أقلام حرة

سعدتما أبا حسام وأبا مصطفى بما صبرتما / مصطفى الكاظمي

كما قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات* وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون"

حينما عقد طبيب المستشفى بمدينة ملبورن الاسترالية لقاءه الاخير مع والدي محمد السلمي كنت ثالثهما، وحينما أصمّ قرار الطبيب النهائي مسامعي، تسمّر بصري في عينيّ الحاج صادق أبي محمد السلمي لأستقرئ ما سيتحقق في اللحظات العصيبة القابلة. وحين صرخت الام وصكّت وجهها، شعرت ان اللحظات تتسارع وهي تتسامى مع ما دار في هواجس الحاج صادق وهو يرنو ببصره الى الاعلى في حالة هي اقرب الى تجديد خضوعه للرب تعالى يردد ويتلو: انا لله وانا اليه راجعون.

هكذا شاء القدر أن يخطف روح الفتى محمد صادق السلمي بعد ثلاثة ايام على حادث السيارة المؤسف امضاها في المستشفى، وقد استنزف ابواه كل الطاقة وبلغا مبلغ الانهيار لولا كلمة الاسترجاع التي ردداها كل لحظة من لحظات موقفهما في المستشفى.

ذات الامر تكرر بعد اسبوع في ذات المستشفى للشاب مصطفى هاشم المنصوري إثر تعرضه لحالة فاجأت دماغه فطرحته رهين سرير الموت. وحين تلا الطبيب قرار الموت علا الاسترجاع من ابيه هاشم المنصوري وبالصورة التي مرت على وجدان الحاج السلمي.

رغبت من هذه المقدمة ان أحوم حول موضوع الصبر والتصبر ومواقف امثال هذين الطيبين ومن سبقهما ومن سيتابعهما في موقف التصبر والتجلد الجليل.

الصبر هو عدم الجزع، وهو الهدوء والاطمئنان وضبط النفس والسيطرة على كل ادوات الشعور ومكامن الاحساس لدى الانسان. والصبر منزلة كريمة جليلة لا يرقى اليها الا من خالط الايمان بدنه وروحه. وهو رابع اعمدة الفوز والمقبولية عند الله تبارك تعالى بصريح سورة العصر: "والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".

والى هذا قال رسول الله الاقدس محمد صلى الله عليه واله وسلم: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب).

بصبركما ابا حسام وابا مصطفى قد احطتما روحكيما ووقيتماهما من الجزع فلم يختل التدبير في ذلك الموقف الرهيب قبال امر الله تعالى وارادته وقدره وانتما تتمثلان جسدي ولديكما بكل احاسيسكما. فبشراكما كما يبشر الله تعالى في محكم اياته البينات "انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ".

الصبر: [من اعظم أعظم الملكات والأحوال التي يمدحها القرآن، ويكرر الأمر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: «إن ذلك من عزم الأمور»: لقمان/17، وقيل: «وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم»: فصلت/35، وقيل: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»: الزمر/10] راجع تفسير الميزان.

شاء الله تعالى ان يختبر المؤمنين ويمحص ايمانهم في حالات متنوعة ومتعددة كما بينته الايات الشريفة التي بدءنا بها الكلام، منها اختبار الناس بالخوف، وابتلاء العباد بالجوع، ونقص المال وكساد التجارة، وفقد الاحبة وموت الاهل، وبالمرض وسلب العافية وغيرها من الابتلاءات الربانية الكبيرة التي لم يصمد لها الا الانبياء والكمل ومن سار على نهجهم من المؤمنين، فلم يفلح بالاختبار الا من آمن وعقد العزم على التسليم لامر الله تعالى، ولقد وجدناه واضحا في شخصيتي العزيزين أبي حسام السلمي (صادق) وابي مصطفى المنصوري (هاشم) وهما يقفان على جثماني فلذتي كبدهيما محمد (11عاما) ومصطفى (16عاما) فلم نسمع منهما الا الاسترجاع المستمر "انا لله وانا اليه راجعون".

وقد جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون"، أعاد ذكر الصابرين ليبشرهم أولا، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، ويظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر- وهو ملكه تعالى للإنسان- ثالثا، ويبين جزاءه العام- وهو الصلاة والرحمة والاهتداء- رابعا فأمر تعالى نبيه أولا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرا وجميلا، وقد ضمنها رب العزة، ثم بين أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة، وهي الواقعة التي تصيب الإنسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، وهي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، وأن مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والأسف، ويغسل رين الغفلة.

تبقى مسألة تثير الامل في النفس وهي مشاركة ابناء الجالية العراقية في مثل هذه المصائب وهذه الابتلاءات، وهي موقف وجداني نبيل ومن المزايا الجليلة التي يندر ان نجدها في غيرنا. وفيما نعتقد انها من ألطاف الله تعالى بنا في مهاجرنا اذ تتوحد الاحاسيس لتشاطر ذوي المصاب مصابهم وبذلك تخفف عنهم وطأة الالم وشدة الحزن، وهو ما افصح عنه ذوو المصاب بالسنتهم ومشاعرهم. او كما عبر عنه احد السادة الاجلاء: انها الغيرة العراقية الاسلامية. وبهذا نحمد الله ونستزيد ألطافه ببركة التمسك بنهجه القويم وصراطه المستقيم صراط نبيه الاقدس محمد وآله الطاهرين.

ملبورن- الكاظمي 2010

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1466 الجمعة 23/07/2010)

 

في المثقف اليوم