أقلام حرة

القاطع رأس أجدادي بالفؤوس (3) / مصطفى الكاظمي

  لم تتوقف الانسانية يوماً عن التعرف على مواقف النبل عند العظماء، لذا سيترك التحقيق أثره في طبع الحياة بمناهج العظماء وإشاعة السلم والدعوة الى مبادئ الإيمان. ومنها هذه الحادثة التي جرت مع الأمام أبي الحسن موسى الكاظم وهو من أحفاد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام:

 كان في المدينة رجل من أولاد بعض الصحابة يؤذي أبا الحسن موسى الكاظم ويسبّه إذا رآه، ويشتم علياً، فقال له بعض حاشيته من الهاشميين يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم- الامام- عن ذلك أشد النهي وزجرهم، وسأل عنه فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه فوجده في مزرعة له... ونزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: "كم غرمت على زرعك هذا؟" قال: مائة دينار. قال: "كم ترجو أن تصيب" قال: لست أعلم الغيب. قال: "إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟" قال: أرجو أن يجيء مائتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال: "هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو". قال: فقام الرجل فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف.

 قال: وراح- الإمام- إلى المسجد، فوجد الرجل جالساً فلما نظر إليه، قال- الرجل: "اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ"[1]

 قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضيتك قد كنت تقول غير هذا؟ قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن عليه السلام، فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجلسائه الذين سألوه في قتله:

 "أيهما كان خيراً ما أردتم أم ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت شره"

 كثيراً ما يشدد الإسلام على أن تكون ردة الفعل بعيدة عن الميول والتعصب بإعتبار الحاكمية لموازين الشرع ويجب ان يكون السلوك في الازمة وفقاً لهذه الحاكمية. وقطعاً فإن هذا يوجب تحري سبل البرهان وإجتناب متاهات الظنون.

 قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله".

 وفي القرآن المجيد قوله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"[2]

 فالجدل الموضوعي والنقاش الهادف الذي نتأمله في القصص القرآني والذي اشتد بين أنبياء الله وخصومهم تمخض عن ظهور وانتشار مبادئ الأنبياء عليهم السلام، وقدم ثمار المجاهدة لإنسان الأرض. وعليه إنتهج الصلحاء هذا المسلك.

 عن الامام جعفر الصادق يحدث عن أبيه عن جده عليهم السلام أنه قال:

 "وقع بين سلمان الفارسي رضي الله عنه وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟

 فقال سلمان: أما أولي وأولك فنطفة قذرة وأما آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ووضعت الموازين فمن ثقل ميزانه فهو الكريم ومن خف ميزانه فهو اللئيم"

 إذن البحث في العقائد مع تقديم الدليل، يرتجى منه تحصيل حاصل الهداية. وهذا قول الله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ"[3]

 فبدون التعرف على الحقيقة وبغير برهنة صحة ما نعتقده لا يمكن وقاية أنفسنا وأهلينا من نار جهنم.

 من هنا، فحينما نذكر حسنة لصحابي أو سيئة لآخر مع سطور عن سيرتيهما التأريخية، ثم عرضهما بمدح ذي الحسنات وإجتناب صاحب السيئات لا يعني اننا ندعو الى تأصيل إختلاف مذهبي أو طائفي، بل ان إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بصورة منطقية والوقوف عند حوادثه ومصنفات الحديث فيه تكشف لنا طريقة مثلى لإستنطاق الوقائع ومعرفة الأخطاء الحاصلة لإستنهاض الحقائق المغيّبة.

 لذا فالقراءة بآلية مناسبة ستقدم أنساقاً عقدية ورؤية صادقة ستلقف ما يأفكه التحجر وستردع التسلط. وبدونها سيستمر الماضي بتناقضاته المفرخة لجماجم الجشع والوباء الفكري العابث بالانسان، والفاتك بالمسلمين كهوية ورسالة.

 كما ان تراكم الأرثي لدى مدرستي الاسلام الكبيرتين*[4] يعاني من نقص حاد في المعالجات الجدّية في إطار التنقيب المعمّق كي تنهض الأمة بمنظومة قيمية تتأمل محتوى ذلك وتردّه بالنتيجة لمصدره الطبيعي.

 يمكننا اجراء المعالجة وتشذيب نصوص التأريخ من الدخيل الذي تمسلك الينا عبر أجيال من الخمول، وتهذيب النصوص من السقيم الذي أضناها دهوراً بما ينافي مبادئ رسالة النبي صلى الله عليه وآله. بيد أن نجاح العملية يعتمد على تسليط الضوء الكافي ليصل الى قلب الحدث المغيّب تأريخياً ويستنقذه من مخالب الغمط التي عرضته بصورة مشوهة يتمسك بتلابيبها اليوم كثيرون.

 إنّ تغييب الحقيقة التأريخية خيانة للأمانة التي حملها الإنسان. ومشكلتنا في أنّ جلّ المسلمين لا يعرف عن ماضيه وتراثه الا النزر ولا يعي الا ما قدمته الخيانة التأريخية التي لم تقدّر قيمة الأثر والحضارة. فعرض المدلسون بضاعة مزجاة في الطرف الأقصى وبضاعة ملوثة من الطرف الأدنى بدلاً من بضاعة الإسلام الأصيلة. ولم يكتفوا حتى أوقفوا تأريخ الخلفاء مثلاً وكل ما صدر عنهم من فعالهم وفعال تابعي تابعيهم فأوجبوها مقدسة لا دنس فيها ولا أذن لمن يريد تقليبها وتقييمها ونقدها نقداً يعود بالتاريخ الى حقيقته والى جذره الأول.

 أيضا، فقد وجدنا المتمسكين بنظرية عدالة جميع الصحابة إنما تقف مصلحتهم مع هذه النظرية، فلا يرتضون مناقشة الصحابة والوقوف على ما صدر منهم ومقاضاتهم وتقييمهم وفق قوانين الشريعة بالادلة العقلية والتأريخية، لسبب بسيط انه سيطيح بنظريتهم فيتهاوى البناء القائم عليها.

 ان خلاص الامة يكمن بنقد الاسلوب القديم، واستبداله بالمنطقي المترفع عن جلجلة التطرف وثرثرة فقهاء التخريف الذين يحسبون جلجلتهم فتحاً لا يقاربه فتح. فالجمود على طغية السلف تحجر وتصحر فكري دون ريب. ولا نختلف في ان الوعي رائده الدليل، وقرآننا يصرخ آناء الليل وأطراف النهار لإقتفاء الدليل، وهذا بطبعه يعارض: وجدنا آباءنا على ملّة وإنا لآثارهم مقتفون! فالواعي الواقعي هو ابن الدليل، يميل معه حيث يميل. وحيث لا تنفع تغليفات التطرف القائلة بطيّ صفحة الماضي بكل تركاته وثقلها المرير، اذن لابد من كسر الأطر العتيقة واختراق حواجزها الحمراء للبحث عما تتضمنه وتخصّبه.

 الأخطر أن تطلق الاحكام جزمية بكل ما يتصوروه مقدساً لا يحق السؤال عنه بكيف ولماذا وبمَ ولمَ. وهو عند المؤسسة التي تتشبث بـ:

 [كلّ ما كان من الصحابة حقّ وإن فسقوا وتعاقروا الخمرة. وان كلّ ما صدر عنهم إيمان وإن قتلوا أهل الملة والانسانية! وكلهم في الجنة وإن نصبوا السيف والقنا لأهل الشهادتين. وكلهم راضون مرضيون قاتلهم ومقتولهم، حصيفهم وسفيههم، زانيهم وعفيفهم، المجاهد لأعداء الله الثابت في الحرب مع من ولّى الدبر هروباً الى قمة الجبل من سيوف أعداء الله تعالى].

 والى حلقة رابعة ان شاء الله تعالى



[1]  من الاية 124 سورة الانعام

[2]  سورة النحل الاية 125

[3]  سورة التحريم الاية 6

[4] * نعني بالمدرستين: الجناح المتمستك بالنص في تشخيص الخلفاء وهو ما تتبناه الطائفة الشيعية وبالذات الامامية الاثنى عشرية منهم، والجناح الاخر هو المتمسك بنظرية الشورى التي تتبناها مدارس اهل السنة عامة.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2106 الأثنين  30 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم