أقلام حرة

عندما يصيب المثقف إيدز المجاملة وتميع الموقف / صائب خليل

دعوا هذه لعارضات الأزياء.. أما المثقف، فمهمته لا تبقي له دائماً ما يكفي من المرونة لكل هذا الترف.

 

الأفكار ليست سوى أشباح ضعيفة، فإن لم تجد جسماً صلباً يساندها ويكون عموداً فقرياً لها، تلاشت بصمت دون أن تترك سوى بخارذكرى! الأفكار لا صوت لها، فإن لم تجد من يصرخ بكل وضوح دفاعاً عنها، ضمرت وكتمت انفاسها، مهما كانت "أفكاراً عظيمة"!

 

يجب أن نميز تماماً بين تعريض أفكارنا إلى اعتداء المجاملات عليها، وبين تعريضها لصراع الأفكار المقابلة. ففي الوقت الذي نقسوا عليها قدر ما أمكن في مبارزات الأفكار الصريحة المباشرة، فإن من واجبنا أن نحميها من لزوجة المجاملات الخانقة. وفي الوقت الذي لا نأسف على أفكارنا أبداً إن هي سقطت في ميادين مقارعة الأفكار المقابلة، ولا نتردد في تبني الفكرة الجديدة المنتصرة، فإننا نأسف عليها إن اختنقت تحت ثقل مجاملاتنا.

 

إنني لا أدعو هنا إلى يوتوبيا نيتشوية مثالية، وأنا شديد القناعة بأن لا مفر من توازن ما بين الإخلاص لما هو صحيح، وبعض المجاملة الضرورية لإدامة المجتمع، ما دامت تلك المجاملة لا تصيب مواقفنا بأذى مؤثر. لست أنطلق من موقف مثالي، بل من حالة خيبة أمل من بيئة ثقافية المجاملة فيها سيد الموقف، ولا مكان فيها لحقيقة "مزعجة"..

 

حين أقلّب صفحات الإنترنت، وأقرأ التعليقات، أصاب أحياناً بالغثيان. يبدو لي وأنا أفعل ذلك، إنني أمام قراء وكتاب تشكلوا بشكل "عصابات مجاملة". يبدأ كل كاتب بتكوين عصابته، ربما من أول مقالة أو قطعة أدبية ينشرها، فيدور في المواقع ويكتب سطور المديح، لكل من يجده مرشحاً مناسباً ليكون ضمن أفراد عصابته، ولعل النشاط وكمية النشر أكثر ما يهم هذا الجديد فيطري ويسبح بغير حساب. ورغم أن البعض يمتدح بلا شك عن اقتناع وبشكل محدد، إلا أن البعض الآخر يبدو وكأنه كان يبحث عن عبارة يقتطفها ليضيفها في نهاية أو بداية تعليقه، ليبين أنه لم يعلق دون أن يقرأ.

هكذا تتكون لدى كل كاتب من هؤلاء، "شبكة نفاق" جميلة، لا يتبادل أفرادها من الحديث والحوار والنقاش، إلا ما يسر كل به الآخر ويبعث فيه المزيد من الثقة بالنفس والفخر بإنجازها. حتى إذا ما أتم الكاتب الجديد إنشاء عصابته، فاتسعت وتعمقت، خرجت عن سيطرته، وصار صعباً عليه حتى إن أراد، أن يخرج منها، وصار عسيراً وغير طبيعي أن يكتب في داخلها إلا ما ينتظر منه من مجاملات وتفنن في عبارات المديح، وإن اضطر يوماً إلى أن يكتب ملاحظة سلبية لم يستطع مقاومتها، فأنه سيحرص على إحاطتها بإطار من المديح والثناء يموه به نقده ويفقده تأثيره وناره المقدسة الحارقة للخطأ والمعقمة لما هو صحيح. تعيش هذه الشبكة حياتها بهناء، تتبادل كرات "رفع المعنويات"، حتى إن غاب عنها أحد أفرادها وأحس بالحاجة إلى الراحة، ذهب ليكتب مقالة أو قطعة أدب، وانتظر المديح المريح. ولا يجب أن ينسى هذا أن يدفع الثمن بمثابرته على توزيع المديح هو ايضاً لكل من يكتب من عصابته. شكبة تعيش على حساب الحقيقة. نعم كلنا نسر بالمديح، وتسعدنا أجوائه، لكن عندما يغتال المديح كل الحقائق، يصبح المديح خطراً وأجوائه مريضةً.

 

لقد انتشرت هذه الشبكات، وثبتت ثقافتها المسيطرة على الإنترنت، حتى أنك ما أن تكتب استحساناً لكاتب، إلا واعتبر هذا أنك تطلب الإنظمام إلى عصابته، ولو أنك كتبت رأياً منتقداً له بعد ذلك لاستغرب من "فعلتك" وبحث فوراً عن "الأسباب الشخصية" لهذا "العمل الحقود" وتساءل: "ماذا فعلت له؟" ، "لقد كنت أعتبره كاتباً"! لا يخطر ببال هذا الأخير أبداً أنه ربما كان هناك فعلاً ضعف أو نقص أو خطأ في مقالته، فهذه الأمور ليست معتادة، لذا يفترض أنه هجوم شخصي مقنعاً بشكل هجوم على المقالة.

 

لقد أنتشر وباء هذا الإيدز حتى صارت الإصابة به هي الأمر الطبيعي، ولم يعد اكتشاف عوارضه على كاتب ما، أمر يدل على سوء الكاتب أو أنه كاتب منافق، بل جاء فرأى ما "سار آبائه عليه" فسار خلفهم، وهو مطمئن بأنه ليس سوى إبن بار بالثقافة السائدة العليا.

لذلك لا يجب أن يفهم من هذه المقالة أنها هجوم على شخصيات معينة، بل أن الشخصيات المذكورة هي من الشخصيات المقربة لي، واستطيع أن أصف البعض منهم بالأصدقاء دون أن أكون كاذباً، إنما هذه المقالة تنبيه إلى وباء ثقافي خطير يخون الأفكار والمستقبل وينتصر لتثبيت الخطأ المريح. وباء يفقد منارة الثقافة مهمتها في تسليط الضوء وتحديد الخطأ من الصحيح، فترسل بدلاً من ذلك أضواءاً ملونة مموهة، جلها ليس سوى إنعكاس مباشر وغير مدروس لإسقاطات إعلامية مشبوهة وتشويشية تزيد الناظر ضياعاً، رغم أنها قد تسره باختلاطها وافتقادها للخطوط المحددة التي تتطلب التفكير المجهد اللازم للحكم والإختيار.

 

رغم ترددي في إيراد أمثلة قد تبعد المقالة عن موضوعها المركزي، إلا أنني لا احب الكتابة التي تطفو في مياه عمومية هلامية، كما أني لا أحب أن أتجنب الأمثلة الحياتية في العادة في كتاباتي، لذا أقول أن الدافع الذي حسم أمر كتابة هذه المقالة، وكانت لها سوابق عديدة، هو مناقشتي مع كاتبة مقالة بعنوان "ياشيعة .. علامكم تختلفون في المالكي" (1)  ولم تكتف الكاتبة بعنوان المقالة الطائفي، ليس من خلال كلمة "شيعة" وإنما من خلال تحريضها لجهة طائفية على الإتحاد وعدم الإختلاف، وهو ما علق عليه أحد المعلقين باختصار ذكي، فضح الروح الطائفية في المقالة بجملة بسيطة، فكتب فائز أمين: "ياسنه,,,,هذا المقال لايعنيكم وليس ضروريا ان تقرأوه. "

المقالة نفسها تؤكد الروح الطائفية التي في العنوان فتقول للشيعة بأن المالكي "سند شعبي لحكمكم"! فالدكتورة ناهدة التميمي تهبط بالحكم العراقي إلى تعريفه بأنه "حكم شيعي" او "حكم سني". ورغم أن الكاتبة تحلت ببعض الحذر في تعابيرها في بداية المقالة، إلا أن السطور تكشف ما وراءها. فربما تجيب الدكتورة ناهدة بأنها أشارة إلى "سند شعبي" يعني الجميع، ولكن هنا يثار التساؤل: إن كان "سند شعبي" فلماذا يكون إذن "حكم شيعي" وليس "حكم شعبي"؟ إن كان السند الشعبي، يشمل سنةً أيضاً، فلماذا لا يكون حكمهم أيضاً؟ أليس هذا التقسيم البغيض، هو بالذات ما يحاول المثقفون العراقيون، والساسة ايضاً، وبضمنهم المالكي الذي تدافع عنه الدكتورة ناهد، الإبتعاد عنه وتفويت الفرصة على من ينادي به ؟ اليس المالكي نفسه من أطلق إسم "دولة القانون" على كتلته، في جهد منه لتجاوز التقسيمات الطائفية والإتهام بالطائفية، الذي يعتاش عليه خصومه؟ ألم يكن هذا موضوعاً من مواضيع الصراع بين الكتلتين المتصارعتين باتهامات متبادلة بالطائفية، وكل يرد التهمة عن نفسه ويدعي أنه لكل العراقيين؟ وحتى لو افترضنا أن كلام السياسيين إعلامي فقط ولا يمثل الحقيقة، فهذا يعني أن الجو الثفاقي السائد في البلاد يحتقر الطائفية، لذا يخشى السياسيون أن يوصموا بها، فلماذا يأتي كاتب لنصرة هذا الإتجاه الطائفي والحديث عنه وكأنه شيء طبيعي وليس نقيصة؟

 

لقد بدأت هذه المقالة بالحديث عن التعليقات المجاملة، وسبق لي أن قرأت لنفس الكاتبة، قصيدة لطيفة، إنما هالني الكم الهائل من التعليقات المبالغة في المديح الذي وجدته مزيفاً، واستناداً إلى علاقة زمالة ودية سابقة مع الكاتبة، كتبت لها تعليقاً قلت لها فيه أن القصيدة ليست بالجودة التي يصورها لك المعلقون، وأني وجدت من واجبي أن انبهها لذلك. لكني كنت مخطئاً في الإستناد إلى الزمالة المسبقة، فقد انقضت الكاتبة علي، وكأنني تحرشت بنمر أثناء تناوله صيده! وأنبرى أحد المعلقين يحمي الكاتبة من "الحساد المبغضين والمدفوعين من جهات أخرى" فاعتذرت عن خطأ تقديري وانسحبت عبر نكتة بسيطة، فقد كان الجو المسيطر هو أن كل من ليس لديه ما يسبح به بحمد القصيدة، فليصمت وإلا فهو "مدفوع من جهات أخرى"! وأنت أيضاً يا قارئي ستجد تصرفي غريباً، فما هو معتاد هنا، أن المديح مجاني، لا يعترض عليه إلا "الحسّاد"، مهما كان مخالفاً للحقيقة.. لكني كنت أحاول إنقاذ صديقة من الوهم! إعتذرت وانسحبت، فلم يكن المديح لقصيدة بسيطة أو ضعيفة أمراً خطيراً، لكنه قد يصبح خطيراً عندما يتعلق الأمر بمقالة في موضوع خطير. عندها تصبح المجاملة مكلفة حقاً.

 

لقد كانت المجموعة في تلك القصيدة تمثيل ممتاز لـ "شبكات المديح المتبادل" لكن الأمر لم يكن كذلك في المعلقين على المقالة السياسية الطائفية الأخيرة. وسرعان ما شجعت روحها الطائفية بعض التعليقات التي كانت تلوم "الشيعة" على عدم تكاتفهم (ضد من؟) واكتفائهم بـ "اطماع قصيرة المدى...ترضيهم الشاة والمعزى بينما اثبتت شيعة معاوية الذين يسمون انفسهم (سنة) بانهم ذوو رؤى بعيدة المدى وان اطماعهم عميقة واساليبهم اخبث". أنه يبدو بشكل لوم للشيعة، لكنه لوم يقصد منه عدم تكاتفهم من أجل تثبيت "حكمهم" بدل خصومهم، وليس من أجل العراق.

لصاحب هذا التعليق البائس تقول الكاتبة "لقد وضعت الاصبع على الجرح وشخصت الداء العضال الذي يعاني منه الشيعة.... .. عليهم الانتباه الى ان مصالح طائفتهم في خطر"! هل هناك كلام طائفي أكثر وضوحاً من هذا؟

 

وحين نبه الزميل سلام كاظم بأدب بأن المسألة ليست مسألة شيعة مختلفين، أجابته د. ناهدة بالإشارة إلى موضوع "المطالبة بتقليص صلاحيات رئيس الوزراء الشيعي"!! ، وكأن العميل الأمريكي الذي يطالب بتقليص صلاحيات رئيس الوزراء لم يكن سيطالب بتقليص تلك الصلاحيات لصالح المنصب الذي يأمل به، لو كان منافسه (رئيس الوزراء) سنياً! بل وكأنها نسيت أن هذا الذي يطالب بتقليص صلاحيات "رئيس الوزراء الشيعي" نفسه "شيعي" أيضاً! كل شيء "شيعي" مقابل "غير شيعي" لدى الكاتبة التي تنكر طائفية كتابتها رغم ذلك. إنه مثال على أية مغالطات واضحة يمكن أن يدخل المرء نفسه فيها حين يندفع بفكرة طائفية لا يقف أمامها منطق أو تردد، المهم لديه أن يتم تقسيم الصراع باعتباره "شيعياً" – "سنياً" حتى لو كانت كل مؤشرات المنطق تقول بغير ذلك.

 

رد محمد علي كاظم بحكمة، واعتبر المقالة مسيئةً لـ  : "تاريخ الشيعة المشرف المملوء فكرا وثقافة وعلما نيرا ورجال ثوار قادوا العراق في ثورة شريفة في 1920 ولم يدعوا الى الشيعة بل الى تحرير العراق باكمله ".

 

كذلك انتبه د. حكمت محمود فكتب للكاتبة: "كم سيكون .. رائعاً ومعبراً عن حالة الوحدة في الشعب العراقي لو كان العنوان " يا عراقيون علامكم تختلفون في المالكي" ..." لكنه عاد فألغى اعتراضه بلا داع حين الحق تلك الجملة بمجاملة، فكتب: "ولكن في حالة الاستقطاب الطائفي الحاد يكون عنوان مقالتك مفهوما ومقبولا". وحينها علقتُ متسائلاً كيف يكون الخطاب الطائفي "مقبولاً" في "حالة الإستقطاب الطائفي الحاد"؟ ولماذا لا يكون أكثر خطراً وسوءاً؟ لقد لمت الدكتور حكمت على مجاملته فتصور أني اتهمته بالطائفية في خطابي الغاضب.

أما الكاتبة فاستغلت تلك المجاملة لتضيف من عندها إلى نفسها مديحاً لم يقله الرجل فيها فكتبت: "اشكرك من اعماق روحي لانك رايت فيّ زعيمة لتجمع المثقفين من ابناء عروة بن الورد والسليك والشنفري وغيرهم من يساريي ذلك الزمان وثواره والفادين."

وهكذا جعلت من نفسها بـ "جرة قلم"- "فادية" و"زعيمة لتجمع المثقفين" و"يسارية"، وهي لم تفعل شيئاً سوى الدفاع عن مصالح طائفية، فهل كان عروة بن الورد كذلك، وهل كان اليساريون يوماً كذلك؟

 

ثم جاءت النجدة بالتبرير الغريب لـ حامد خضير الشمري الذي كتب: "الدكتورة المبدعة ناهدة التميمي الطائفة ليست سبة أو عيبا والطائفية ليست منقصة إلا عندما يحاول هذا إلغاء ذاك معتقدا انه الأصلح والأقرب إلى الله"

وكأن هناك طائفية لا ترى أنها "الأصلح" و"الأقرب إلى الله"! اليس ذلك ضمن تعريف الطائفية نفسه؟

 

في ردها على تعليقي تنكر الدكتورة ناهدة في البداية أن خطابها طائفي، ثم تعود لتقول "ولو كنت طائفية مادخلك انت انا اكتب مااريد وحرة فيما اكتب". وكنت افترض ان الدكتورة تعرف أن هناك أموراً لا يفترض الكتابة تأييداً لها، كالنازية وتشجيع العنف والإغتصاب، وليست الطائفية في العراق إلا أشد تلك المواضيع خطراً، وليس الكاتب حر فيما يكتب فيها، على الأقل أمام ضميره، وأن الرد عليه واجب. إن "حق" الدكتورة ناهدة في الخطاب الطائفي، ليس أكثر من حق شخص بضرب آخر، وليس دفاعها عن ذلك الحق بأكثر منطقية من دفاع الضارب عن حقه "بتحريك يده كما يشاء"! لماذا إذن احتججنا على عدنان الدليمي بشدة؟ هو أيضاً يستطيع القول بأنه "يقول ما يريد وهو حر فيما يقول"؟

 

لكن الدكتورة ناهدة لم تكتف بذلك بل اكملت معبرة عن ما في نفسها على السنة، بعد أن أطار الغضب حذرها فكتبت:

" ثم الم يحكم السنة سنين ذاق فيها الشيعة الويلات من حفلات الاعدام الجماعية والظيم والفقر وسرقة ثرواتهم ونفطهم وارسال كل جماعاتهم حتى رجل الدين الفاشل بعثات الى القاهرة ليكونوا دكتوراه في الشريعة او دكاترة في كل الاختصاصات بينما اصحاب الثروة الحقيقة يعيشون في بيوت الطين والصفيح ومجهلين وكانوا يساقون للخدمة العسكرية كحطب ووقود لحروب عبثية بينما غيرهم كان ينعم بالبعثات والمناصب العليا وحتى في العسكرية كانوا ضباطا وقادة على فقراء الشيعة الذين اذا مرض احدهم يوم او يومين وتخلف عن الالتحاق كان يعدم في الميدان ودون محاكمة .. لاتقل كان حكم صدام ليس سنيا ولاشيعيا بل كان سنيا بحتا وكان شبان الشيعة مستهدفون بالابادة في عهده وحتى بعد التغيير بقوا مستهدفين من قبل نفس الفئة التي كانت تتفنن في ابادتهم بالاعدامات والصاق التهم والسجون ودفعهم للجنون واليوم يستهدفون تجمعاتهم الفقيرة بالتفجيرات والقتل والذبح وطرق الخارجية لسوريا والاردن شاهدة على الذبح على الهوية"

 

إذن ففي ذهن السيدة ناهدة أن "السنة" هم المسؤولين عن ويلات العراق، وأن الحرب هي بين الشيعة "أصحاب الثروة الحقيقية" والسنة الذين يسوقوهم "كحطب لحروبهم" وأن الجنود الشيعة وحدهم كانوا يعدمون دون محاكمة عندما يتأخرون عن الإلتحاق بمعسكرهم، وأن صدام كان يمثل السنة وحكمه "سني بحت" وهذا الحكم السني كان يستهدف إبادة "شبان الشيعة" وأخيراً فالسنة يقومون اليوم بإبادة الشيعة بالقتل على الهوية!

هذا ما يحتوي رأس الدكتورة ناهدة من أفكار وهذه هي منطلقاتها!.. لقد فرضت صدام على السنة ممثلاً لهم ولـ "حكمهم"، وبالتالي فليس للسنة إذن سوى أن يتمسكوا بحبله، أو حبل من يشبهه، إن أرادوا النجاة، إن كان جميع الشيعة يفكرون وفق منطق د. ناهدة! إنه أمر مؤسف ومحير، ويبين لنا كم أن العراق في حال يكاد يكون ميئوس منه! بالتأكيد ليست هي الوحيدة، لكنها "كاتبة" و"دكتورة" وكانت مرشحة للبرلمان، وتقول عن نفسها "زعيمة مثقفي عروة بن الورد اليساريين"، فما أدرانا ما تحتوي رؤوس أخرى إذن، ليست لها تلك الميزات، ومن أية منطلقات تنطلق؟

رددت على الدكتورة بانتقاد بأن "هذا التقسيم التبسيطي الخطير للأمور وتوزيع الجرائم قومياً أو طائفياً، قد يلجأ إليه بسطاء الناس والمخدوعين، لكنه ليس من شيم المثقفين وذوي التعليم العالي." وسألتها إن لم تكن تشعر بالظلم لأن الكويتيين يصرون على أنها كعراقية مسؤولة عن جرائم صدام، والقيادة الكردية تصر على تحميل العرب وهي منهم، جرائمه بحقهم.

 

لكن بالمقابل، وبما أننا نتحدث عن المجاملات المدمرة في الكتابة، فقد قدم لنا سعيد العذاري مثالاً ممتازاً عليها فيكتب بعد كل تلك الحقائق التي أمامه في المقالة وردود الكاتبة،: "افكارك واطروحاتك واقتراحاتك وتساؤلاتك نابعة ومنطلقة من رؤيا موضوعية واقعية تنظر للواقع من خلال ظروفه ومن خلال المصلحة الوطنية".

ولو أنه قيض لي أن أختار مثالاً تناقض فيه المجاملات الحقائق وتفتك بها لما وجدت خيراً من هذا المثال الذي يجعل من الدعوة الطائفية الصريحة، والأحقاد الطائفية الواضحة وتقسيم الحقائق على خطوطها، سواء في المقالة أو في الردود، أن يوصف هذا بـ "الموضوعية" و"الواقعية"، والأدهى منه بـ  "المصلحة الوطنية"!

 

لا أتخيل أن العذاري كان يقصد مناقضة الحقيقة عمداً، لكن المجاملة المتميعة الموقف، إيدز يصيب المثقف الإنسان، بل قد يصيب حتى الحزب، فيحرمه مناعته الطبيعية ضد الموقف الخاطئ. وها نحن نرى في كل مكان ذلك الإهمال للحقائق والخطوط الواضحة، وأن الإنتصار للطف والأدب سائد على حساب الحقيقة. كل ما رآه سعيد في تقديري أنه وجد زميلته تتعرض للهجوم فانبرى للدفاع عنها وطمأنتها، بغض النظر عن الحقائق. فمن يقبل على كتابة عبارة مجاملة لم يتعود أن يراجع إن كانت تمثل الحقيقة أم لا، وفي كل الأحوال، من يمكن ان يعترض على مجاملة؟ الإعتراض والإحتجاج ليس على المجاملة، بل على الحقائق التي تفترسها تلك المجاملة. هذه المجاملات المغالطة، تخرب النقاش، وتمنع الخاطئ حتى من احتمال مراجعته لنفسه!

 

على المثقف أن يدرك أن مهمته في التغيير نحو الأفضل ليست لطيفة دائماً، وأن موقفه يتطلب ليس البناء فقط، بل الهدم أيضاً لما يراه خاطئاً، وأن بناء الصحيح والقوي والجيد لن تتاح له مساحة الأرض لكي يقوم عليها ما لم يتم هدم ما هو خاطئ وضعيف وسيء. وما دام في الأمر هدم بالضرورة، فلا مفر من "إزعاج" البعض وإصابة الآخر بالألم بين الحين والآخر ببعض الحقائق غير السارة، ولذلك قال نيتشة: "المبدعون قساة"! فالمثقف المبدع الذي يرى في خياله عالماً أفضل من العالم الذي يعيش فيه، يدرك أن عالمه الأفضل لن يأتِ إلا على حساب العالم الحالي. إنه يعمل من أجل أعطاء "اللحم والعظم" لهذا العالم الذي مازال شبحاً، ولن يكون له أن يحيا، ما لم يقف المبدع مع شبحه بقوة، ليدافع عن حقه في الوجود، وأن يحل محل العالم الحالي الخاطئ.

 

نعم، يريد الناس أن يكون المثقف لطيفاً ومجاملاً، لكنهم يطالبونه قبل ذلك  أن يكون دقيقاً صادقاً واضحاً، ومن واجبه أمام نفسه أيضاً أن لا يخلط أسسه ومفاهيمها في عجينة لا خطوط ولا شكل لها، مع كل ما هو ضعيف وخاطئ ومتناقض، مجاملةً له. إن من يفعل ذلك يفقد قدرته على الإحتجاج على الخطأ، والمجتمع الذي يتمسك بمجاملة العالم الحاضر دائماً، عليه أن ينسى أحلامه بعالم أفضل، وأن يقتنع بما هو موجود.

 

...................................

(1)

http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=18749

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1525 الخميس 23/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم