أقلام حرة

في ذكرى استشهاد المرجع الصدر الثاني .. عباءة الموت المتحركة / مصطفى كامل الكاظمي

في مفصل هام من حياة العراق السياسية في الربع الاخير من قرنه الماضي، هما المفكر الكبير محمد باقر الصدر مؤسس الحركة الاسلامية منتصف الخمسينات وابن عمه المرجع محمد محمد صادق الصدر صاحب الموسوعة المهدوية الشهيرة ورائد المباغتة الثائرة منتصف التسعينات. حيث تميز هذان العلمان العالمان عن أمثالهم بخصال الفكر والتمدد الاجتماعي بتحرك ثوري مذهل في دائرة التنظيم السري بالنسبة الاول ومباشرته التحدي، ودائرة تحدي الصدر الثاني الغير مباشر في جميع اتجاهات تفكيره كما في إحيائه صلاة الجمعة (المعطلة دهوراً) وانتشارها في الوسط الشعبي عامة مما شكل رقماً حقيقياً أرعب سلطة صدام إحصين التكريتي الذي بادر لتصفية السيد محمد محمد صادق الصدر بتدبير مفضوح في مدينة النجف فاغـتاله وولديه مؤمل ومصطفى داخل سيارتهم اثناء عوتهم لمنزلهم في شباط عام 1999.

 في ظل تطورات المشهد الديني والسياسي العراقي المخيف آنئذٍ، وبين اخفاقات سلطة البعث العراقي في التغلب على ظروف الحصار، تزامناً مع عدم استغناء الرئيس المشنوق صدام عن اساليب كم الأفواه ومن ثم استعار بطشه في العراقيين وامتهانه الدائم لدول الاقليمي، وظروف إجتماعية اخرى تتردى وتتقهر كل ساعة في بغداد.. في مثل هذه الظروف برز المرجع الصدر الثاني يرتدي كفنه الابيض ساعياً الى تفعيل "إحدى الحسنيين" مقتفياً مشروع استاذه وابن عمه المرجع الفيلسوف المفكر محمد باقر الصدر الذي صفاه النظام واخته العالمة الاديبة المعروفة (بنت الهدى) في نيسان/ابريل عام 1980.

 طرح السيد الصدر الثاني آراءه مقروءة ومسموعة في  صلاة الجمعة بمسجد الكوفة الكبير. وانتشرت خطبه الصوتية وذيعت لقاءات الحنانة المصورة لتكشف جرأته المتميزة مما وضعه بين فكي كماشة نارية طرفها الفاتك صدام التكريتي والاخر الحاد تمثل بالمشككين والممتعضين. وثارت ضده العديد من الاراء والتهمة المسيسة داخل العراق متناغمة مع معزوفة النظام الصدامي، ومتصاعدة مع صمت الباقين عن مناصرة الصدر.

 وخارج العراق كذلك، في الساحات الشيعية التي تخبطت بمواقف هائجة ضد الصدر الثاني المتحدي لسلطان الرعب والجريمة المهيمن على العراق والمخيف لدول المنطقة مع لجم أرخبيلها بلجام الذل والخنوع رغم ما فعلته آلته العسكرية في حروب: الخليج الاولى (القادسية) وغزو الكويت وخفجي السعودية ومراحل حرب الخليج الثانية ومسميات الصحراء وثعالبها، وتهوره المتصاعد ضد دول الطوق دون استثناء.

 خطوات خطيرة جداً ارتقى ناصيتها الصدر الثاني، محطماً حاجز الصمت والخوف في نفوس ملايين الداخل، ومحفزاً عراقيي الخارج بعد ان تخاذلت وثبطت نفوس جمة جراء وقف حرب الثمان سنوات بين العراق وايران في 8-8-1988. وكلها خطوات "صدرية"  تسير بمتبنى تبدو اشكاله مشتركه تعود لتأريخ سلالة الصدر ونهجها الثوري المتفوق على همم الاخرين برجال علماء سجلوا اسطورة التحدي والاستعداد للتضحية في مراكز نزالهم في ميدان مواجهة الانظمة الطاغوتية وبطشها وجبروتها. ودون مغادرتهم تربتهم التي فيها جبلوا.

 شهد العراق ما هتف به جهاراً السيد محمد باقر الصدر- الاول- بقوله: "اني صممت على  الشهادة" بعد ان افتى بكفر حزب البعث، وهي جملة قرعت اصماخ العرب لتذكّر بصرخة جده الامام الحسين حين هتف بكربلاء: "هيهات منا الذلة". ليأتي دور الصدر الثاني محمد محمد صادق فيعلن ذات المشترك الثوري بارتدائه عباءة الموت (الكفن الابيض) ويؤم مئات الآلاف من المصلين بهتافات لم يسمعها أهل العراق الا في مدينة الكوفة منطلق الصدر الثاني.

 سجلنا في فترة ما بين تحرك الصدرين الشهيدين الاول والثاني، تتويج موقف حركي رائدٍ في لبنان على يد فتى الاسرة الصدرية العملاقة ذاك هو القائد المغيب السيد موسى الصدر الذي اشعل روح التحدي والمواجهة بتشكيله "المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى" في مايس عام 1969 كاشفاً عن دور رسالي وفق انساق حركية تتعاطى مع الواقع اللبناني نجح كثيرا في تخفيف حدة التناحر الطائفي المتعدد في لبنان وشرائحه المتخاصمة ضمن اطار لبناني موحد تجاوز الاخطار الداخلية وقاوم خطر الكيان الصهيوني المحاذي.

 لم يقف الصدر الثالث (موسى) عند حافة التشكيل الاسلامي، انما غار في عمق الحدث الملتهب فأوجد حركة "افواج المقاومة اللبنانية" التي عرفت بمنظمة (أمل اللبنانية) في تموز عام 1975 واستمر يوسع قاعدته الثورية ومقاومته لكيان اسرائيل حتى غيبه نظام القذافي في العاصمة طرابلس بعد ان حلّ ضيفا بزيارة رسمية في أب عام 1978 وتشير كل الدلائل على تورط القذافي شخصيا بتصفية السيد موسى الصدر إثر تصاعد نجم الصدر الثوري ومواقفه المناهضة لاسرائيل والمناصرة لمطالب فلسطين وحق المسلمين والعرب.

 آل الصدر.. أسرة علمية وجدت لتنجب مضحين، لهم قابلية ذهنية مدهشة في استكشاف مواطن خلل الامة واستنطاق حاجاتها. وبمنهج متميز تتزامن فيه مسارات العلم والتحدي والابداع في طرح مشاريع التجذير ورؤى فكرية وعقيدية حارت امامها الانظمة المتعاقبة وإهتزت لها ساحة النضراء في الحوزات العلمية.

 لازال لهذه الاسرة بقية ناهضة في بغداد/الكاظمية تقصده اعمدة السياسة والحكم والدين ووجوه العراق المعروفة، ذاك هو المرجع الفقيه السيد حسين اسماعيل الصدر ابن شقيق الصدر الاول وزوج ابنته. ويعد الصدر الرابع مع مشاريعه التي اعتمدت الحركة الفكرية والتثقيف على مبادئ احتواء التعددية باتجاه التسالم في عراق ما بعد صدام المشنوق. إذ لازال السيد حسين اسماعيل الصدر برغم ما انشأه من مؤسسات متنوعة وجامعات ومشاريع دينية وتربوية وتعليمية وفكرية وخدمية متعددة في العراق وخاصة في الكاظمية، يتطلع للمزيد من سبل نشر الوعي واللارجعة لعهد السكون والصمت والخواء وفق عقلية منفتحة على الاخر المسالم، وبفعالية لا تمل الحركة رغم الظروف العصيبة السابقة والحالية التي مرّ ويمرّ بها هذا لفقيه الكبير سواء في العهد العفلقي المنصرم أو يومنا. ورغم ما اشيع عنه وما استنفره نظام صدام ليجعل من الصدر الرابع اداة يصطبغ معها بنوع شرعية دينية. لكن وعي الصدر الرابع مكنه من بناء قاعدة جماهيرية في منطقته الكاظمية فأحياها بالعديد من مؤسساته ولينطلق منها الى عموم العراق وخارجه.

 حاول النظام وبطرق شتى الإلتفاف على الصدر الرابع السيد حسين، حتى انتشر أنه مع النظام، إلا أن الحقيقة المغيبة هي ذاتها التي غيبت عن الصدر الاول والثاني والثالث بأسلوب الفبركة والخدع السياسية، وهي ذات المؤامرة التي اراد صدام التكريتي إيقاعها بالمرجع الكبير السيد أبي القاسم الخوئي حين اجبره على الظهور من شاشة تلفزيون بغداد عقب انتفاضة شعبان الشعبية عام 1991 ليدين الثوار.

 تعرض الصدر الرابع حسين الصدر الى إعتقال وتعذيب أديا الى حرمانه من نعمة النسل والولد، ذلك بقتلهم منابع الاخصاب في جسده وهو ما يفصح عن مدى خوف السلطة من نسل اسرة الصدر. وهو ما يدفع للاعتقاد بان السلطة كانت تردد مقولة سلطة بني امية حين قاتلت الامام الحسين عليه السلام بكربلاء: اقتلوهم ولا تبقوا لأهل هذا البيت باقية.

 

 مصطفى الكاظمي- ملبورن 19-2-2012

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2036الأثنين 20 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم