أقلام حرة

المشهد الكوردستاني الحزين وثقافة المقابر الجماعية في العراق / سامان سوراني

من قبل الأنظمة الشوفينية التي كانت متمترسة وراء الهويات وعسكرة المجتمعات والتي مارست التهويل الايديولوجي بأعتبار الآخر المختلف "جيب عميل" ومصدر "المصائب والشرور".

هذا المنطق الضدي قام برمي المسؤوليات عن أخطاءه وكوارثه الجسيمة عل? الآخر المختلف للتهرب من القيام بأعمال المراجعة النقدية والمحاسبة العقلانية، والحصيلة كانت التستر عل? الأخطاء والكوارث لتفعل فعلها بصورة مضاعفة. فتم تحويل الثوابت والشعارات العنصرية بصورة تدريجية ال? أصنام تعبد وأقانيم تقدّس.  

بالأمس أصبحنا شاهد عين لمشهد كوردستاني حزين، إذ جرت بحضور الرئيس مسعود بارزاني وجمع غفير من ذوي الآخر المختلف مراسيم لدفن رفات 730 إنساناً تعود لضحايا مسالخ الأنفال والإبادة التي أكتشفت في مقبرة مهاري الجماعية في الديوانية (181 كم جنوب العاصمة العراقية بغداد). الضحايا هم مواطنين كورد مسالمين من ناحيتي قرهنجير وقادر كرم الكوردستانية دفنهم النظام البعثي اللاإنساني أواخر الثمانينيات من القرن الماضي أحياء في صحاري العراق الجنوبية، لكي يرفع من شأن دعواته العنصرية والفاشية في التطبيع والقولبة أو في التطهير والتصفية ول?ي ينفذ برامجه الإمبريالية والشمولية في "عراق البعث العربي".

مسالخ الأنفال والمجازر الجماعية التي نفذها نظام البعث بحق الكوردستانيين خلال الفترة من 23 شباط 1988 ال? السادس من أيلول نفس العام يمكن أن تعرّف بواحدة من أكثر صفحات القمع الحكومي وحشيةً وعنفاً في تاريخ العراق الحديث. فسيادة أفكار العنف والقسوة في العراق خلال العقود الثلاثة التي سبقت مسالخ الانفال هيأت الأرضية لسياسة قلع جذور الآخر المختلف وإلغائه وحدوث مثل هذه الجرائم المرعبة.

وما دفعني أن أكون فخوراً بعوائل الضحايا كإنسان هو عدم رفعهم شعار الثأر لضحاياهم بل مطالبتهم بالمحاكمة العادلة لكل من شارك في هذه العملية الإجرامية وكل من مهّد الطريق لتنفيذها من فيالق الجيش النظامي العراقي (الفيلقان الأول والخامس) والقوات الخاصة والقوة الجوية العراقية وصنوف الحرب الكيمياوية والبيولوجية وكذلك الميليشيات الحزبية وقوات المرتزقة ودوائر الأمن والمخابرات والاستخبارات العسكرية.

نعم إن زمن العقل الأمبراطوري في هذا العصر، عصر الإنسان الرقمي والفاعل الميديائي قد ولّ?، نحن الآن في مرحلة إصلاح هذا العالم، الذي لا يحتاج بعد الآن ال? عقل أحادي، تحكمي، إنفرادي ليحكم بلاده بعقلية ما قبل عصر الزراعة. لنساهم ?مؤمنين بأسس الديمقراطية بشكل بناء في بلورة قيم جديدة للشراكة البشرية، لأن المواقف المتطرفة والحلول القصو? وإدعاءات القبض عل? الحقيقة وتجسيد القيم وإحتكار التمثيل للوطن، كما يسع? اليوم بعض من الذين يرأسون الحكومة الفدرالية في سبيلها، تعيد إنتاج المآزق أو صناعة الكوراث وتدعم ثقافة المقابر الجماعية. ول?ي لا يتكرر الجرائم التي مورست بحق الشعب الكوردستاني في الماضي القريب يجب أن تكون القيادة الكوردستانية حاسمة مع من يريد أن يعيد سيناريوهات الماضي الأليمة ويقوم بالعودة ال? الأوراق القديمة. عل? القيادة الكوردستانية رصّ الصّف الكوردستاني والعمل الدؤوب من أجل تقوية سياسة الاحترام المتبادل بين كافة الأطراف والمكونات الكوردستانية والعراقية والإهتمام بالتعرف على الضحايا والتعامل العلمي مع القبور الجماعية والضغط عل? الحكومة العراقية المؤمنة بالدستور لتنفيذ قرارات المحاكم العراقية ومجلس النواب بتعويض ضحايا الانفال والابادة الجماعية.

وعل? الحكومة الاتحادية الإبتعاد من العقليات والمذاهب أو المقولات والتصنيفات أو السياسات والإستراتيجيات التي تصب في مصب الفكر القوموي لكي تولد المآزق وتلغم المشاريع الفدرالية أو لكي تحيل الحياة في العراق ال? حقول ألغام. فما عاد يجدي أو يثمر تدبير العراق بعقلية وحدانية يدعي أصحابها إحتكار المشروعية الدستورية، وإنما يجب أن تدار بعقلية الشراكة ولغة التوسط وسياسة الإعتراف بالآخر المختلف وتعدد الأبعاد ومنطق التحول، كما هو شأن العقلانية التداولية بطابعها التركيبي، المرن والمفتوح عل? تعدد المقاربات والمستويات والمجالات والإختصاصات سواء عل? المستو? الإتحادي أو الاقليمي.

مرة أخر? نقول بأن الواقع العراقي لا تجدي إدارته بالمنطق القوموي ولا بالنظام الاستبدادي أو بالعقل الصولي أو النخبوي، بل بالفكر المتمرس بعقلانية جديدة مرنة تصدر عن الإحساس بالمسؤولية تجاه ضحايا العقل الشوفيني وتؤمن بلغة الحوار والتسوية أو بمنطق الشراكة الحقيقية والمداولة. الدستور يجب أن يكون الحاكم والضامن أيضاً لحقوق شعب كوردستان، لكي لا يستطيع رئيس الحكومة الإتحادية أو حزب من الأحزاب خرق أسس الديمقراطية. لماذا عدم الإعتراف بالحقيقة القائلة، بأن الوصاية الحصرية والأحادية أو النبوية الرسولية عل? الوطن والقيم قد فشلت، كما يمارسها الذين يدعون إحتكار النطق بأسم العراق أو تمثيل هويته حصراً، لأنهم لا يملكون الجرأة عل? كسر نرجسيتهم المذهبية والزحزحة عن مركزيتهم القومية، للخروج من قوقعتهم وتهويماتهم الإصطفائية.

وختاما: "إذا ظل ثقافة وسياسة تدمير الحس والوجود الكوردستاني قائمة في العراق الفدرالي، فسيكون التعبير عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والشراكة والإعتراف بالآخر المختلف في هذا البلد ضرباً من ملاعبة الأفاعي السامة"

د. سامان سوراني

 

في المثقف اليوم