أقلام حرة

القاطع رأس أجدادي بالفؤوس (2) / مصطفى كامل الكاظمي

 يتوارد الإحتمال في المجال الديني لمعالجة مسائل الإجتماع والفكر والثقافة، بإعتبار ان الديني حاليا بات يضم الجانب التاريخي المتأرجح في العديد من قضاياه المصيرية بين الحقيقة وعدمها وبين ظهور جزء وضمور أو إخفاء جزء آخر. لذا يأتي البحث ضمن أنساق معرفية تتعامل مع التجربة الدينية والاجتماعية ومع مديات إنسجامها مع المبادئ لتتكامل النفوس البشرية بعد هدايتها.

 بدون هذه الانساق، فالقلق والإضطراب سيمضيان يهتزان في وجدان المسلم يعرضانه للضياع في خضم الأفكار الوجودية والرؤى المنحرفة وكذا المشاريع الإباحية المتفشية في عالمنا.

 ان التسليم لشريعة الله تعالى ينبثق من الايمان بتبدل الحال وعدم ثبات المُكـَوّن الطارئ المتقهقر، الذليل أمام الدليل المتزن الذي يحاكي بتحقيقاته المواريث بما فيها الديني، ويستنطق حوادث الماضي داخل محكمة الفطرة التي قدمها القرآن الكريم منهجاً هادياً مؤازراً لمنهج النبوة يؤز الطبع الانساني ويدفعه للتدبر والوصول بالتالي الى لعن مِدية الزيف ورفض عنف الأفكار التي صنعتها أدمغة التكفير والتخلف.

 هناك أكابر علماء، منهم من غيّر مسار إعتقاده وسلوكه بنحو ما نتيجة بحث وفق مقدمات عقلية صحيحة. وموضوعنا هنا لا يعتني بتقويم النظرة التائهة في معترك الصراع العقيدي التأريخي بقدر ما يهتم بوضع لمسة إستلتها قدرتنا المحدودة من خلال قراءتنا لحوادث تأريخنا كمسلمين لنحدد ما إذا كان الإخلاص أم البراغماتية والمنفعية بأحقادها وظلاميتها هو المحرك للتفكير الهش العاكف على مبتنيات فيها الخلل مهين. أم ان هناك خفايا تدفع لتبني الموروث كضرورة حتمية لا نقاش فيها مع ما فيه من فتك وفناء للآخرين!؟ أم هو مجرد الجمود على ظاهر المتوارث عن الأجداد؟

 أثبت الإسلام أنّ لنظريته ثوابت يرتكز عليها التطبيق في حركة الدين وإنتشاره عبر عقول راشدة متدبرة تتطلع للكمال، برهنت على مناهج قدمتها نقية للانسان السوي كي لا يضلّ ولا يشقى. يمكن عرض الشواهد الهائلة على نوعية هذا التعاطي الواقعي من لدن رسول الإسلام صلى الله عليه وآله ومعه جمع غفير من أصحابه ينسجم تماماً مع إنقياد من أخبره الرسول الصادق الامين بأن خاتمة حياته القتل في محراب الصلاة، فكان المنقاد يتساءل وهو مُطلقٌ التسليم: وأنا على بيّنة من أمري وسلامة من ديني يا رسول الله؟

 ههنا يفيدنا التاريخ.. ومن هنا تزودنا دراسة أحداثه بمصاديق تؤيد المعنى. فعليّ بن ابي طالب عليه السلام هو خليفة المسلمين آنئذٍ، رآه الصحابي عبد الله بن العباس مشغولاً بإصلاح نعله، فقال له عليّ: "يابن عباس كمْ تساوي هذه النعل؟" أجاب بن عباس: بعض درهم. فقال الامام عليّ عليه السلام:

 "والله لإمْرتكم هذه أزهد عندي منها إلا أن أُقيم حقاً أو أدفع باطلاً"

 فالمحصلة عند عليّ عليه السلام تتمثل في إقامة الحق بين الناس ودفع الظلم.

 وكذا كان مبدأه عليه السلام حين إقترح عليه المغيرة مداهنة معاوية بن أبي سفيان وابقائه في منصبه والياً على الشام لحين إستتباب الخلافة له ثم يعزل معاوية. فيرفض الخليفة عليّ مشدداّ على ثوابته التي لم يجرؤ الدهر على طيّها وقولبتها بقالب التشويه كما حاولت وفشلت أروقة السلاطين برغم ضراوة الظرف ومحاولات طمس الحقائق. فقد قال عليه السلام للمغيرة:

 "والله لا أدهن في ديني ولا اُعطي الدنيّ في أمري".

 الآن.. بين يدينا روايات يصعب حصرها، صدرت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وهي تؤكد إستقرار الثابت في جميع مواقف عليّ عليه السلام. فقد روي عن أم سلمة زوج النبي قولها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:

 "عليّ مع الحق والحق مع عليّ ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة"[2]

 وهذا ابن حجر يروي في الصواعق المحرقة الصفحة 80 طبعة مصر:

 أن علياً جاءه ابن ملجم يستحمله فحمله ثم قال عليّ: "أريد حياته ويريد قتلي" ثم قال: "هذا والله قاتلي" فقيل له: ألا تقتله... إذا كنت تعلم أنه قاتلك فاقتله؟

 فقال عليّ: "لا يجوز القصاص قبل الجناية".

 من منطق الإتزان هذا، وكذلك من ثنيات نقيضه منطق القتل على الظنة والشبهة والتهور الذي عج به الماضي ولاتزال تعج به مؤسسات دينية معروفة اليوم، من اؤلئك تظهر أهمية دراسة الوقائع التأريخية ومواقف الأجداد الإيجابية والسلبية معاً. فإنّ تقفي آثار الماضين ودراستها سيهتك شبهات كثيرة لاتزال مؤسسات حكم ومناهج دينية تتمسك بها مستميتة سواء في العبادة أو السلوك والمعاملات.

 الشريعة بعقائدها السليمة لها قابلية التمدد والبقاء كقيم تحارب التخلف لتجذّر المُثل في التسالم والخير. وعقيدة المسلم اليوم تحتاج لمعالجة المغلوطات في الموروث ومن ثم إشعار الأمة بعلل تشرذمها والأسباب التي صيرتها شيعاً وأحزاباً وكلّ حزبٍ بما لديهم فرحون.

 ان معالجة القضايا العقدية الساخنة لابد أن تكون بطريقة متسقة بمساحة الود والإقتداء برواد الإصلاح والابتعاد عن مناهج التشنج والإنزواء لإحلال الجدل الهادف بمناقشة هادئة ونظرة متبادلة.

 يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

 "الإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك من الكفر وأضيفوا إلى الإيمان".

 ويقول أبو حامد الغزالي وهو أحد أبرز أئمة الأشاعرة في حديثه عن الفرق:

 (هؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد والذي ينبغي أن يميل إليه المحصل الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا اله إلا الله محمد رسول الله، خطأ).

 هذا فيما يحذر القرآن الكريم من السلوك الظالم بقوله تعالى:

 "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ"[3]

 وفي آية أخرى يقول الله جلّ شأنه:

 "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا"[4]

 ذلك ان إرادة المؤمن محكومة بضوابط تكبح جماح الغضب وتهذب ردة الفعل، فالمؤمن لا يجور ولا يظلم بحال. ومن الكوابح قوله تعالى:

 "إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[5]

 مع وجود هذه الاوامر الواضحة المانعة والإلزامات التي من شانها ترشيد النفس المؤمنة بالله ولجم جنوحها وكظم غيضها وسلخ فروة الاحقاد، إلا انك تجد شرائح كبيرة تدّعي الإيمان سلوكاً لكنه ينشط لتعظيم مواريث تأريخية ليس لها نصيب من التقدير والحقيقة، فتنطلق مثلاً قرائح المدح لشخصية تأريخية دون استحقاق بل مستحقها الثلب والنبذ. ومع عدم معارضتنا لهذا المديح لكن مؤاخذتنا تتعالى ضد تثوير بركان التكفير وإطلاق فتاوى قطع وتين المطالب بمناقشة التأريخ لمعرفة حقائق تلك المعظمات والمقدسات وأدواتها.

 تتفق العقول على أن أكثر ما أضرّ الاسلام هو الولائج المتمسكة بالأقاويل والمحكيات دون دراية وبغير تحقق، وهو خطلٌ طحن أضلاع الدين وفتك بأوصال المسلمين منذ وقت بعيد، وأن أكثر مشايخ الدين ممن يستفزهم هذا الإستفهام المشروع، وهذه القراءة النقدية قد إخترعوا منهج تكفير الناقد وقمع المستقرئ وتصفيته للحفاظ على بقاياهم. في وقت هم أنفسهم يروون للناس أن النبي صلى الله عليه وآله يقول:

 "شيبتني آية في سورة هود: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" الاية 112.

 فالنبي الأقدس لا يمكن أن يشيّبه القسم الأول من الآية، بدليل قوله تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"[6].

 فنبي الإسلام محمد سيد الإنبياء والمرسيلن بعث: "رحمة للعالمين" وهو الهادي والمبشر وهو الإستقامة ومعدنها- لا يختلف عليه مسلمان- انما الذي شيّبه: "ومن تاب معك" والمعني بهم أصحابه وأتباع رسالته. وهو ما يتلمسه القارئ من منطوق الآية وما جاءت به التفاسير وشروح الأحاديث الشريفة وكذا يقرّ به الوجدان.

 فمعية النبي عليه السلام واتباعه مأمورون بالإستقامة والإتزان وتقصي الحق دون ضوضاء بعيداً عن ضجيج التسقيط والتكفير. فالمسلم يمتلك كماً مذهلاً يملأ خزانات المؤسسات الثقافية والدينية ومكتباتها الفكرية والعلمية. وأكثر منه أحاديث ووقائع تأريخية، لكنه وللأسف لم ينهض بتحقيقها إلا نفر من صلحاء الدين وعظماء الانسانية ليعالجوا مشاكل الإختلاف. وقد أمليت تلك المستورثات على عوام الناس بعواهنها وما فيها من الدخيل والسقيم والموضوع دون أن يتكلف الديّنون المعنيون عناء البحث ومتابعة تحقيقات الصلحاء.

الى حلقة ثالثة حيث الموضوع ان شاء الله..



[1] سورة البقرة الاية 93

[2]  الحاكم في مستدرك الصحيحين الجزء الثالث الصفحة 124 وصحيح الترمذي الجزء الثاني الصفحة 298.

[3]  سورة الشورى الاية 42

[4]  سورة الاحزاب الاية 58

[5]  سورة العصر الاية 3

[6]  سورة ن والقلم الاية 4 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2101 الاربعاء  25 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم