أقلام حرة

تدخل إيراني باهت في الشأن العراقي يوجب الإعتذار

 المهم ما تراه أنت الإيراني بها". طار الرجل فرحاً ولم يقبل بأخذ ثمن ما اشتريته منه إلا بصعوبة، وسط سيل من كلمات الملاطفة والمجاملة ما لا قبل لي بالسباحة فيه. 

 

تذكرت هذه الحادثة وأنا استمع، إثر وفاة السيد عبد العزيز الحكيم، إلى خبر مفاده أن علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الإيراني، يعزي إبن الراحل، السيد عمار الحكيم ويقول له: "نتمنى أن تستكمل طريقه بقوة أكبر ونأمل أن نرى شقيقنا (عمار الحكيم) يؤدي دوراً أكثر فعالية في المشهد العراقي!" (1)

 

لقد أثارت العبارة الأخيرة تساؤلي وغضبي، فمن أنت يا سيد لاريجاني لـ "تتمنى أن يكون لعمار الحكيم أو غيره دوراً أكبر في "المشهد العراقي"؟ وماهي أهمية رأيك فيه لتفرضه على الشعب العراقي؟ اليس هذا نوع من التدخل في الشأن السياسي العراقي؟ أما كان يجدر بلاريجاني، المفاوض الدبلوماسي الكبير، أن يكتفي بتعزية حيادية مهذبة؟ ألا يرى أن في هذا الدعم المعنوي تأثير على خيارات عراقية بحتة قد تفضل أن يلعب عمار دوراً أقل أو أكبر؟

 

سبق لي أن هاجمت منظمة مجاهدي خلق لأنها كانت بتصريحاتها تفرض رأيها بوقاحة حول جودة الحكومة العراقية او سوئها، ووطنيتها وعمالتها، وكتبت أننا بالرغم من الكثير من الإعتراضات على حكومتنا، إلا أننا لا نسمح لمنظمة خلق أو غيرها، حتى أن تلعب دوراً في تقييم حكومة عراقية، وما ينطبق على رفضنا لدور منظمة خلق ينطبق على رفضنا لتدخل أي صوت أجنبي في تقييم الحكومة أو السياسيين العراقيين وتفضيل هذا أو ذاك، فالعراقي ليس معنياً بمن تفضله الحكومة الإيرانية وتتمنى له "دوراً أكثر" أو "أقل". ولتفهم شعورنا يا سيدي، تصور أن مسؤولاً عراقياً يعبر عن أمله في أن يلعب رفسنجاني أو أي شخص أخر "دوراً أكثر فعالية في المشهد الإيراني"، فما سيكون شعورك حينها؟

 

لقد تعرضت الحكومة الإيرانية لحملات إعلامية شديدة في الماضي وما تزال، وتعرضت إلى تهم كثيرة ثبت ان الغالبية الساحقة منها لا أساس لها. وكان نتيجة هذا السيل الهائل من الأكاذيب أن أصبح الشك بالإتهامات التي توجه إلى طهران من قبل وسائل الإعلام الموجهة أمريكياً والمتمثلة بالغالبية من وسائل الإعلام العراقية والعربية، أصبح الشك بصدقها هو القاعدة، حتى يثبت العكس.

 

أن اخباراً مثل خبر عن "مصدر (فضل عدم ذكر اسمه) يقول أنه تم القاء القبض على شخص يحمل الجنسية الإيرانية خلال محاولته زرع عبوة ناسفة في البصرة" (6/4/2009) و "مصدر أمني في واسط (طلب عدم الكشف عن اسمه) تقول نيوزماتيك أنه تحدث إليها عن الاستيلاء على عشر دراجات نارية تحمل لوحات إيرانية في واسط (6.11.2008) و "إيران تحتفل بيوم القدس وأجهزتها وعملائها تذبح الفلسطينيين في العراق" (27/09/2008). العدد الهائل لمثل هذه الأخبار، والتي تأتي جميعاً بلا دليل وغالباً بلا مصدر يبتناها، تدل على إرادة إعلامية كبيرة تبيت الإساءة والكذب حول إيران وتجعل المرء حذراً في تصديق أي خبر مسيء لها.

 

وليس مصدر هذه "الثقة" بإيران هو كثرة الأخبار الكاذبة ضدها فقط، بل أيضاً سيل من التصريحات والإتهامات القادمة من مصادر لا تتميز بالسمعة الموثوقة. هذا النائب "الليبرالي" أياد جمال الدين يشرح لقناة «الآن» اللبنانية "التدخل الإيراني" وكأنه يتحدث عن عالم الجن والسحر فيقول: «اما بالنسبة للتدخل الإيراني في العراق فالتدخل الإيراني في العراق شيء يدرك ولا يوصف.. مثل الحبّ... مثل الكُره، الانسان يشعر بالحبّ ولكن لا يستطيع ان يراه لا يستطيع ان يشير له ويقول هذا حبّ. ولا يستطيع ان يقول هذا كُره. التدخل الإيراني من هكذا نمط. يُدرَك ولا يوصَف، ايران تُسيطر وتُهَيمن على كل مفاصل الحياة في العراق، السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية وغير ذلك، البرلمان والحكومة ومجالس المحافظات القادمة أو الحالية والحكومات المحلية كل ذلك خاضع للنفوذ الإيراني، من يخالف إيران لا مكان له في العراق، هم استخدموا كل الوسائل من الميليشيات القتلة إلى قتل الشخصيات معنوياً، تشهير وغير تشهير، بمختلف الوسائل، ولذلك في تقديري ان معركة تحرير العراق من الاحتلال الإيراني بدأت". (2)

هل هناك خطاب أكثر تعبيراً عن الإفلاس من الدلائل من هذا الخطاب؟ التدخل فعالية سياسية أو عسكرية وليست اشباحاً، وهناك قوانين ومؤسسات دولية تحكمها ويمكن الشكوى إليها، فماذا سنقول لها لو أردنا الشكوى وطالبتنا بأدلة؟ نقول لها أنه "لا يمكن رؤيته، لايمكن إدراكه"؟ هل نبني علاقتنا مع دولة على شيء "كالحب...كالكره..."؟

 

وفي مقابلة أخرى عندما يسأل جمال الدين عن موقفه من منظمة مجاهدي خلق واتهامها بالإرهاب يقول:" «من يتهم عليه ان يأتي بالدليل! كل انسان برئ حتى تثبت ادانته، لو كان عملاء إيران في العراق يمتلك قصاصة ورق ضد مجاهدي خلق لسحبوهم إلى محكمة الجنايات العليا... لماذ لا يحاكمون فرداً واحداً من أعضاء مجاهدي خلق؟».  وهو كلام جميل، خاصة إنه يستنكره على السفير الإيراني الذي يطالب بدليل على التهم الموجهة ضد دولته، وهو وكان يدعو قبل قليل إلى "معركة تحرير العراق من الإحتلال الإيراني" دون أن يطلب دليلاً على هذا "الإحتلال" أو حتى التدخل الذي يصفه بأنه "شيء لا يدرك....مثل الحب..مثل الكره"، فكيف تدير معركة ضد شيء لم تره ولا تدري ما شكله وما مكانه، "شيء" لاتعرف عنه سوى أنه "مثل الحب...مثل الكره"؟

لكن عندما يسأل تركي الدخيل أياد لماذا يدافع عن خلق، يقول أياد أنه يدافع عن كرامة العراق...الخ. وحين سأله عن إدعاءات البعض بأنهم أسهموا في قمع الشعب العراقي قال النائب:

"وهذه من أكاذيب المخابرات الإيرانية والإشاعات التي تروجها، لو كان حقاً أن مجاهدي خلق قد قمعوا الشعب العراقي في الانتفاضة إذاً يجب على هذه الحكومة أن تقدمهم للمحكمة كما حاكموا صدام وعلي الكيمياوي وغيره لماذا يعفوا عن هؤلاء؟ هؤلاء أسوأ إذاً، أجنبي موجود في بلدك ويقتل أبناء شعبك لماذا تسكت عنه؟ إذاً الحكومة العراقية مقصرة ويجب أن تحاكم لأنها لم تحاكم هؤلاء المجرمين الذين شاركوا في قتل الشعب العراقي أو أن هذا الكلام أكذوبة كما أرى أنا، أنا أرى أن هذه من افتراءات المخابرات الإيرانية لتشويه صورة مجاهدي خلق" (يستمر أياد في الكلام...) لكن تركي الدخيل يفاجئه بمعلومة يبدو أنه لم يتوقعها فسأله: ألم تتعرض أنت لمحاولة اغتيال قادها بعض مجاهدي خلق في فترة من الفترات؟

فيجيب إياد جمال الدين وسط استغرابنا: "نعم عام 81 وأنا العراقي الوحيد والشاهد على أنهم يعني إلى الآن أحمل الرصاص في جسمي رصاصات مجاهدي خلق.."

تركي الدخيل: ومع ذلك تدافع عنهم.

إياد جمال الدين: أنا أدافع عن كرامة العراق، لا يمكن أن يكون.. العراق ليس بلطجي العراق الجديد، العراق ليس يتصرف وفق منطق الشقاوات ومنطق الأحقاد والثارات، يعني العراق الجديد لا يمكن أن نصفه بأنه رجل شارع،

برامج | إضاءات: إياد جمال الدين (مفكر وبرلماني عراقي) (3)

ألا يستحق مثل هذا الرجل أن يدخل موسوعة جينيس لتسجيله درجة غير مسبوقة من الوقاحة والصلافة وهو ينكر حقيقة يحمل دليلها في جسمه؟ إنه يحملها ليس بشكل " لا يدرك....كالحب ...كالكره" وإنما صلب صلد كالرصاص. وحين يواجه بكذبه فأنه يراوغ بلا حرج وكأنه لم يتقن في حياته سوى فن الكذب ومواجهة إحراج اكتشافه بلا حياء!!

لقد كان السؤال إن كانت خلق قد أسمهت في قمع الشعب العراقي أم لا، وهاهو يحول الحديث وكأن هذا السؤال قد تمت الإجابة عنه وجاء وقت اتخاذ موقف الإنتقام أو المسامحة، في الوقت الذي يقول أن من يدعي أنها فعلت ذلك يقومون بالإفتراء ويروجون أكاذيب المخابرات الإيرانية!

 

هذا بشكل عام شكل ومستوى واخلاقية الإعلام الذي يتوجه بالإتهامات لإيران والدفاع المستميت عن عصابة خلق. عندما يكون مثل هؤلاء المحتالين ضد جهة ما، وبهذه الحماسة الشديدة، فأنك مجبر أن تفكر أن تلك الجهة لا بد أن تكون جيدة، وعندما يقولون أنها كاذبة فهو مؤشر على أنها صادقة، وإن قالوا أنها تتدخل، يفكر المرء أن هذا يعني أنها لا تتدخل.

 

لكن عندما تأتي الإشارة من رجل مسؤول في النظام فهي موضوع مؤكد لايمكن إنكاره. ورغم أن هذا النوع من التدخل ليس من النوع الذي تتهم به إيران عادة، لكنه يبقى حركة غير لائقة وقد تكون مؤشراً خطيراً على ما هو أبعد منها كثيراً.

 

والآن لنتساءل: لماذا يريد لاريجاني أن يلعب عمار الحكيم دوراً أكبر في السياسة العراقية؟ لقد ارتبط اسم هذا الرجل بحملة تقسيم العراق وإقليم الجنوب سيء الصيت فهل تدعم إيران هذا التوجه؟ أليس عمار الحكيم الملقب عراقياً بـ "عدي الحكيم" اقرب ما يكون شبهاً بـ "أولاد رفسنجاني" التجار الأثرياء الذين وجه إليهم الرئيس نجاد الإنتقاد الشديد، بل وجه الإنتقاد إلى منافسيه بتهمة التعاون معهم؟

 

أن لدى العراقيين ملاحظات كثيرة خطيرة على السيد عمار الحكيم, ولعل الطريقة المبتكرة التي تم "انتخابه" بها، برفع صوره في تشييع والده بكميات كبيرة، أكبر مؤشر على الخطر الذي يحسه العراقيون إزاء سلطة قد يصل إليها هذا الرجل ألذي "ورث" حزب أباه كما لو كان ملكاً أسرياً. لقد "انتخب" محمود عباس "بالتصفيق" وعمار بالصور، فما أكثر الإبداعات الديمقراطية العربية هذه الأيام؟ ألا تذكر بانتخاب صدام وغيره من الكوارث العربية بواسطة "المبايعة" ؟

 

إنه أيضاً يذكرنا بجمال مبارك وبـ "بينظير بوتو"  وتوريثها لحزب الشعب...لإبنها "بيلاوال" ذو التسعة عشر عاماً، على أن يتسلم زوجها "آسف" قيادة الحزب لحين أن يكبر الإبن! (و "آسف" متهم  بالكثير من الفساد، إضافة إلى تهمة قتل أخو بينظير الأكبر بأمر منها، لأنها "الوارثة" التالية للحزب) أي أن "حزب الشعب" وياله من إسم صار غريباً عليه، كان يعتبر ملكاً إقطاعياً لعائلة بينظير بوتو.

 

لم يكن باستطاعة بينظير أن تورث الحزب لإبنها بهذا الشكل وكأنه قطيع من أملاكها، لو لم يكن قادته يشعرون بأنهم قطيع بالفعل. لقد قالت حركة كفاية في مصر "لسنا قطيعاً لكي نورث"، وكنا نأمل من أي حزب عراقي، حتى المجلس الأعلى أن يكون رد فعلهم مشابهاً. إن عمار الحكيم لم ينظر إلا إلى مصلحته الشخصية، مهما كان ذلك يسبب من إحراج للمجلس الأعلى. فحتى لو افترضنا أن عمار هو الشخصية الأنسب لقيادة الحزب، فكان عليه لو أنه يشعر بالمسؤولية عن الحزب، أن يرفض ترشيح نفسه ويضرب مثلاً جيداً بأن يرفض استلام الرئاسة في مثل هذه الظروف المريبة، وما تسببه من عدم تصديق شديد بين الناس لما يجري، ولنظر الناس إليه على أنه مثال من نوع جديد في العراق، ولأحترمه خصومه قبل رفاقه.

 

لكن الأمر لم يكن كذلك للأسف وعبر عمار عن أنه ليس سوى متسابق على الرئاسة من شلة المتسابقين الذي يعج بهم العراق الحديث، كما كان القديم. الشلة التي تقول: كل شيء لي، وليذهب الحزب والعراق إلى الجحيم.

 

وبالعودة إلى موقف لاريجاني، نجد أنه جعل من نفسه جزءاً من هذا الموقف الخاطئ المضاعف، فزاده بلة، وزاد الناس توجساً وقلقاً. خطأ مضاعف لأنه من الخطأ أن يتدخل أجنبي، دع عنك أن يكون دبلوماسياً، في الخيارات السياسية لبلد آخر, وفي موضوع لا يتعلق ببلاده بأي شكل كما يفترض، حتى لو كان تدخله لصالح جهة جيدة، والخطأ الثاني أن التدخل كان لجهة عليها الكثير من علامات الإستفهام التي ترفضها إيران لنفسها، فلماذا تقبلها للعراق؟

 

أن تصريح لاريجاني مسيء وغير مناسب ويجب مطالبته بالإعتذار (لو كان في العراق شيء يشبه الحكومة ولو من بعيد). فعندما يقول شخص بمنصب لاريجاني ما يقوله، فلا يعود الأمر إشاعة رخيصة كما اعتدنا من إعلام مشترى أو صلافة من محتال يبعث على التقزز - يجلس في البرلمان العراقي للأسف - مثل أياد جمال الدين الذي يحاول إقناعنا بأن نصدق "شيء لا يدرك...يشبه الحب" ونكذب معه الرصاصة التي تستقر في جسمه "الطاهر".

 

إننا نأمل وبشدة، بأن تكون علاقة العراق بجارته إيران، علاقة جميلة متوازنة، علاقة مع دولة نعتز بجيرتها وتعتز بجيرتنا، ولا نمنح الفرصة لأمثال أياد جمال الدين ومنتجي إعلام "المصدر الذي رفض ذكر اسمه" المغرض، لإفسادها وتخريبها، لكن تصريحات كمثل تصريح لاريجاني لا يساعد في ذلك، ويستوجب الإعتذار وعدم التكرار مستقبلاً.

 

 

(1) http://www.al-akhbar.com/ar/node/153950

(2) http://www.youtube.com/watch?v=8QycM5IPjKs

(3) http://www.alarabiya.net/programs/2009/06/28/77221.html

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1187 السبت 03/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم