أقلام حرة

انتقال موئل القرار الفلسطيني من الكبار إلى الصغار / إبراهيم أبراش

فالانقسام أنتج نخبا وقيادات جديدة باتت تستولي على القرار وتهمش القيادات التاريخية.هذا ما لمسناه من خلال إستقراء تطور الأحداث على أرض الواقع في الضفة وغزة ومن خلال تجربة شخصية تعرضت لها استخلصت منها دلالات كبيرة .

في اليوم الثاني من العيد تلقيت رسالة الكترونية من صديق قديم تتضمن، بالإضافة للتهنئة بالعيد، دراسة ومقابلة لي نُشرا في الصحف قبل خمسة عشر عاما، وقد سررت كثيرا بهذه الهدية لأنني ناشدت أصدقائي قبل عامين تقريبا بإرسال كل ما يقع تحت أيديهم من كتابات قديمة لي حيث فقدت في المجزرة الفكرية التي تعرضت لها قبل عامين على يد عناصر من الأمن الداخلي لحركة حماس كل انتاجي الفكري حصيلة ربع قرن من الجهد.

مع أنني حاولت طوال العامين الماضيين أن أسترد من خلال الأصدقاء والترنت ما فقدت من أعمال منشورة وقد نجحت في ذلك نسبيا، إلا أنني لم استطع فهم أو تفهم ما جرى أو إدراجه ضمن أي منطق سياسي إلا أنه تعبير عن تفكير حاقد وجاهل لمسؤول أو مسؤولين داخل أجهزة سلطة حماس.بالرغم من أن أكثر من جهة فلسطينية وأجنبية – منهم فريق كارتر عندما زار غزة آنذاك -تحدثت حول ما جرى لي مع القيادات السياسية لحماس بما فيها السيد إسماعيل هنية رئيس وزراء حكومة غزة، إلا أن شيئا لم يحدث، فلم تُرجع المسروقات ولم يُحاسَب الفاعلون.

نعم، شعرت بفرحة لإستعادة بعض نتاجي ولكن ما تعرضت له كان مؤشرا على وضع خطير وصل إليه الحال الفلسطيني، فإذا كانت سرقة جهازي كمبيوتر من بيتي على يد عناصر أجهزة امنية لم تَغِب عن تفكيري وولَدت لدي حالة من الغضب والإحساس بالإهانة حيث لا ولن أنسى الوجوه الكالحة للأشخاص الثلاثة الذين اقتحموا بيتي ولا ولن انسى نظرات الحقد في عيونهم، فكيف سينسى مئات وآلاف ممن تعرضوا للاعتقال والتعذيب أو الاهانة ما جرى لهم؟وكيف ستنسى العائلات التي فقدت أحد أفرادها في القتال المجنون والفتنة البغيضة بين حركتي فتح وحماس؟.وإذا كانت القيادات السياسية غير قادرة على ضمان الأمن والأمان للمواطنين وغير قادرة على منع التنكيل بالمعارضة من طرف الأجهزة الأمنية، فهل تسطيع إنجاز المصالحة السياسية وتحقيق الشراكة السياسية؟.

ما كنت أرغب بالكتابة لإثارة أمر شخصي بل لأن ما هو شخصي مرتبط بما هو وطني وعام، إن ما يدفعني للكتابة هي حالة الاسترخاء العام الذي يلف موضوع المصالحة ومحاولة البعض نسيان كل ما جرى والتعامل مع الانقسام كأمر واقع ونهائي يجب التكيف معه أو الخضوع الإكراهي له. إذا كانت المصالحة الوطنية العامة صعبة حاليا لإرتباطها بحسابات وأجندات خارجية، فلماذا، وتجنبا لفتنة قادمة، لا تَشرَع حركة حماس، وقد أستقر لها الامر في غزة ولو لحين، بمصالحات شعبية – ويمكن أن يحدث نفس الأمر في الضفة الفلسطينية بالنسبة لحركة فتح– إن لم يكن على شكل إعتذار وهناك سوابق لدول وحكومات اعتذرت للمعارضة عما لحقها من ضيم في فترات سابقة، فعلى الاقل ان تُعيد لكل ذي حق حقه وان تُشكل لجان مستقلة تبحث في شكاوى المتضررين وتقوم بمصالحات جزئية بين مكونات المجتمع ؟ هذه المصالحات الداخلية والجزئية إن لم تمهد الطريق للمصالحة الوطنية الشمولية فعلى الأقل ستخفف من حالة الاحتقان الداخلي وتمنع إمكانية حدوث فتنة وحرب أهلية تلوح في الأفق.

سيجانب الصواب حركة حماس إن اعتقدت بأن الوضع السياسي القائم في غزة طبيعي وسيستمر إلى ما لا نهاية، وستكون مخطئة إن اعتقدت بأن الجمهور والقوى السياسية ستصبر طويلا على حكم حزب واحد يسيطر على القطاع بقوة الميليشيات والأجهزة الأمنية وبقوة إرادة خارجية تريد لحماس أن تستمر بالحكم لحين من الوقت، وعليها أن تدرك أن مقولات كالحكومة الرباتية أو حكومة مقاومة أو حكومة أفرزتها صناديق الانتخابات الخ، كلها مقولات بلا معنى ولا تعبر عن الواقع ولم تعد تقنع أحدا أو تؤثر بأحد.إن كل من يعيش في القطاع يلمس الإنقسام الحاد ليس فقط بين الضفة وغزة بل داخل غزة ذاتها بين حركة حماس وأتباعها والمستفيدين من حكمها من جهة وبقية المجتمع الفلسطيني من جهة أخرى، وأن جمرا متقدا يكمن تحت رماد الهدوء الظاهر على السطح، وقد لا يكون الوضع بأفضل حالا في الضفة الغربية حيث تتزايد الاصوات المشككة بقدرة السلطة على البقاء.

الفصل الجغرافي والمؤسساتي بين الضفة وغزة سيطول ليس فقط لأن الأطراف الخارجية والداخلية التي خططت له ونفذته ما زالت قوية ومستفيدة من حالة الإنقسام، بل أيضا لأن الإنقسام أنتج نخبا إغتنت من واقع الانقسام وهذه النخب قادرة على تمويل ميليشيات وأجهزة أمنية وقادرة على انتاج قيادات سياسية جديدة لا تؤمن بالمشروع الوطني ولا يُشغلها الهم الوطني، نخب وقيادات أخذت تتحرر شيئا فشيئا من سيطرة القيادات التقليدية بحيث باتت هذه الأخيرة عاجزة عن السيطرة على القيادات الجديدة وبالتالي إنتقل مركز القرار الفلسطيني من الكبار إلى الصغار.القيادات التاريخية وبالرغم من تعثراتها وأخطائها فإن تاريخها وثقافتها وتجربتها تجعلها تلتزم بخطوط حمراء لا تستطيع تجاوزها، أما القيادات والنخب الجديدة سواء في قطاع غزة أو في الضفة الفلسطينية فخطوطها الحمراء تحددها مصالحها الاقتصادية وتطلعاتها القيادية في حدود واقع الانقسام، فهناك قيادات تريد الزعامة على مستوى غزة فقط وقيادات تريد الزعامة على مستوى الضفة فقط، وهذا ما يثير القلق بل الرعب.

لا يمكن الاستمرار في تبرير ما يجري في غزة بما يجري في الضفة حتى مع افتراض وجود نسبة وتناسب بين ما يجري في الجهتين من ممارسات قمع واعتقال وحد للحريات، فالخطأ لا يبرر الخطيئة .الضفة أراضي محتلة بالمطلق ولا أحد ينتظر في ظل الوضع الراهن من حكومة الضفة أن تقيم دولة مستقلة تشكل قاعدة منطلق لإستكمال بناء المشروع الوطني، فالمعركة مع الاستيطان وإسرائيل ما زالت طويلة وحبل المفاوضات أطول.أما في قطاع غزة وإن كنا لا نرى فيه الدولة المنشودة وهو لن يكون كذلك، فلا دولة بدون الضفة والقدس كحد أدنى، إلا أن عدم وجود مستوطنات ولا أطماع صهيونية بضمه ولأن القطاع شَكَلَ عبر التاريخ الحاضنة للوطنية الفلسطينية، فإن الأنظار متجهة إليه لترى قدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم بأنفسهم وقدرتهم على إنجاز شراكة سياسية حقيقية تبرز التعددية السياسية الخلاقة التي تميز بها الشعب الفلسطيني عبر التاريخ . لانريد أن يتحول قطاع غزة لمقبرة للمشروع الوطني ولعائق أمام استمرار النضال الوطني بكل أشكاله لتحرير ما تبقى من فلسطين، بل نريد القطاع حاضنة للمشروع الوطني ويمكنه أن يكون كذلك . إن أي حُكم على الحالة السياسية القائمة سواء في قطاع غزة أو في الضفة لا يؤسس فقط على ما تنجزه الحكومتان من حالة استقرار وضبط أمني في ظل حالة الانقسام، بل على ما تفعلانه من أجل الحفاظ على الثوابت الوطنية واستمرار النضال الوطني بكل أشكاله في إطار مشروع وطني يمثل الكل الفلسطيني وهذا لن يكون إلا من خلال مصالحة وطنية حقيقية.

 

‏14‏/09‏/2010

[email protected]

الموقع الشخصي:

www.palnation.org

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1517 الاربعاء 15/09/2010)

 

في المثقف اليوم