أقلام حرة

مأثرة الملازم نزهان تهزُّ الوجدان العراقي وتطلق حملة رفضا للطائفية / علاء اللامي

من الرفض للطائفية السياسية وكل ما له صلة بها، وتوقف عندها المراقبون والمحللون والباحثون لما انطوت عليه هذه الحادثة المأساوية من معانٍ بالغة الدلالة.

الفقيدان عسكريان من العرب السُنة، الأول من سكنة قضاء الحويجة ذي الغالبية العربية السنية والتابع لمحافظة كركوك، والثاني من سكنة محافظة ديالى المختلطة طائفيا وقوميا، وقد قتلا في التفجير الانتحاري الذي وقع قبل أيام قليلة في ناحية البطحاء التابعة لمحافظة ذي قار الجنوبية و استهدف مواكب الزائرين المسلمين الشيعة المتوجهين مشياً على الأقدام إلى المدن المقدسة في الفرات الأوسط، كربلاء والنجف والكوفة.

روايات شهود العيان قالت أن الملازم الأول نزهان، والذي كان يقود دورية للمراقبة والتفتيش، اكتشف الانتحاري قبل أن يفجر نفسه بقليل فهرع إليه واحتضنه محاولا إبعاده عن وسط حشود الزائرين المشاة، ولكن الانتحاري تمكن من تفجير نفسه بحزامه الناسف خلال ذلك فقتل وجرح العشرات ومن بينهم الملازم نزهان وزميله. هذه المأثرة هزّت المجتمع العراقي بقوة، وصارت موضوعا لتعليقات ومداخلات في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي. ففي مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار الجنوبية وذات الغالبية العربية الشيعية، أقيم تشييع مهيب وحاشد للفقيدين نزهان وعلي بمشاركة كبار رجال الحكومة المحلية والجيش والشرطة و قد طالب الآلاف من المشاركين في الجنازة تشييد نصب تذكاري لهما في المدينة، حسبما نقل مراسل فرانس برس. وبحسب مسؤول محلي فإنّ "مجلس المحافظة يدرس حاليا تشييد نصب أو تمثال لهما في مركز المحافظة".كما أطلق الأهالي اسمي الفقيدين على سارع وساحة عامة في المدينة وتبنت السلطات الرسمية هذه المبادرة، والأمر نفسه تكرر في محافظة ميسان الجنوبية المجاورة. وبعد التشييع المهيب والحاشد في الناصرية نقلت جنازتا الفقيدين إلى مدينتيهما شمالي العراق، حيث أقيم لكل منهما تشييع آخر لا يقل مهابة.

هذه الحادثة ليست الوحيدة من نوعها عراقيا، فقد أعادت إلى الأذهان مأثرة أخرى سبقتها وكان بطلها الشاب البغدادي عثمان علي الأعظمي الذي أصبح رمزا من رموز التضامن الشعبي اللاطائفي خلال كارثة جسر الأئمة. وقعت هذه الكارثة في عهد رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري سنة 2005 ، و مات فيها غرقا ما يقرب من ألف شخص وجرح المئات إثر إشاعات كاذبة ومنسَّقة بوجود انتحاري بين صفوف آلاف الزائرين القاصدين لمرقد الإمام الكاظم، سابع أئمة المسلمين الشيعة، وفي لحظة اكتظاظ الجسر المذكور بالعابرين وكانوا بالآلاف. خلال تلك المأساة، هرع الشاب عثمان وهو في السابعة عشرة من العمر و من أسرة عربية سنية، تسكن منطقة الأعظمية القريبة من مكان الكارثة، مع آخرين لإنقاذ الناس من الغرق وقد تمكن من إنقاذ سبعة أشخاص كما قيل وقتها ولكنَّ التعب والإرهاق أثّرا عليه فلم يستطع إنقاذ آخر ضحية كان يحاول إنقاذها فغرق وإياها.

بالعودة إلى مأثرة الملازم نزهان وزميله، نسجل أن تشييع الفقيدين في الناصرية، ومن ثم في مدينتيهما، كان مناسَبَة لانفجار المشاعر والشعارات الوطنية المناوئة للطائفية وللحكم الذي يقوم على أساسها حيث توحد العراقيون من جميع الطوائف الدينية والمكونات الإثنية على مستوى الشارع، ونقلت وسائل الإعلام وقائع هذا التطور الذي عده مراقبون وباحثون كُثر علامة فارقة سيكون لها أثر إيجابي على تطورات الوضع الاجتماعي والسياسي مستقبلا.

وفي السياق، نشرت عدة صحف عربية ووسائل إعلام أجنبية أخبارا وتحقيقات ميدانية عن حالات التضامن الشعبي التي انتشرت خلال الزيارة الأربعينية الأخيرة، حيث شهدت قيام العشائر العربية السنية التي تقيم في المناطق الفاصلة بين بغداد والفرات الأوسط بتشكيل فرق من شبابها لحماية جموع الزائرين الشيعة المارين بمناطقهم وتقديم الطعام والشراب لهم. المواطن أبو بكر الجنابي، الذي ينتمي إلى الطائفة السنية، كما نقلت إحدى الصحف السعودية "نصب خيمة كبيرة جنوب بغداد، لتقديم الخدمات الطبية والإدارية للمتوجهين سيراً على الأقدام إلى كربلاء." الجنابي قال لمراسل تلك الصحيفة "التفجيرات التي تحدث لا ترتبط بطائفة معينة، والإرهاب ليس له دين أو طائفة معينة، مشيرا إلى انه على طول الطريق جنوب بغداد، تقوم عشائر سنية بمساعدة الزائرين، وتقديم المساعدات لهم". ما أسميناها بالحملة التضامنية العفوية بلغت ذروتها مع ظهور السيدة والدة الفقيد نزهان على شاشات بعض المحطات التلفزيونية العراقية وهي تصرح، رابطة الجأش وهادئة، بأنها تفتخر بما فعله ولدها نزهان، و" سأكون فخورة أكثر إذا ما استشهد أولادي الآخرون من أجل العراق " أضافت أم الفقيد الشجاع!

وإذا كانت مأثرة الملازم نزهان وزميله قد أججت المشاعر الوطنية على مستوى القاعدة الشعبية فإنها أثارت أسئلة عديدة لدى المحللين والباحثين والسياسيين. بعض هؤلاء تساءل عن دلالات استمرار موجة الانفجارات بعد أن أكملت قوات الاحتلال الأميركية انسحابها من البلاد، مشككين ضمنا بالاتهامات القديمة بتواطؤ ومسؤولية مخابرات الاحتلال في تلك التفجيرات ولسان حالهم يقول "ها قد انسحب الأميركيون ولكن التفجيرات التي تستهدف المدنين متواصلة". الرد على هذه التشكيكات والتساؤلات، جاء واضحا وسريعا وخلاصته: إذا كان الاحتلال الأميركي قد سحب دباباته وطائراته وجنوده، فهو قد ترك منهم الآلاف وخصوصا من رجال مخابراته وجواسيسه المحليين والضباط العراقيين الذين منحهم الاحتلال رتبا عسكرية. وفي المناسبة، فقد طالب أحد النواب الصدريين أخيرا في البرلمان بتجريد أولئك الضباط من تلك الرتب العسكرية وعدم ائتمانهم على أي أسرار. آخرون أضافوا بأن تنظيم القاعدة، الذي يفاخر بإعلان مسؤوليته عن هذه المجازر البشعة بحق المدنيين، هو أصلا مخلوق وصنيعة أميركية، وإن دخوله في مجابهة لاحقة مع صانعيه لا تنفي هذه الحقيقة.

مراقبون عراقيون وأجانب اتفقوا على أن التكريم الشعبي الذي ناله العسكريان العراقيان الراحلان يفوق في دلالاته ومعناه العميق التكريم الرسمي الذي سارعت حكومة المالكي إلى القيام به حين أمر المالكي، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، بتكريم الفقيدين وأسرتيهما برتب عسكرية أرقى من تلك التي لديهما. هذا التكريم اعتبره البعض محاولة لتسجيل الحضور الرسمي فيما ربطه البعض الآخر بحالة التضامن الوطني والمشاعر المناوئة للعنف الطائفي والتكفيري الذي يذهب المدنيون العراقيون من جميع الطوائف والقوميات ضحايا له. غير أن اللافت الذي سجله بعض الملاحظين هو أن الأحزاب والكتل السياسي الكبرى كقائمة "العراقية" أو التحالف الكردستاني أو التحالف الوطني أو مكوناتها، لم تصرح بموقف أو بيان حول هذه الحادثة التي شغلت الناس.

 محللون في الصحافة العراقية استنتجوا من هذه المأثرة وتداعياتها وصمت الأحزاب والكتل السياسية المتصارعة على المناصب والامتيازات عنها، أنّ الشارع العراقي ما يزال قادرا على جرِّ وقيادة النخب السياسية والثقافية والحزبية ضد الطائفية السياسية في مناسبات عديدة كهذه، وثمة سوابق تؤكد وجهة النظر هذه ليست الانتخابات المحلية بداية سنة 2009 آخرها. وجهة النظر هذه تجد ما يؤيدها في الأخبار الكثيرة التي تتحدث عن نزاعات طائفية بدأت تتفاقم حتى في داخل بعض الأحزاب العراقية التي تزعم العلمانية واللاطائفية.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2001 السبت 14 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم