أقلام حرة

مفاوضات الأرض مقابل ماذا؟ / صائب خليل

الأرض مقابل ان يعطيه الآخر "السلام". وبما أن إسرائيل تحتل "الأرض" التي يريد الفلسطينيون استعادتها، فلا بد أن عباس هو الذي سيعطيهم مقابل ذلك "السلام"... هذه الفرضية توحي بأن مسرح الأحداث منصوب بالشكل التالي: أحد الطرفين استولى على أرض الآخر، وجلس في بيته، أما الآخر فقد استولى على "سلام" من استولى على الأرض وأحال حياته جحيماً، وهو يقول له: إن أردت السلام فعليك أن تعيد لي أرضي، وهما الآن يتفاوضان على ذلك!

ومن المنطقي أن يتم تهيئة الجو للمفاوضات، من قبل من يرعاها، من خلال مطالبة من يمسك "السلام" و"يحيل حياة الآخر إلى جحيم"، بوقف هجماته موقتاً حتى يرى ما تنتهي إليه المفاوضات.

ولو قرأنا مقالة كتيها "رئيس" اكبر دولة عربية, مبارك، في "نيويورك تايمز" مبتدئاً بأنه "ينبغي على الدول العربية أن تواصل التدليل على جدية مبادرتها من خلال خطوات تلبي آمال وتبدد مخاوف رجل الشارع الإسرائيلي".(2) ثم يضيف مقابلها ضرورة وقف الإستيطان، فإننا نجد أن تلك المقالة تؤكد هذه الصورة وتعبر عنها باختصار ممتاز.

ورغم ذلك تحتوي هذه الصورة التي يريد مبارك وإسرائيل وأميركا و"المجتمع الدولي" أن يوصلوها لنا، تحتوي على إشكالات كبيرة، فليس سراً أبداً أن هذه الصورة، رغم شكلها المنطقي المتماسك، فهي ليست ما يحدث فعلاً على الأرض. ما حدث ويحدث على الأرض، هو أن الذي استولى على الأرض، هو نفسه الذي استولى على سلام الآخر، فهو لم يكتفي بالأرض التي أخذها، بل مازال في وسط مهمته، يهاجم ويغتال ويقصف ويحتل المزيد من الأرض. و"المجتمع الدولي" يحاول الـ "الضغط" على إسرائيل، وليس على عباس، لإيقاف الهجوم، وهو يطالب إسرائيل بإعادة الأرض التي استولت عليها، وليس الجانب الفلسطيني!

 

أي أن عباس جاء إلى المفاوضات يريد من المقابل "الأرض" و"السلام" معاً، دون أن يكون لديه شيء يقدمه بالمقابل! فإسرائيل هي من سلب الأرض وتسلب السلام وتمسك ورقتيهما بيدها، ولذا فمن الطبيعي للجانب الإسرائيلي أن يرفض هذا العرض بتبادل شيئين مقابل لا شيء، بل من الطبيعي أن يعتبره نكتةً! ومن الطبيعي جداً أن يدعو ليبرمان إلى "تبادل الأراضي والسكان وليس تبادل الأرض مقابل السلام فقط"(1)، رغم كل الإحتجاجات العربية والدولية، فهو يعلم أنه يملكهما معاً!

عباس وعصابته المتفرغة اليوم لإغتيال الفلسطينيين دون غيرهم، تخلوا عن ورقة "السيطرة على السلام" منذ سنين طويلة، بل قدمها مجاناً حين أعلن من طرف واحد "إلتزامه بالحل السلمي كإستراتيجية وحيدة" وبالتالي فليس لديه ما يقدمه للجانب الإسرائيلي.

ولو أن الجانب الإسرائيليي متضايق فعلاً من "نقص السلام"، لتفاوض مع من يمتلك ورقة السلام ويرفض تسليمها ووقف العنف بدون مقابل، مثل حماس وحزب الله من "المتطرفين" الذين يصرون على أن السلام لن يكون بدون إعادة الأرض، على عكس عباس "المعتدل".

 

كيف يرى علم المفاوضات، "المفاوض الفلسطيني" (عباس)؟ في هذا يقدم لنا جواد البشيتي مقالاً قيماً، الذي يراجع الأسس العلمية معنا فيقول:

"المفاوِض" الذي يعترف به كلاوزفيتس ليس هو الذي يقرِّر ويختار الذهاب إلى طاولة المفاوضات؛ لأنَّ له مصلحة في (أو حاجة إلى) تسوية النزاع مع خصمه بالتي هي أحسن، أو بالحوار، أو بمنأى عن "الصراع بالحديد والنار"؛ بل هو الذي عَرَفَ كيف يجعل لخصمه مصلحة في تسوية النزاع من طريق التفاوض، ويشدِّد لديه الحاجة إلى ذلك."

 

ويقول البشيتي أيضاً عن "المفاوِض الفلسطيني"، أنه "نجح في ما كان ينبغي له أن يفشل، وفشل في ما كان ينبغي له أن ينجح؛ فلقد نجح في أن يُقْنِع خصمه، أي المفاوِض الإسرائيلي، بأنَّه ما عاد قادراً على العيش السياسي إلاَّ في مفاوضته، وبمفاوضته، وفشل في إقناعه بأنَّ له مصلحة حقيقية واقعية في أن يجنح للتفاوض (الجاد والحقيقي) معه حتى أنَّ المفاوِض الإسرائيلي قال، غير مرَّة، إنَّه يفاوِض خصمه الفلسطيني وكأنَّه يحاوِر نفسه!"

" و"المفاوِض" الذي يعترف به كلاوزفيتس ليس هو الذي يَدْخُل قاعة المفاوضات ليصبح كرسياً من كراسيها، فلا يَقْدِر أنْ يغادرها، ويَقْلب الطاولة، كما غادرها أردوغان، وقَلَبَها، في دافوس على مرأى ومسمع من الممثِّل الأعلى للضعف العربي، أي الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.

 "المفاوِض" يكفي أن يستبدَّ به الشعور بالعجز عن "المغادرة"... حتى يَفْقِد الخواص الجوهرية للمفاوِض؛ ..... ما معنى أنْ تتَّخِذ من "فشل" المفاوضات "المباشِرة" سبباً (وجيهاً) للانتقال إلى المفاوضات "غير المباشِرة"، لتتَّخِذ، من ثمَّ، من "فشل" المفاوضات "غير المباشِرة" سبباً (وجيهاً أيضاً) للعودة إلى المفاوضات "المباشِرة"؟!

ليس في مقدوركَ أبداً أنْ "تُقْنِع"، أو أنْ تجيد "إقناع"، خصمكَ المفاوِض إلاَّ إذا كان في مقدوركَ أنْ "تُكرهه" على "الاقتناع"، فإنَّ ما تملك من "وسائل وقوى الإكراه" هو "حُجَّتك" الأقوى في الإقناع.

إنَّهما مبدآن يَنْصَح بهما "الأمير" كل أمير من أمراء التفاوض أن يأخذ بهما، الأوَّل هو إيَّاكَ أن تذهب إلى مفاوضة خصمكَ قبل أن تملك من قوى ووسائل الإكراه ما يقنعه بأهمية وضرورة أن يسوِّي نزاعه معكَ بالتفاوض، فإنَّ افتقاركَ إلى هذه القوى والوسائل يَعْدِل، لجهة نتائجه وعواقبه الحتمية، افتقارك إلى البندقية والمدفع وأنتَ ذاهب إلى الحرب؛ أمَّا الثاني فهو إيَّاكَ أن تسمح لخصمكَ بأنْ يجعل لكَ من المصالح الشخصية والفئوية الضَّيقة ما يجعلك، في المفاوضات، منفصلاً، ممعناً في الانفصال، عن المصالح العامة التي بتفويض من أصحابها، أي من الشعب، ذهبتَ إلى المفاوضات." (3)

 

ويمكننا أن نرى من مراجعة البشيتي هذه، أن عباس كان يعمل بجد لسنوات طويلة من أجل أن "يخسر" المفاوضات! فقد حرص على التخلص من جميع أوراقه كمفاوض فلسطيني، ولم يكتف بالإمتناع عن الإمساك بورقة "السلام" ليحصل بها على "الأرض"، وإنما استخدم العنف بأقسى صوره، لمنع  الفسلطينيين الآخرين من محاولة الأمساك بها. بهذا المنظور فأن عباس ليس رجل سلام، بل شخص لجأ إلى القتل والإغتيال والتعذيب لكي يبقي جميع الأوراق في جانب واحد، ويمنع مفاوضات السلام من أن تصل إلى نتيجة، وبالتالي فأن رجل السلام المعتدل هذا، لجأ إلى كل السبل لإدامة "الحرب"!

ولعباس فوق كل ذلك، "مصالح شخصية"، كتلك التي حذرنا منها صاحب الأمير وقال أنها تجعلك تخسر المفاوضات. هذه المصالح تمسك إسرائيل بها من رقبتها، ليس فقط من خلال الفساد التي يمكن لإسرائيل أن تهدد عباس بفضحه، وإنما يخشى الرجل خشية عزرائيل، ابسط فعل من جانب إسرائيل، حتى لو أكتفت هذه بسحبت تغطيتها له، فقد يتعرض لمحاكمة بتهمة قتل زعيمه عرفات، يمكن تماماً أن تؤدي به إلى المشنقة، فهل يحلم أحد بمفاوض بهذه المواصفات ليجلس أمامه؟

إذن لماذا لا تستخدم إسرائيل ذلك لإجباره على "الإستمرار بالتفاوض" مع استمرار الإستيطان؟ تقديري أنهم يجسون نبض الوضع السياسي قبل التهور بمثل هذا، فقد تعلموا درساً بليغاً من تجربة غولدستون، حين حاولوا استعمال عميلهم في مهمة فوق طاقته، فتكسرت اسنانه ولم ينجح في صد الزوبعة. ومع ذلك فأن القضية لم تنته بعد، حيث القى عباسهم الكرة في ملعب الدول العربية.

 

لكن من الناحية الأخرى، لماذا تريد إسرائيل أن تتفاوض إذن، وليست لديها أية أوراق تحاول الحصول عليها من عباس؟ الحقيقة هي أن إسرائيل لا تريد أن "تتفاوض" وإنما أن "تجلس للمفاوضات".

فعملية المفاوضات هي بحد ذاتها المكسب الذي تسعى له إسرائيل، فيكتب عطا مناع "عن حتمية انسحاب الجبهة الشعبية " قائلاً: "وبحسبة بسيطة فان كل جولة تفاوضية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تزيد من حجم الهوة بينهم ويبن حقوقهم الوطنية" (4).

ومن ناحية أخرى فأن مجرد قبول عباس للمفاوضات والإستمرار فيها، فهو يحمي إسرائيل من ورقة ضغوط عالمية مؤثرة، وتحصل إسرائيل على هذه الورقة من عباس بلا مقابل، فقد طالبت على سبيل المثال، فور بدء تلك "المفاوضات"، بأفضليات أوروبية إضافية يحتفظ بها البرلمان الأوروبي كـ "ورقة" للضغط على إسرائيل لدفعها إلى عملية السلام، وهاهي إسرائيل تتفاوض، فماذا يبقى من حجة لمعارضيها في البرلمان الأوروبي وغيره؟

 

ليس هذا كلام عجيب يعود إلى "نظرية المؤامرة" بل أن ما يفعله عباس هو بالضبط ما فعله حين حاول حماية إسرائيل من تقرير غولدستون، وسلب ورقة الضغط تلك من أيدي المجتمع الدولي والبرلمانيين الأوروبيين بالذات، والتي كانت ستستعمل لعرقلة جهود إسرائيل في مطالباتها في مميزات خطيرة لدى الإتحاد الأوروبي. تلك المحاولة فشلت، فقد كانت الفضيحة أكبر من عباس. واليوم فأن مهمة عباس، بعد أن سلب الفلسطينيين إمساك ورقة "السلام"، أن يسلب المجتمع الدولي والأوروبيين ورقتهم التي يستعملونها للضغط على إسرائيل، وإجبار إسرائيل على التفاوض الجدي، مقابل إعطاءها المزيد من الإمتيازات، وعباس يفعل ذلك بالقبول بدوره في مسرحية كثيرة الشبه بـ "المفاوضات" من الخارج، خاصة إن لم ينظر المرء في تفاصيلها الداخلية غير المعقولة.

 

لم يصبح عباس جزءاً من جهاز الأمن الإسرائيلي منذ زمن بعيد جداً، فقد كان يكتفي بالتخلي عن القضية الفلسطينية، لكن حين قال بوش الإبن، أن "السلطة الفلسطينية" لا تمارس الإرهاب، لكنها لا تحاربه"، حدث التحول الثاني في عباس، فتحولت السلطة الفلسطينية معه، ليس فقط إلى مؤسسة سلام "غاندية" بل إلى "فرقة اغتيالات إسرائيلية" قامت بالعديد من العمليات لحساب الأمن الإسرائيلي (5) وصارت جزءاً متكاملاً معه. وقد أعطيت هذه الفرقة في البدء مهمة حماية المنطقة التي تتواجد فيها، كأية مجموعة عميلة، لكنها تحولت إلى أكثر من ذلك فيما بعد. وترينا حادثة اغتيال المبحوح في دبي، أن تلك السلطة صارت فرقة إغتيالات مركزية لا يستغنى عنها في أية عملية، ويكون حضورها مطلوباً حتى حين تكون عملية الإغتيال المطلوبة خارج منطقة سلطتها، ولا يكون لمشاركتها من تفسير مفهوم.(6) هل هم ملامون إذن حين يرون المفاوضات وكأنهم "يحدثون واحداً منهم"؟

 

كل هذه التفاصيل، جعلت من عباس، مفاوض لا تحلم إسرائيل بمثله، ولكن هذا يعني أيضاً أنه صار ذو قيمة بالنسبة لها، وهذا ما منحه "ورقة مفاوضات" وضغط يمكنه بها أن يزعج إسرائيل إنتقاماً لما فعلته به يوم فضيحة غولدستون ويوم فضحت دعوته لإسرائيل للإستمرار في قصف غزة! (7)

لقد كان حينها يقدم كل ما لديه لإسرائيل بثقة تامة لكنه تعلم الدرس. أما اليوم فهاهو يهدد إسرائيل بالإنسحاب والإستقالة! ولكن أليس هذا دليل صريح على أن عباس يعمل لصالح إسرائيل؟ وهل يخشى أحد إنسحاب آخر، إلا إذا كان مستفيداً من بقاءه؟

هل يمكنكم مثلاً أن تتخيلوا هوشي منه يهدد "بالإستقالة" في مفاوضاته مع أميركا أو فرنسا حين كانتا تحتلان بلاده؟ وأية نكتة عظيمة كانت ستكون لو قلنا للليبيين، أن عمر المختار هدد إيطاليا بالإستقالة إن هي لم تترك بلاده؟ وكم شخص سيموت من الضحك لو قلنا للكوبيين، أن كاسترو هدد أميركا بترك العمل السياسي إن هي لم تكف عن إرهاب بلاده وتجويعها!

أما نحن ففقدنا الإحساس حتى بالنكتة كما يبدو، وإلا فلماذا لا يضحك أحد حين يهدد "القائد الفلسطيني المحرر" إسرائيل بالإستقالة؟ وهل يقوم "الموظف" تهديد أحد بالإستقالة، إلا رب عمله؟

 

اليس من حق ليبرمان إذن أن يستغرب هذه "المفاوضات" ويتساءل: الأرض مقابل ماذا؟

 

(1) http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2010/09/100906_liebermansettlement_tc2.shtml

(2) http://dostor.org/politics/egypt/10/september/1/27262

(3) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=16629

(4) http://arabic.pnn.ps/index.php?option=com_content&task=view&id=91008&Itemid

(5) العمل في فرقة اغتيالات إسرائيلية - صائب خليل

http://www.urrnina.com/news.php?action=view&id=1262

(6) الإمارات تتهم السلطة الفلسطينية بالتواطؤ في قضية اغتيال المبحوح

 http://www.ourpal.net/news.php?action=view&id=960

(7) http://www.egyptianoasis.net/forums/showthread.php?t=28661

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1538 الخميس 07/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم