أقلام حرة

محكمة الحريري في لبنان ومحاكمة بايباسان في هولندا – كيف تزور المكالمات التلفونية؟ / صائب خليل

حين قامت هولندا على فضيحة قضائية ضخمة (ثم نامت ثانية كعادتها).

قال نصر الله أنه يشكك في عمل المحكمة، وبين أن «لجنة التحقيق ذهبت منذ اليوم الأول إلى فرضية واحدة وركبت اتهاما وحكما وذهبت تبحث له عن أدلة»، ودعا إلى «تشكيل لجنة لبنانية، إما برلمانية أو قضائية أو أمنية أو وزارية، وعليها أن تأتي بالشهود، وأن يأتوا بمحمد زهير الصديق، وهم يعرفون أين هو، ويسألونهم من فبركهم ومن زودهم بالمعلومات التي يجب أن يقولوها». وأضاف: «هل أتى الشهود من السماء أم أن هناك من صنعهم؟ ».

وسأل: «ألا يحق للبنانيين أن نأتي بالذين فبركوا شهود الزور ونعرف لماذا ضللوا التحقيق 4 سنوات ومحاسبتهم؟»

ولم يفته أن يضيف كعادته، ما يقض نوم خصومه: «قول كل ما أريده في هذا الموضوع دفعة واحدة لا يتحمله البلد ولذلك سأقوله جرعات لأنني أريد حماية البلد والمقاومة." (2)

 

ولم يكن حسن نصر الله الوحيد الذي يشكك في المحكمة، بل ربما كان معظم الناس كذلك. ومن هؤلاء من هم قريبون جداً من هذه المؤسسات، مثل إيف بونيه الذي استلم جهاز مكافحة التجسس في فرنسا في وقت شائك. وهو يسخر من استقلالية المحكمة:

"ليس هناك قضاء دولي مستقل، ولم تقم يوما محكمة دولية مستقلة". أنا هنا اتكلم من خبرتي الأمنية وأضع مصداقيتي في لموضوع. كل المحاكم الدولية التي أنشئت في تاريخنا الحديث كانت مسيسة وتخضع لضغوط الدول القوية والنافذة ومنها محكمة الحريري.

ويضيف: "أنا أتعجب من هذه المحكمة التي لا تملك أية أدلة جنائية ملموسة كيف تصدر قرارات وأحكاماً وعلى أي أساس أصلاً هي قائمة حتى اليوم... كرجل أمني أرى أنه من المستحيل معرفة من قتل الحريري بسبب غياب المحققين في لجنة التحقيق الدولية عن مسرح الجريمة في الأيام الأربعة الأوائل لوقوعها."

وعن أدلة الإتصالات الهاتفية قال: "هذا أمر لا يستقيم جنائيا وقضائيا، ثم أنهم منذ أربع سنوات وضعوا سوريا في قفص الاتهام أين كانت هذه الاتصالات الهاتفية خلال تلك المدة؟"

وللبحث عن الحقيقة يدعو بونيه إلى اللجوء إلى السؤال الأزلي:"من هي الجهة المستفيدة من عملية الاغتيال؟"

ليجيب: "طيلة السنوات الماضية كنا نقول لكل من التقينا من قوى الرابع عشر من آذار إن سوريا هي المتضرر الأول من اغتيال الحريري ولم يستمع لنا أحد، بعد كل هذا الوقت أتت الأحداث لتثبت وجهة نظرنا واليوم أنا أقول أن ما ينطبق على سوريا ينطبق على حزب الله. ليس لحزب الله أية مصلحة في قتل رفيق الحريري بل انه المتضرر الكبير من عملية الاغتيال. لماذا يقتل حزب الله الحريري؟ ليقلب عليه المجتمع اللبناني؟ أم ليعطي العالم حجة لضربه؟ ثم إن رفيق الحريري على كبر حجمه السياسي ونفوذه لا يشكل أي تهديد لحزب الله على الساحة اللبنانية. ثم لماذا لا يتحدث احد عن "إسرائيل"، "الجار" الجنوبي للبنان خبرة كبيرة وتاريخ عريق الاغتيالات السياسية و"الإسرائيليون" يمتلكون القدرات التقنية والاستخبارية على القيام بهذه العملية دون أي شك. (3)

 

سؤال بونيه هو نفس سؤال نصر الله إذن. وبشكل عام ركز نصر الله على أن المحكمة تستند إلى أساسين، الشهود، الذين تبين أنهم شهود زور وانكشف او اعترف بعضهم بذلك، و تسجيلات تنصت تم التقاطها من مكالمات تلفونية. أسهب في الحديث عن الأولى، وجاء بأسماء وتفاصيل وكان يضع الأسئلة المنطقية ويبتسم ابتسامته التي لا أعلم كيف استطاع الحفاظ عليها كل هذه السنين الموجعة. كان يعلم أنه محق وقوي في الحديث عن شهود الزور، لكنه كان مختصراً في شكه بتسجيلات الإتصالات.

 

ربما لم يكن حسن نصر الله نفسه يعلم كم هو محق في الشك بتسجيلات الإتصالات وبعلاقتها بإسرائيل. ومن يتابع هذا الموضوع يشعر وكان إسرائيل قد جعلت كل نظام اتصالات في أي مكان في العالم، هدفاً لها، حتى في بلدان أقرب أصدقائها!

 

في أميركا أثيرت الشكوك حول الشركة الإسرائيلية "أمدوكس" (Amdocs) التي تطبع قوائم التلفونات لكل تلفون في أميركا تقريباً، وهو ما يوفر معلومات ثمينة عن شبكة العلاقات والإتصالات ومواعيدها ألخ.

أما عن شركات أجهزة التنصت على المكالمات وتسجيلها فيقول برنامج لشركة فوكس: "في كل مرة يتم فيها إجراء مكالمة، فأنها تمر من الشبكة الوطنية من البدالات. وتقوم حاسبات شركات مثل كومفرس الإسرائيلية، والمربوطة إلى الشبكة بالتقاط وتسجيل المكالمات، ومن ثم إرسالها إلى المحققين. وتتيح العقود مع الشركة إبقاء الشركة على اتصال دائم بأجهزتها، لغرض تحسين عملها، وهو ما يتيح الإنصات والتصرف بالتسجيلات مما جعل نظام التنصت كله مشكوك فيه.

ويزيد من الشكوك أن شركة كومفرس ليست مستقلة في عملها عن الحكومة الإسرائيلية وتحصل على 50% من تكاليف البحوث والتطوير. إلا أن المسؤولين في المؤسسات الأمركية ومنها إف بي آي (FBI) أبلغوا شركة فوكس أن مجرد التلميح إلى احتمال كون إسرائيل تتجسس على الولايات المتحدة قد يكلف الشخص عمله. (4)

 

أوائل شباط، عام 2003، ظهرت في هولندا أصوات تشكك بأدلة طالما استخدمتها الشرطة كأدلة أثبات موثوق بها في المحاكم المختلفة. فقد تم الحكم على "حسين بايباسين" رجل أعمال من أكراد تركيا بالسجن المؤبد، اقصى الأحكام الممكنة في هولندا، إستناداً إلى تسجيلات لمكالمات هاتفية، قدمت كأدلة إدانة إلى المحكمة. وعندما أنكر بايباسين تلك المكالمات أمام مكتب المحاماة المكلف بالدفاع عنه، قرر هذا البحث في تلك الأدلة، فكلف مكتباً متخصصاً بذلك واكتشف فضيحة أوسع بكثير من قضية بايباسين، فكانت موضوعاً لحلقة من البرنامج التلفزيوني الوثائقي "زمبلا"، كانت بلا شك أشد حلقاته إثارة وأكثرها أهمية.

لقد بين المكتب أن "القصاصات" الصوتية التي استخدمت كإثبات، قد تم التلاعب بها! وربما يزداد العجب أكثر حين تعلم أن هولندا تعتبر البلد الأكثر استخداماً للتسجيلات الصوتية لهذا الغرض في العالم، ولذلك يفترض أن تكون أجهزتها مؤمنة جيداً!

 

ليس تركيب أصوات مزورة واستخدامها كدليل إدانة، شيء جديد الفكرة بحد ذاته، ففي فلم  يعود إلى عام 1998، قام منافسوا مرشح الرئاسة ("جون ترافولتا") بتسجيل مكالماته، ثم تقطيع الأجزاء الصوتية وإعادة لصقها لتكون دليل إتهام بأن المرشح كان يقيم علاقات جنسية غير شرعية، إشاعة كانت بها نهايته السياسية.

 

في قصة رجل الأعمال الكردي، كانت العملية مفضوحة، فلم يكن التزوير ممتازاً، وبين خبير في التسجيلات الصوتية كان يعمل لدى شرطة أمستردام، أمام عدسات "زمبلا" كيف توصل إلى استنتاجاته بتزوير التسجيل، وكيف كانت الإنتقالات غير متقنة، وكيف تغير مستوى الضوضاء الخلفية بين المقاطع، وهو ما يشير إلى أن الأجزاء ركبت من مكالمات مختلفة بعضها تم من خلال تلفون أرضي، وبعضها الآخر من تلفون نقال، وبين أيضاً كيف ان أجزاء الكلام لا ترتبط بشكل منطقي مقنع.

 

وعلق الخبير في البرنامج قائلاً: المكالمات المسجلة ليست مصادر أدلة موثوقة، فيمكنك أن تجعل أي شخص يقول كل ما تريده أن يقول، وإن تم ذلك بإتقان، وأضيفت إليها ضوضاء صناعية، فلن تجد فرقاً واضحاً في الضوضاء الخلفية، ولا في التقطيع أو قوة الإشارة الصوتية، وعندها يصعب اكتشاف التزوير! ولكي يبين الخير ذلك قام بتركيب شريط صوتي بنفسه وقدمه الى جامعة أيندهوفن التي تجري البحوث عليه بمعية رجال الأمن العسكري والشرطة الهولنديتين. وبين الخبير أيضاً لماذا فشل معهد البحوث الجنائية في اكتشاف التزوير في قضية بايباسان.

 

لكن من الذي يمكنه ان يصل إلى تلك التسجيلات لكي يزورها؟ بعد خصخصة شركات الإتصالات أصبح الأمر أسهل بكثير. فكل شركة مجبرة على شراء أجهزة التسجيل التي تقوم الشرطة بالإستفادة منها، وبالتالي يفتح هذا الفرصة لتجسس الشركات.

 

بالرغم من كل تلك الشكوك، أدانت المحكمة بايباسان بالإستناد إلى تلك "الأدلة" باعتبار أن عدد التسجيلات التي تبين تورطه في جرائم، كان كبيراً وأنه ليس من السهل تزوير كل تلك الأدلة. إلا أن الكمية ليست مشكلة على الإطلاق في عالم الأجهزة الرقمية.

 

يقول الخبير، "كان التسجيل في الماضي يتم بوضع قفيص على سلك التلفون الخاص بالشخص الذي يراد تسجيل مكالمته، أما الآن فيقوم بذلك جهاز مبرمج يعطى رقم التلفون الذي يجب تسجيله ليقوم بنفسه بالبحث عنه. ويمكن بالطبع إعطاءه رقم تلفون آخر يقوم من خلاله شخص آخر بتقليد صوت الضحية وتسجيل ما يريد من كلام، خاصة وأن نوعية الصوت لا يشترط أن تكون ممتازة، ودون أن يترك أي أثر بأن التسجيل تم من تلفون آخر".(5)

 

كانت الحكومة التركية السابقة، وبعد القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني أوجلان، قد اعتبرت بايباسان عدو الدولة رقم 1، وكان بايباسان قد ذكر أنه ضحية قوى من اليمين التركي المتطرف، والذين لم يسامحوه لأنه كشف أمام الصحافة العالمية عن علاقات بين أهم السياسيين الأتراك في ذلك الوقت، مثل رئيسة الوزراء السابقة "تشلر" ومافيا الهيروين التركية. وكان بايباسان قد اعترف أنه خلال أعوام السبعينات والثمانينات قد كسب مالاً كثيراً من تهريب السكائر ثم المخدرات. ومن خلال ذلك تعرف على بيئة كبار رجال الشرطة الفاسدين في تركيا، وكان يعامل كإبن مدلل. لكنه عندما كشف ما يعرفه من معلومات واعلن تعاطفه مع حزب العمال الكردستاني الداعي للإستقلال، صار هدفاً للدولة التركية.

لكن من الذي يمكن أن يصل إلى التسجيلات ويقوم بالتلاعب بها في تلك القضية لحساب الحكومة التركية أو اليمين التركي؟

 

جهزت الشركة الإسرائيلية – الأمريكية "كومفرس" (Comverse) أجهزة خمسة عشر مركزاً للتنصت للشرطة الهولندية، والتي تقدم خدماتها أيضاً للأمن السري الهولندي والمخابرات العسكرية الهولندية. وتعود أصول شركة كومفرس إلى المخابرات العسكرية الإسرائيلية، ويعتقد أن أرييل شارون كان من كبار أصحاب الأسهم فيها.

 

ورد ذكر شركة كومفرس في أميركا قبل عام من ذلك التاريخ حين علم أن الشرطة الإتحادية "إف بي آي" قد قامت بالتحقيق معها في قضية تجسس. وعلى إثر ذلك أبدل فرع الشركة في هولندا إسمه إلى "فيرنت" (Verint). وكان مدير "فيرنت" هو مايكل مانشه والذي كان إلى وقت قريب "مدير أنظمة" (systeemmanager) في الشرطة السرية الهولندية (BVD).

 

وتشترط "كونفرس" في عقودها أن لا يفتح أجهزتها أي شخص إلا من ترسله الشركة، لذلك لا يعلم زبائنها في هولندا أو أميركا أو أي مكان آخر في العالم الذي تنتشر فيه أجهزتها، ما تحتويه تلك الأجهزة. وقد طلبت وزارة الخارجية الأمريكية من كونفرس أن تسمح لها بالإطلاع على البرنامج الذي يشغل الأجهزة فرفضت الشركة.

وهكذا فأن زبائن الشركة من مؤسسات أمنية وشركات اتصالات، ليس لهم أن يعرفوا كيف تتصرف هذه الأجهزة ولا كيبف تقوم بتسجيلاتها ولا ما يحدث لتلك التسجيلات.

ويقول رينيه زواب من صحيفة "امستردام الخضراء" أنه من المحتمل تماماً أن يمكن لجهات أخرى غير الجهات التابعة لوزارة العدل الهولندية أن تصل إلى تلك التسجيلات، ولا تقوم فقط بالإستماع إليها، بل وتحويرها، وهو نفس ما أكده الخبراء في الفلم الوثائقي في "زمبلا" وما يؤكد محاموا بايباسان أنه هو ما حدث في قضية موكلهم. ويشترط القانون على وزارة العدل الهولندية أن تقوم بإتلاف التسجيلات بعد فترة، لكن ما الذي يضمن أن النسخ التي في الأجهزة التي لا يمكن اختراقها او فحصها، قد أتلفت فعلاً؟

وينبه زواب إلى أنه بالنظر إلى خلفية كومفرس المتعلقة بالجيش الإسرائيلي، فأنه ليس مستبعداً أن تستعمل تلك الأجهزة لأغراض أخرى غير التي نصبت من أجلها.

 

ويشير محامو بايباسان إلى التعاون المكثف بين أجهزة الأمن السري التركية ونظرائهم الإسرائيليين، في عمليات مثل القاء القبض على قائد الـ بي كي كي، أوجلان، ولا يستبعد أن تكون الشرطة السرية التركية قد حصلت على مدخل إلى أجهزة التنصت بمساعدة نظيرتها الإسرائيلية وتمكنت من تحوير التسجيلات من أجل إدانة موكلهم. (6)

 

الظريف أن الخبير الذي ظهر في برنامج "زمبلا" قد تعرض إلى الضرر في عمله، كما أشار موقع البرنامج، فلم يتم منذ بث البرنامج تكليفه بأية مهمة، لا من الحكومة الهولندية ولا من أية شركة! (7).

 

إن الذين رفضوا الإستماع إلى الخبير الهولندي، هم من نفس طينة الذين رفضوا دعوة السيد نصر الله إلى التحقيق مع شهود الزور: إنهم يبذلون جهداً لتجنب الحقيقة، أما السبب فلا يجهله لا حسن نصر الله ولا الشعب الهولندي!

 

(1) http://www.youtube.com/watch?v=y44IPaA_4tQ

(2) http://aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11563&article=579696&feature

(3) http://groups.google.com/group/fayad61/browse_thread/thread/ef505261b0bf44f1

(4) http://www.informationclearinghouse.info/article6480.htm

(5) http://www.volkskrant.nl/binnenland/article200610.ece/Verknipte_gesprekken

(6) http://www.groene.nl/2002/25/aftappers-in-het-nauw

(7) http://redir.vara.nl/tv/zembla/welcome2.html?20030206/zembla

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1472 الخميس 29/07/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم