدوية، كما فعل حزب "الوسط الإنساني الديمقراطي" الفرانكفوني، والذي كان يرفع شعار "في الإتحاد قوة".

 

إنها فرصة للإشتراكيين، لكنها فرصة محفوفة بالخطر، قد ترفعهم إلى أعلى كثيراً في بلجيكا وقد تحطمهم إن قبلوا بتقديم تنازلات تفوق ما يتحمله ناخبوهم، وليس لنا سوى أن نتمنى لهم النجاح, وأن تكون تجربتهم ملهمة للأحزاب والشعب العراقي واللبناني لحل المشكلة الطائفية في بلادهما.

 

ملحق: عدد المقاعد التي حصلت عليها الأحزاب المختلفة في البرلمان البلجيكي:

يتكون البرمان البلجيكي من 150 مقعداً، تم تقسيمها بالشكل التالي (الأرقام بين اقواس تمثل عدد المقاعد التي كانت للحزب قبل الإنتخابات الأخيرة):

 

NVA

27 (8)

LDD

1 (5)

CD&V

17 (23)

PS

26 (20)

SP.A

13 (14)

MR

18 (23)

OPEN VLD

13 (18)

ECOLO

8 (8)

VL. BEL.

12 (16)

CDH

9 (10)

GROEN!

5 (4)

 

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1430 الخميس 17/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم