أقلام حرة

حماقة إعدام طارق عزيز / علاء اللامي

أحد أقطابه طوال أكثر من ثلاثة عقود، وتمجيده المستمر لرئيسه، وعدم اعتذاره هو أو حزبه للشعب العراقي عمَّا حدث من مجازر ومقابر جماعية موثقة آنذاك، يجعل من الصعب الدفاع عنه في مواجهة هذا الحكم. ومع أننا ممن يطالبون عزيز وحزبه وقياداته السابقة واللاحقة بالاعتذار للشعب العراقي، ومراجعة تجربتهم في الحكم، غير أن هذا الاحتجاج على الدعوة لإلغاء أو تخفيف حكم الإعدام ليس بذي مغزىً لسببين: فأولا لا توجد علاقة مباشرة وسببية بين موقف عزيز السياسي الشخصي حاليا والمؤيِّد لتاريخ وتراث هو جزء منهما، وبين حكم الإعدام الصادر ضده لكونه رجلا مُسِنّا ومريضا وينتمي لإحدى الأقليات القومية الدينية "الكلدانية المسيحية" المستهدفة بقوة من قِبَل الجماعات التكفيرية المسلحة في الآونة الأخيرة. وثانيا، فإن حكم الإعدام بحد ذاته، و سواءَ كان ضدَّ عزيز أو غيره، مرفوضٌ لاعتبارات إنسانية استراتيجية، ديموقراطيا وحضاريا، وأبعدُ من حيثياتِ وتفاصيل الشأن السياسي العادي والزائل، ذلك أن إلغاء هذه العقوبة غير الإنسانية بات من المكونات الرئيسية والشعارات الأرقى لأية تجربة ديموقراطية حقيقية و ليست موضة لبرالية مستحدثة كما يحاول بعض اللبراليين الجدد إقناعنا، فالحكم البلشفي في روسيا الثورة مثلا أقدم على إلغاء هذه العقوبة  في أيامه الأولى، ثمَّ اضطر إلى الرجوع إلى الأخذ بها بعد تصاعد ما ُسميَّ عهد ذاك بالإرهاب الأبيض والذي بلغ ذروته في اغتيال أو محاولة اغتيال أقطاب النظام وفي مقدمتهم فلاديمير لينين الذي نال رصاصتين في قفصه الصدري من مسدس الثورية المتطرفة فانيا كابلان.

 لقد أثار الحكم بالإعدام الصادر بحق عزيز، بعد إدانته بالمسؤولية عن مجزرة التجار خلال فترة الحصار وعن عمليات التصفية الجسدية التي قام بها النظام المذكور ضد قيادات الحركة الإسلامية الشيعية، أثار ردود أفعال واسعة كان بعضها قويا كموقف الحكومة الروسية وأحزاب وقوى يسارية مهمة في روسيا و العالم. غير أن ردود الأفعال تلك، لم تستمر طويلا، وانتهت بعد أن استنفذت مهمتها الإعلامية. ولكن الموضوع عاد إلى التداول بقوة بعد سلسلة تصريحات أدلى بها جلال الطالباني رئيس مجلس الرئاسة العراقي مؤخرا خلال مشاركته في مؤتمر أحزاب "الدولية الاشتراكية" في باريس أعلن فيها أنه يرفض التوقيع على قرار تنفيذ حكم الإعدام، طارحا  عددا من التبريرات والبواعث المُحِقَّة في بعضها لقراره هذا منها أن عزيز "مسيحيٌّ" وهذا تبرير خارج الصدد تماما إلا إذا نظرنا إلى خصوصية وضع المسيحيين العراقيين المستهدفين منذ بداية الاحتلال بالعنف التكفيري والتهجير المخطط له من قوى ودول غربية، وأنه  ومُسِنٌ، وإن إعدام شيخ مُسِنٍّ، حتى إذا ثبتت إدانته، أمرٌ لا ينمُّ عن إنسانية، وهو يتقاطع مع مبادئ الرحمة وتقديس الحياة، رغم أن الدول الأوروبية الغربية ذاتها والولايات المتحدة - نضيف نحن للتذكير - نفذت أحكام إعدام بمدانين كبار السِّنِّ قبل إلغائها في بعضها. أما المبرر اللافت الذي ساقه الطالباني في حواره مع قناة "فرانس 24"، وانسجاما كما يبدو  مع كون المناسبة والساحة لا تخلوان من رائحة اشتراكية، هو  أنه – طالباني – رئيس اشتراكي! ولا ندري على وجهة اليقين، أية "اشتراكية" تلك التي تسمح للرئيسها بأن يتقاضى راتبا شهريا، نعم شهريا، يفوق المليون دولار عدا عن المخصصات والمنافع الاجتماعية التي لا تقل عن هذا المبلغ، في بلد محتل، يعيش الناس فيه على حافة المجاعة والحرب الأهلية! وأي رئيس اشتراكي ذاك الذي يتمزق حزبه الخاص وينشق إلى شقين متصارعين يقود أحدها نائبه ومساعده التاريخي ضد الشق الآخر الذي تقوده زوجته التي أصبحت مليونيرة فجأة، فيما تخبرنا الوقائع السياسية أن حزب السيد الرئيس الاشتراكي إياه لم ينل أكثر من ثلاثة عشر مقعدا من مجموع 325 لكنه رغم ذلك احتفظ بطرق معينة وصفقات ذات روائح معروفة بمنصبه وراتبه لرباعية ثانية؟

ومع ذلك، لنتمعن قليلا بقرار الطالباني، فهذا القرار سيسجل كموقف إيجابي لقائله، مع أن هذا القائل يعلم بأن عدم توقيعه على القرار لن يعني استحالة تطبيق الحكم، فالأحكام الصادرة تحت العنوان الذي حوكم بموجبه عزيز لا تحتاج إلى مصادقته بل إلى مرسوم تنفيذي  يمكن الاستغناء فيه عن توقيعه الشخصي بتوقيع نائب الرئيس "الشيعي" ضمن الترويكة الطائفية الحاكمة، وهذا ما حدث مع عدة أحكام بالإعدام لم يوقعها الطالباني، ومن بينها حكم الإعدام الصادر بحق رئيس النظام السابق والذي نفذ في حينه وقد اعْتُبِرَ ذلك خرقا دستوريا من قِبَل البعض.

  بعض المحللين والمراقبين فهموا أن تكرار الطالباني لتصريحه الرافض لتنفيذ الحكم في باريس يعني أن يوم التنفيذ قد اقترب، والواقع لا يمكننا تأييد هذا الفهم تأييدا تاما، كما لا يمكننا رفضه بشكل مطلق، ونوضح فنقول: لقد عُرِفَ الطالباني بعشقه الشديد للتصريحات واللقاءات الصحفية والطلعات الإعلامية، كما عرف بالمبالغة بأدائه السياسي لدرجة التلويح باستعمال صلاحيات لا يحوزها و لا يسمح بها منصبه البروتوكولي، غير إننا من ناحية أخرى لا يمكن أن نُهمل أو نَغفل عن وجود طائفيين متطرفين في قيادة حزب المالكي وأحزاب إسلامية شيعية أخرى، وقد يكون هؤلاء قلَّةً، ولكنهم مؤثرون وذوو عقلية انتقامية وثأرية، وربما هم يضغطون فعلا هذه الأيام باتجاه تنفيذ الحكم، ولا يمكن التكهن بموقف المالكي الذي يرفض من حيث المبدأ إي استثناء أو تخفيف من هذه السلسلة من الأحكام بالإعدام بحق أقطاب نظام صدام الرئيسيين والتنفيذيين، مع أن العِبَرَ والدروسَ التي خرج بها المالكي  من مآزق وأحداث ما بعد الانتخابات قد تكون عدَّلت بعضا من آرائه المسبقة.

 إن موقف الرفض لتنفيذ حكم الإعدام بطارق عزيز يجب ان يستند إلى الظروف الإنسانية المبرِّرَة للإلغاء أو التخفيف وليس إلى شيء آخر قد يُفْهَمُ منها تبرئته من أفعال وارتكابات إجرامية ثَبتت أو ستثبت فعلا ضدَّه، وعلى هذا ينبغي رفض تنفيذ الإعدام بحق عزيز مراعاةً لظروفه الصحية بالغةِ السوء وتقدمه في السِّن، كما ينبغي الاستمرار بالترويج والتبشير بضرورة إلغاء عقوبة الإعدام في العراق، البلد الذي اكتوى شعبه بنار هذه العقوبة اللاإنسانية أكثر من أيِّ بلد آخر في العالم.

أما إذا أصرَّ الحكمُ بقيادة المالكي على تنفيذ هذه  العقوبة فإنه يكون قد ارتكب حماقة مؤذية ليس لها من هدف سوى التشفي والانتقام وسوف يتسبب هذا المسلك إنْ حدث بأمور سيئة وضارة عديدة لعل من أبرزها:

إغلاق الباب أمام أي حوار جاد تحت عنوان المصالحة والمراجعة الوطنية وربما لزمن قد يطول وترسيخ الطائفية والاستقطاب المذهبي على مستوى الشارع والنخب.

دفع الصقور في "أحزاب" البعث إلى التشدد والمزيد من التطرف، وعزل وإنهاء أيِّ تيارات أو نَواتات بعثية وطنية و نقدية تريد الخروج من أَسْرِ الماضي ومراجعة تجربتها في هذا الإطار كجماعة "تيار المراجعة".

الإضرار بسمعة العراق الحضارية، والإساءة لعلاقته بدول العالم المعاصر ومجتمعاته المراقبة عن كثب لكل ما يجري في العراق، فلسنا نعيش في عزلة  على سطح كوكب المريخ، ولنتذكر قَوْلَةَ مؤسس الجمهورية العراقية عبد الكريم قاسم حين رفض تنفيذ بعض أحكام الإعدام فقال شعاره الشهير: الرحمة فوق العدل!

إنجاح مسعى المحتلين الأميركيين الذين يبدو من موقفهم المعلن بعد إصدار الحكم على طارق عزيز أنهم يريدون التخلص من الإحراج الذي يسببه لهم هذا المسوؤل، فهو  -كما يلوح - يعرف الكثير من أسرارهم الكبيرة التي قد يكون ما يزال محتفظا ببعض أخطرها، وإلا لماذا تسارع السيدة كلينتون و مسؤولون أميركيون آخرون إلى الإشادة بالقضاء العراقي و الدعوة إلى احترام قراراته و التحذير من التدخل في الشأن العراقي في يوم صدور الحكم ذاته ؟ أ ليست هذه التصريحات دعوة لشنق الرجل والتخلص منه ومما قد يسببه لسانه من متاعب لهم، و زَجِّ العراقيين في حومة الصراعات والتذابح مجددا؟

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1591 الاثنين 29 /11 /2010)

 

 

في المثقف اليوم