أقلام حرة

انتاج النفط ليس إنتاجاً (1) النفط بين التخطيط والإعلام / صائب خليل

أنظروا إلى ما توحيه لكم هذه العناوين الفخورة التي انتشرت في الصحافة العراقية:

" بغداد تتطلع إلى منافسة الرياض في إنتاج النفط الخام."

" العراق سيكون في مقدمة الدول المنتجة للنفط بعد تنفيذ العقود مع الشركات العالمية "

" العراق يسعى لمعادلة الإنتاج الروسي والسعودي من النفط."

"المجتمع الدولي ملتزم بمساعدة العراق في زيادة إنتاجه النفطي."

 

لكن ما نملك من خزين النفط ينخفض بعملية استخراجه وبيعه، لذلك، إن قبلنا تسمية هذه العملية "إنتاجاً للنفط" فيجب أن نعتبر أن "إنتاج شيء" يتسبب في خفض ما نملكه منه!

ليس ما احاول لفت الإنتباه له هنا هو خطأ لغوي من تلك الأخطاء الكثيرة الشائعة، بل هو في تقديري مغالطة مقصودة، ضمن عدد كبير من المغالطات اللغوية التي تم نشرها في الإقتصاد لتشويه الإنطباع الذي تعطيه عملية ما، لتجمل ما هو قبيح أو تقبح ما هو جميل، لإقناع البشر بقبول عمليات مربحة للشركات، رغم أنها تضر بمصالح الناس.

 

التعبير الأكثر سلامة وتعبيراً عما يجري عندما نستخرج النفط من مخازنه الأرضية ونبيعه لنصرف مردوده لشراء السلع الحياتية، هو "إستهلاك النفط الخام" وليس إنتاجه، خاصة وأن مخزون النفط محدود الكمية، ولا يمكن تعويض ما "يستهلك" منه لأنه نتاج الطبيعة لملايين السنين.

وقد يقول قائل، بأن استخراج النفط عملية صناعية تتطلب جهداً ومالاً، وبالتالي فهي ليست "إستهلاكاً" وحول هذا نقول أن الجبن يحتاج أيضاً إلى بعض الجهد لإخراجه من الثلاجة وبيعه، ومع ذلك لا نسمي ذلك إنتاجاً للجبن. ومما لا شك فيه أن استخراج النفط أصعب من استخراج الجبن من الثلاجة، لكن الجهد يبقى ضئيلاً بالنسبة إلى قيمة النفط، خاصة في البلدان التي لا يحتاج الإستخراج فيها إلى تقنية عالية ومصروفات خاصة، كما هو الحال بالنسبة لسهولة وقلة كلفة استخراج النفط العراقي. وفي كل الأحوال فأن المبدأ يبقى واحداً: الإنتاج يفترض زيادة مخزون البلاد مما ينتج، وليس انخفاضه، كما يحصل مع "انتاج النفط".

وربما يقول آخر بأننا نحصل مقابل النفط على النقود، والتي يمكن أن تستعمل في مشاريع استثمار أيضاً، وهذا صحيح، لكن يجب أن نتذكر أن ما يوجه للإستثمار، معفي من صفة الإستهلاك، لكنه ليس سوى جزء بسيط من المردود. أما الباقي فمعظمه يوجه للإستهلاك المباشر. النفط في الأرض لا يختلف عن نقود في الخزنة. ليس غريباً أن نسحب تلك النقود فنصرفها بين استهلاك واستثمار، لكننا بالتأكيد لا نطلق على ذلك العمل عبارة "إنتاج" للنقود. الكلمة المناسبة التي تعبر عن العملية هي "استهلاك" في اسوأ الأحوال، و "بيع" في أحسنها.

 

إذن لماذا نقلب التسميات؟ لأن "الإنتاج" شيء إيجابي يفتخر به ويوحي بمستقبل أكثر وفرةً. العبارات ألصحفية الفخورة أعلاه، والتي تشجع هذا "الإنتاج"، ستأخذ تعبيراً مختلفاً تماماً حين نسمي الأشياء بأسمائها المناسبة:

 

" بغداد تتطلع إلى منافسة الرياض في إستهلاك احتياطي نفطها الخام."

" العراق سيكون في مقدمة الدول في سرعة بيع خزينه من خام النفط بعد تنفيذ العقود مع الشركات العالمية "

" العراق يسعى لمعادلة روسيا والسعودية في استهلاكهما للثروة النفطية في بلديهما."

"المجتمع الدولي ملتزم بمساعدة العراق ليبيع ما عنده من نفط بسرعة."

 

هذه هي العناوين المعبرة عن الحقيقة بشكل أفضل، وكما ترون فهذه الحقيقة ليست "جميلة" على الإطلاق! لقد اختفى كل الفخر الذي كانت تنتفخ به تلك المانشيتات، وتحول إلى ما يشبه كلام المجانين: لماذا "تتطلع" دولة إلى منافسة دولة أخرى في استهلاك ثروتها؟ لماذا يشجع "المجتمع الدولي" العراق على بيع نفطه بسرعة؟ ولماذا يساعده في ذلك؟

العبارات بشكلها الحقيقي هذا ستثير هذه الأسئلة وأسئلة أخرى غير مناسبة مثل: وماذا سيفعل العراق بعد أن يبيع ما عنده من نفط بهذه السرعة؟ ما الذي سيبقى لأجياله القادمة؟ ولماذا يستهلك حقها في ثروة بلادها؟

 

ما هو الإنتاج الأمثل إذن، وكيف نبقي لأبنائنا وأحفادنا أكبر حصة ممكنة، دون التأثير سلباً على تطور البلاد الإقتصادي؟

لنسأل بعض خبراء نفطنا، الأستاذ فؤاد الأمير كتب حول الموضوع في كتابه القيم "ثلاثية النفط والغاز" قائلاً:

 

"لهذا فان الحل الصحيح بنظرنا واضح، وهو ان في غير صالح العراق التوسع بالطاقة الانتاجية، والتي يجب السير بزيادتها التدريجية وفق جدول زمني يحدده امكان الصرف العقلاني..

 

ماهي السياسة الصحيحة لخطط الانتاج؟ ان كمية الانتاج والتصدير السنوية الصحيحة ، بنظرنا، هي التي تكفي لان توفر مبالغ سنوية باستطاعة حكومة العراق صرفها لاغراض تطوير انتاج النفط وخطط التنمية الوطنية وسد حاجة الميزانية العراقية.

 

لنأخذ مثلا طاقة تصديرية قدرها ( 3) مليون برميل/ اليوم، وبافتراض عائد...( 60 ) دولار/ البرميل، ...فسوف نحصل على عائد سنوي قدره ( 65,700 ) مليار سنوي. باعتقادي ان قابلية العراق للصرف لا تتجاوز هذا المبلغ للسنوات الخمسة المقبلة.

 

اما لو اخذنا امكانيات تصديرية قدرها ( 5) مليون برميل/ اليوم، ...... وافترضنا ان العائد هو ( 70 ) دولار/برميل.

وبافتراض عدم انهيار الاسعار وهو امر متوقع في هكذا زيادات في الانتاج،فسوف نصل الى ارقام خيالية للعائد السنوي تتاوح بين ( 175 ) و ( 204 ) مليار دولار. وهذه المبالغ السنوية، ومع الاستثمار الاجنبي في جميع القطاعات عدا الانتاج النفطي ، لايمكن للدولة العراقية صرفها وتؤدي في احسن الاحوال الى وجود احتياطي نقدي عال جدًا.

وهذا الوضع سيؤدي بالتأكيد الى ظهور تيارات تريد انفاق مبالغ عالية على الجيش والاجهزة الامنية (كما في عهد صدام)، والى التوسع في هدر الثروة في خدمات غير مقبولة، وكذلك الى تكالب "الدائنين" وغيرهم للحصول على "ديونهم المزعومة"، ومنها الكويت (والاحتمال الاكبر ايران ايضًا). والاهم من ذلك قيام قوى الامبريالية في العالم بخلق الحروب وجر العراق للمساهمة فيها، وهدر ثروته لاضعافه، كما حدث لدول الخليج في حروب الخليج المختلفة".

(إنتهى اقتباس الأستاذ فؤاد الأمير)

 

وفي مؤتمر علمي دولي عقد في باريس، 25- 27 شباط، 2008- نظمه مركز الأبحاث العراقية، قدم الدكتور كامل العضاض ورقة بعنوان، " نحو سياسات رشيدة لإدارة صناعة إستخراج النفط في العراق" تدور حول عدد من المحاور والمفاهيم، أوجزها الدكتور العضاض كالآتي:  

    إن النفط ثروة ناضبة ونادرة، وتشكل صادراته موردا أساسيا، ولابد من وجود إستراتيجية حكيمة، لتوظيف هذه الموارد لتعظيم تنمية مستدامة في الأنشطة غير النفطية. وعليه يجب أن تقوم الإستراتيجية على تعظيم تنمية القطاعات غير النفطية الدائمة أو المستديمة، وليس تعظيم الموارد المالية لسلعة ناضبة، كالنفط الخام.

 

    توجب هذه الإستراتيجية، وجود القرار المركزي بشان حجم الإنتاج والتصرف به لدى مالك الثروة، الشعب العراقي، أي الحكومة المركزية، وليس لدى سلطات محلية جزئية أو في مناطق جغرافية .....وإذا ما أصّرت أقاليم أو محافظات على أن تتولى قرارات الإنتاج في مناطقها النفطية، فسيخسر الجميع، لأن ذلك يعني تشتت الصناعة، والتنافس، وبعثرة الكفاءة، والتركيز على العوائد المالية، وليس تحقيق وتعظيم تنمية لصالح الأجيال القادمة، وهي صاحبة حق مقدس في الثروات التي قد ترثها، إن بقيت!

(إنتهى أقتباس الدكتور كامل العضاض)

 

نستنتج إذن السياسة النفطية الصحيحة تبدأ من خلال خطة لإستثمار موارد النفط من أجل خطة إقتصادية عراقية كاملة وأن الزيادة بدون جدول عقلاني محدد، سياسة خطرة قد تلحق أشد الضرر بالثروة النفطية، وأن تلك الزيادة لا يؤمل منها أكثر من زيادة في الإحتياطي النقدي، بنتائج غير مفيدة وقد تكون سلبية وحتى كارثية على البلاد، كما بين تاريخنا الحديث بوضوح.

وفي هذه اللحظات المضطربة من تأريخ البلاد، فأن البعض يستغل فرصة انشغال الناس والمؤسسات والمنظمات السياسية والشعبية بالإنتخابات والضغوط الأجنبية، المتمثلة بالزيارات المكوكية من وإلى العراق، من أجل فرض الحكومة الجديدة، لتمرير سياسات سيئة في مختلف الجوانب الأخرى ومنها النفطية.

 

وكمثال واضح لكل مواطن على نتائج السياسة الإندفاعية غير المدروسة، قرار السماح بإدخال السيارات إلى العراق دون أي حدود أو خطط، فم تكن النتيجة أن تحسنت المواصلات في البلاد وزادت سرعتها ومرونتها بفضل السيارات الجديدة، بل ارتفع التلوث بشكل كبير، واختنقت شوارع بغداد بشكل فضيع، وصار الوصول إلى مكان العمل أو العودة منه كابوس مخيف، خاصة في حر بغداد اللاهب!

 

لذا فمن الأساسي ليس فقط تبني سياسة نفطية مدروسة، وإنما توعية المواطن بها بشكل مستمر. ولذلك فأن على الأعلام الإقتصادي أن لا يركز على الإفتخار بزيادة الإنتاج وزيادة الحقول المنتجة وإنشاء مناطق استخراج جديدة، كما هو حاصل الآن، دون أن تسبق ذلك خطة متكاملة لحساب الإنتاج الأمثل وتدرجه المناسب، والنتائج المنتظرة منه، واختيار مناطق الإنتاج وفق تلك الخطة.  فمثل هذا الإعلام المفاخر بزيادة الإنتاج العشوائية وكأنها تمثل "زيادة في الإنتاج" فعلاً، وتؤشر تطور اقتصاد البلاد، إعلام مضلل وأبله، إن كان بريئاً، ويجب وقفه فوراً.

 

فالإفتخار بزيادة "الإنتاج النفطي" لمجرد زيادة "الإنتاج"، وبدون خطة وطنية عامة، هو أشبه بمن يفتخر بأنه يسرع بإفراغ ثلاجته من الطعام، وأكل كل ما يستطيع، حتى لو أصابته التخمة والسمنة والم البطن، قبل أن يعود أبنائه من المدرسة ليسألوا عن حصتهم، والأشد هولاً من ذلك أن يسمي ما قام به من سرقة لحصة أولاده، "إنتاجاً"! 

 

الحلقة الثانية من المقالة ستتناول تأثيرات زيادة الإنتاج ودروس من تاريخ الموضوع و أوبك.

 

صائب خليل ([email protected])

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1453 السبت 10/07/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم