أقلام حرة

الغرب ومسيحيو الشرق: إذلال واستعباد وإهانة / علاء اللامي

تقابلها دعوات مضادَّةٌ للتشبث بأرض الوطن والهوية الأصيلة، بوصف هؤلاء العراقيين الشعب الأصلي الذي شيَّد أولى الحضارات العريقة في البلاد. عودةً على بدء، فما قِيلَ بعد مجزرة الكنيسة، لم يخرج على الخطوط العريضة التقليدية، والرؤية المُسيَّسة والمؤدلجَة التي تنظر إلى المسيحيين إمّا كغرباء مضطهَدين في أوطانهم من قبل أغلبيات مسلمة مهيمنة، يقودها متطرفون ومتشددون طائفيَّاً ودينيَّا، وينبغي إنقاذهم من جحيم القتل بالتهجير، أو كمجموعات دينية وقومية تعيش حياة مثالية في الانسجام والاندماج المجتمعي ولا شيء آخر.

 نسخة معدَّلة قليلاً أو كثيراً من هذه الصورة ذات الوجهين، نصادفها في لبنان أو مصر مثلا، فلا هي تخرج عن حالة الاستقطاب الموروثة بين "الملائكة والشياطين"، ولا هي تسمح للنقديين والداعين لوجهات نظر مركبة بقول ما يساعد المرء على فهم ما يحدث. وتبقى الأسئلة المهمة مُغَيَّبَة، من قبيل: هل الاستهداف بالقتل والتهجير والاختطاف والتهديدات محصور بالمسيحيين العراقيين أم أنه يشمل وبنسبة قد تكون أكبر أبناء الطوائف والأديان الأخرى؟ مثلا، نسبة القتلى من طائفة اليزيديين أو طائفة الشبك بتفجيرات القاعدة إلى عديدهم السكاني أعلى بضعفين أو أكثر!  وهل بدأت محاولة تفريغ العراق من أقلياته بعد 2003، أم أنها سبقت سنة الاحتلال واستمرت طوال سنوات الحصار الغربي والعربي ضد العراق؟

  غير أنّ كلاماً جديداً ولا يخلو من العمق والجرأة – مع بعض المبالغة طبعا-  صدر قبل أيام عن رئيس ديوان الوقف المسيحي في العراق، نعتقد أنه كشف شيئا من المستور الغربي والمسكوت عنه عراقيَّاً في صدد هذه القضية تحديدا. ففي لقاء له مع إحدى اليوميات العربية "الحياة في 25/11/2010" ذكر رئيس الديوان المسيحي عبد الله هرمز النوفلي  عدة أمور منها:

(تَعَرُض المسيحيين للعنف تَحَوَّلَ إلى مزايدات رخيصة بهدف الكسب المادي داخل وخارج العراق). ولا يملك المرء إلا أنْ يؤيد ويؤكد ما قيل هنا، فهناك العديد من الوكالات والشركات الحقيقية والوهمية التي تستغل مأساة و حراجة وضع المسيحيين لتتاجر بمستقبلهم وأمنهم وممتلكاتهم وعقاراتهم.

 (الهدف من تهجير المسيحيين هو إذلالهم واستعبادهم كلاجئين يقومون بأعمال مُهِينَةٍ يرفض الغربيون الأوروبيون القيام بها). ولا يخلو هذا الاتهام من ظلال الحقيقة، مع أنّ الحاجة إلى مسيحيي العراق والشرق في الغرب خفَّت وانخفضت بفعل تَدَفْقِ فقراء شرق أوروبا، ومن كافة أصقاع العالم الجائع نحو "الفردوس الرأسمالي". كما يمكن التذكير بحقيقة أنَّ من أهداف الدول الغربية إنهاء حالة التعدد والتعايش السلمي بين الطوائف والأديان في الشرق والشرق العربي خصوصا وهي حالة عريقة ويمتد عمرها لعدة قرون. والغرب اليوم، يريد لهذه الحالة أن تختفي من الوجود ليتكرس هو – الغرب - فقط بوصفه المثال الحصري على التعدد والتسامح المجتمعي، ولينسَّ العالم والتاريخ ذكريات وحرائق الحربين العالميتين - بالأحرى الأوروبيتين – وعشرات الملايين من البشر التي أُفْنِيَّت فيهما.

(أصبح التعايش السلمي والعيش المشترك في العراق مهددين بعد الغزو والاحتلال سنة 2003 وتنامت ثقافة خطيرة داخل المجتمع العراقي بفعل نشاطات متشددين إسلاميين انتقائيين). وهذا أمر واضح وصائب، غير أنّ من الإنصاف، عدم تبيض صفحة مرحلة ما قبل الاحتلال تماما من الشوائب، فعلى الأقل كانت أمور العلاقات بين المكونات المجتمعية وبعضها، وبينها وبين الدولة سائبة -كما هي الآن - فلا يوجد قانون أو مؤسسات شرعية وشفافة تضبط سيرها وتعالج أزماتها و مستجداتها، ناهيك عن غياب مفهوم ومبادئ المواطنة الحديثة دستوريا وقانونيا ومؤسساتيا واستمرار مفهوم ومبادئ الرعية والتَبَعِيَّةِ.

(انكشاف حقيقة مشاعر ومخططات المسوؤلين الغربيين. ففي حين يدلي هؤلاء  بعشرات التصريحات التي تشجع على هجرة المسيحيين من العراق، نراهم يرفضون، وقد رفضوا فعلا، منح تأشيرات زيارة عادية أو لِلَّمِّ الشمل لكثيرين ممن انشطرت عائلاتهم – المسيحية - بين العراق والمهجر منذ سنوات). هنا تنكشف حقيقة الحرص الغربي المنافق على مسيحيي الشرق: فهم لا يريدون لهؤلاء أنْ يأتوا كأسياد ومسافرين طبيعيين، ليزوروا أفراد أُسَرِهم في المهجر ثم يعودوا إلى أوطانهم بل يريدونهم أنْ يأتوا "عبيدا"، لاجئين، طارئين، ومادةً خاماً يُصَنِّعُونها كما شاؤوا.

هذه الرؤيةُ المُعَتَّمُ عليها كثيراً، لقضية وجود وسلامة المسيحيين العراقيين في بلادهم، التي عَبَّرَ عنها النوفلي، تعيد وضعها في إطارها الصحيح جزئياً، و تكشف بعض العوامل الخفية والحقيقية لاستكمال عملية تهجير الكلدان الآشوريين وأقليات دينية وقومية أخرى لم يبقَّ منها الكثيرُ، حيث التقت مصالح مختلفة داخلية عراقية ودولية غربية حولها. هنا تتصادى تصريحات الوزير الفرنسي "كوشنير" الحامية والمُشجِّعة للتهجير مع بيانات الجماعات التكفيرية وأطراف أخرى لها مصالح سياسية وديموغرافية في مناطق ومناصب وامتيازات متنازع عليها بين ممثلي وزاعمي تمثيل القوميات والطوائف في حكم المحاصصة الطائفية في العراق، مذكرين عَرَضَا بما قالته "نيويورك تايمز" قبل أيام من أن الحكومة العراقية المقبلة ستكون أكثر طائفية من سابقتها، لدرجة أنّ توزيع الحصص السياسية الطائفية فيها سيتم باستعمال بالمليمتر و المليغرام والقَطَّارة!

ومع أنَّ من البديهي اعتبار مشكلة ومأساة المسيحيين العراقيين والأقليات الأخرى جزء من مشكلة ومأساة العراق المحتل ككل، وأن بعض أوجه المشكلة تعود لأزمنة قديمة، فيما أفرزت فترة الاحتلال والحكم المحلي الطائفي عوامل ومسببات أخرى أكثر فاعلية بما لا يقاس، إلا أن هذا الكلام يبقى عاما ومكررا، ولا بد من النظر إلى القضية بشيء العمق والخصوصية يعيد الاعتبار إلى الوقائع على الأرض ويكشف عن الجوانب الخفية والمريبة ومن ذلك ما ذكره المتحدث سالف الذكر، وخصوصا ما تعلق منه بوجود توجه أوروبي مُخَطَّطٍ له يريد إخلاء العراق من أقلياته، دون إهمال العوامل والأسباب النابذة الأخرى ومنها إفرازات الاحتلال والعنف المسلح ضدهم وضد عموم المدنيين العراقيين، ودون إهمال خصوصية وضع هذه الأقليات نفسها واستمرارها في التشبث بالبقاء في بلادها ضمن ظروف داخلية صعبة. معنى ذلك، أننا أمام خصوصية يتوجب مراعاتها في التعامل مع هذا الحدث، و مع ردود الأفعال عليه، ومع بعض ما له صلة به بشكل من الأشكال. من هنا، ربطنا في مناسبة سابقة على هذه الصفحة بين تبرير الدعوة إلى عدم تطبيق حكم الإعدام بحق نائب رئيس الوزراء في عهد النظام الشمولي السابق طارق عزيز وبين كون هذه الطائفة مستهدفة بالعنف التكفيري والتهجير وليس فقط بسبب كونه مسيحيّا، لأننا نكون قد أدخلنا الموضوع في مأزق طائفي تمييزي مرفوض. فعزيز لم يحاكم لأنه مسيحي بل لأنه أحد أقطاب النظام السابق مثلما حوكم معه وقبله أقطاب آخرون من طوائف وقوميات أخرى، أما كونه رجلا مسنا ومريضا فهو ما ينبغي التأكيد عليه وترويجه  لدواعي إنسانية أولا وأخيرا.

وفي هذا الصدد أيضا، يظل القرار الذي اتخذه المحامي بديع عارف بالتخلي عن مهمته في الدفاع عن موكله طارق عزيز غير قابل للتبرير والتفسير السريع، فقد أعلن عن قراره هذا وكأنه جاء ردا على حملة التضامن من أجل عدم تنفيذ حكم الإعدام بموكله، واعدا (سأشرح وأوضح أسباب قراري لاحقا، لكنني سأتفرغ لمتابعة قضايا المحكومين بالإعدام من غير الديانة المسيحية لأن هؤلاء عموما لا يأبه بهم أحد.) مضيفا (الأخ أبو زياد – طارق عزيز -  لم يعد بحاجة لي فهو ينال اهتمام أوروبا والعالم الغربي والفاتيكان، ولذلك سأنصرف لدعم العدالة في قضايا المعتقلين المنسيين من غير الديانة المسيحية.القدس العربي في 24/11 ) وأخيرا، فهل هناك ما سكت عنه محامي عزيز وعلينا أن نتسلح بالصبر في انتظار إعلانه، أم أنَّ الأمر لا يعدو أنْ يكون خلافاً ثانويا بين محامٍ وموكله؟

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1598 الاثنين 06 /12 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم