أقلام حرة

جدل سياسي: النظرية (4): حرب النظريات الإعلامية على الشعوب / صائب خليل

الذي يريده ويجعلنا نصدق الروايات غير المعقولة التي يريدنا تصديقها. والنظرية كما أشرنا في الحلقة السابقة، تعمل بدون وعينا وتتجاوز بذلك حذرنا المنطقي وقياسنا في ماهو معقول وغير معقول. وقد اختتمنا المقالة السابقة بقصة جون كندي الذي طلب من وزير خارجية المكسيك تعاون بلديهما بوجه "الخطر" الكوبي، فأجابه الوزير: أكون سعيداً لو استطعت تلبية طلبك، لكننا إن قلنا للمكسيكيين أن كوبا تشكل خطراً عليهم، لمات 50 مليون مكسيكي من الضحك". يذكر هذه الحادثة البروفسور الأمريكي نعوم جومسكي، ثم يتساءل قلقاً: "لماذا إذن لم يمت أي أمريكي من الضحك عندما يصورون لنا أن كوبا تمثل خطراً على الولايات المتحدة ذاتها"؟ وسبب قلق جومسكي من "الإمتناع عن الضحك" لمثل هذه الأقوال غير المعقولة، أنه يدل إلى أي مدى تم غسل أدمغة الشعب الأمريكي بـ "النظريات" الخرافية التي روجها الإعلام العلمي القوي في بلاده، فصار الناس يقبلون ما ليس معقولاً.

 

فالإعلام لا يوجه أسلحته إلى الخارج دائماً، فإعلام الإدارات الأمريكية الموجهة من قبل رأس المال، يعتبر بلا شك أن الشعب الأمريكي هو أكبر أعدائه والخطر الأكبر الذي يهدده. لقد ظهرت في أميركا عدة فترات شعر فيها رأس المال بالخطر، ولذلك بحث عن حل، فأنشأ صناعة "العلاقات العامة" خلال سنوات العشرينات والثلاثينات المضطربة من القرن الماضي، وارتفاع وعي العمال بحقوقهم وخطر النظام الرأسمالي عليهم عندما ضربت الهزة الإقتصادية الكبرى العالم بعد عقد واحد من نهاية الحرب العالمية الأولى، وبدا أن حل الإضرابات بالعنف لم يعد مجدياً فجرى البحث عن حل آخر، والكلام التالي عنها مقتبس من البروفسور جومسكي، خير من كتب عن التاريخ الحديث لأميركا وحلل مؤسساتها، وقد تُرجمت إلى العربية العديد من كتبه القيمة.

 

لقد تمت دراسة المشكلة من قبل منظمات رجال الأعمال مثل “المائدة المستديرة الوطنية للصناعيين ورجال الأعمال” (National Association of Manufacturers and the Business Roundtable) والتي صرفت مبالغ خيالية في وقتها على الموضوع. وقد جربت نتائج الدراسات، والتي سميت فيما بعد بـ “وصفة وادي موهاوك” (Mohawk Valley formula) بنجاح كبير في سحق الأضراب العام لصناعة الحديد الصلب عام 1937 في بنسلفانيا، وبلا عنف, بل بجهاز اعلام دقيق التنظيم والفعالية يسعى لتوجيه الرأي العام ضد المضربين وتصويرهم كمجموعة مثيرة للشغب وضارة بالمجتمع. واطلق على تلك الدراسات اسم “طرق علمية لكسر الإضرابات”. من اجل ذلك كان يجب تصوير “الصالح العام” باعتباره “لنا جميعاً”: رجال اعمال, عمال, ربات البيوت..الخ. “نحن” جميعاً نبغي التعاون معاً في انسجام, وبـ “امريكانية” (Americanism) ولكن هناك المضربون السيئون المشاغبون الذين يخربون انسجامنا ويتصرفون بالضد من “امريكانيتنا”. علينا ان نوقفهم لكي نتمكن من العيش بسلام. تلك كانت الرسالة الأساسية، وقد خصصت جهود إعلامية ومالية جبارة لإيصالها الى الناس. ونجحت “وصفة وادي موهاوك” نجاحاً ساحقاً واستعملت بعد ذلك تكراراً لتحطيم الإضرابات العمالية

 

في كتاب “إعاقة الديمقراطية” (Deterring Democracy)، (مترجم من مركز دراسات الوحدة العربية) يكتب جومسكي عن الصورة الإعلامية التي بناها الإعلام الأمريكي: “الهيكل الأساسي للموضوع له بساطة حكايات الأطفال: هناك قوتان متقابلتان في العالم, احدها قوة شر مطلق والآخرى خير سماوي, ولا مجال للتفاوض بينهما. القوة الشريرة تسعى بطبيعتها الى السيطرة التامة على العالم, لذا وجب التغلب عليها واقتلاعها والقضاء عليها لكي يتمكن بطل كل ما هوخير، من البقاء واتمام مهامه الرفيعة. “الكرملين مصمم اساساً” كما يكتب باول نيتز في وثيقة حكومية اساسية (NSC 68 ) “لكي يحقق التدمير التام الإجباري لماكنة الحكومة وللهيكل الإجتماعي” في كل مكان لم يخضع له بعد. وعلى العكس من ذلك فان “الغاية الأساسية من الولايات المتحدة” هي “لتوكيد تماسك وحيوية مجتمعنا الحر المؤسس على الكرامة والقيمة الشخصية”

 

ونجد الصورة التي يحاول نفس الإعلام اليوم تشويه صورة المسلمين بها مطابقة تقريباً لتلك القديمة، مع بعض التحويرات الضرورية لأخذ التطور العالمي في الوعي، بنظر الإعتبار. فلم يعد ممكناً أن يعتمدوا على مقولات بأن الشيوعيين يأكلون لحوم أبناءهم، كما قالوا للشعب الإيطالي في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يكن أيضاً ممكناً الإعتماد على الإعلام وحده في تصوير المسلمين كإرهابيين، فلا بد من تقديم بعض العمليات التي توحي بذلك، وكانت هناك دلائل قوية وواضحة على أن الإرهاب في العراق، تماماً مثلما كان في اميركا الجنوبية، إرهاب أمريكي، ولكن الساسة والإعلام الداخلي في أي بلد كان يتجنب تلك الرواية. ومؤخراً فقط بدأ بعض السياسيين ورجال الأمن العراقيين في التجرؤ على القول بارتباط أميركا بالإرهاب وأنه تم إمساك أميركان وبريطانيين متورطين،(1) وقد طمست تلك الحقائق في وقتها تماماً، إلا حادثة إمساك البريطانيين في البصرة عام 2006، حيث افتضحت ولم يكن بالإمكان طمسها. كذلك كشفت أخطاء خطيرة في تنفيذ بعض العمليات، أن الإدعاء بأن وراءها "حقد إسلامي" كان مفتعلاً، مثل مذبحة كنيسة سيدة النجاة في العراق.

 

ويعمل الإعلام على بناء النظرية المناسبة غالباً بالإيحاء، فهو لا يقول مباشرة أن أميركا غير مسؤولة عن الإرهاب، لكنه يوحي به. فمثلاً قرأت في صحيفة “الصباح” : ” لسنا مع الاحتلال ونأمل بانسحاب سريع للقوات المتعددة الجنسيات، لكننا نقول ان الخسائر الناتجة عن الاحتلال لا تعادل واحدا بالمائة من الخسائر التي خلفها الارهاب والارهابيون". وفي العبارة تثبيت ضمني أن الإحتلال والإرهاب منفصلين تماماً.

الإسئلة نفسها تستطيع أن توحي بالكثير. يسأل الصحفي جومسكي: "هل تعتقد أن أميركا تقوم بعملها بشكل صحيح في محاربة الإرهاب بكفاءة؟ ما برأيك على أميركا أن تفعل من أجل محاربة الإرهاب بأفضل طريقة؟" وهذا السؤال البريء الشكل يقدم "نظرية" تدخل الدماغ دون أن تحس بها، وتقول "أميركا تريد محاربة الإرهاب..إنها عدوته"، ربما تخطئ، ربما لا تعرف لكنها عدوته. إنه مثل عبارة "الصباح" أعلاه في تأثيره الحقيقي. جومسكي لا يقع في الفخ، ويجيب ببساطة رائعة: "بالتوقف عن المشاركة فيه!" لكن المتلقي الإعتيادي لا يستطيع دائماً رؤية ما يراه هذا الرجل العبقري.

أن العمل من خلال اللاوعي، يجعل النظرية صعبة الإكتشاف. ويمكن أن يتورط في المشاركة ببنائها أناس لا علاقة لهم بها وبدون علمهم، حين لا يلتزمون الحذر. فالدعوات البريئة الى تجنب العنف بين المذاهب والتفاهم بين الأديان، والتي يقوم بها الكثير من المخلصين، هي في حقيقة الأمر، سواء علم القائمون بها أم لا، عملية بناء لنظرية أن الإسلام وراء العنف! هؤلاء الدعاة لا يدخلون في التفاصيل التي قد تكشف خطأ الفرضية، وإنما يبقون في العموميات السليمة، لكنها تقوم ضمن الوضع العام، بالمساهمة في إلقاء تبعة العنف على المسلمين ضمناً.

 

قلنا أن "النظرية" التي يتبناها المرء، تقوم بـ "تزييت" مسار الفكرة المناسبة إلى دماغه، فتنزلق بلا مساءلة، بينما تضع عراقيل كبيرة أمام الأفكار المخالفة لها. وحين أصبح الإعلام الأمريكي إعلام الدقيقة الواحدة، أو البضعة دقائق، حيث يتم سؤال الشخص أن يقدم رأيه في وقت قصير جداً، لأن التلفزيون مستعجل، فإنه قد صمم لخدمة إعلام "النظرية" التي تم بناؤها.

عبر جومسكي عن الفكرة بطريقة اخرى جميلة حين كتب عن نظام الإعلام الأمريكي التجاري قائلاً : “لايحتاج المرء حين يريد استنكار العدوان السوفيتي على افغانستان ودعم الإضطهاد في بولونيا الى تقديم اية ادلة. لكن الأمر مختلف عندما يريد ان يتحث عن العدوانية الأمريكية في الهند الصينية او جهودها الرامية الى منع تسوية سياسية للصراع العربي الإسرائيلي الممتد لسنوات طويلة”

 

لولا "النظرية" المبنية بقوة لما أمكن تمرير قصة خطر كوبا، وخطر بنما، ولا مفاهيم غريبة مثل أن

“القنبلتين الذريتين على اليابان كانتا “انسانيتان” باعتبار أنها "انهت الحرب التي كانت ستكلف من الضحايا اكثر من ضحايا القنبلتين لو استمرت!" وهو كلام فارغ، لأن اليابان كانت تسعى للإستسلام عندما ضربت ولم تكن هناك أية عمليات عسكرية تذكر. كذلك عبارة أن "حرب فيتنام الجنوبية كانت “دفاعاً” عن فيتنام ضد “العدوان الداخلي!” عليها, فلم يكن فيها روس لألقاء العبء عليهم. مثل هذه الأمور لا تدخل الدماغ بدون "نظرية" تساعدها على ذلك.

 

في حرب النظريات الإعلامية أسلحة مختلفة، فتلك التي توجه إلى نقطة معينة وتلك التي توجه إلى مجموعات كاملة من النظريات، أي يمكن اعتبارها "اسلحة دمار شامل"، ومنها فكرة "نظرية المؤامرة". وهي في الحقيقة محاولة لتثبيت التفسير الرسمي الذي يريده الإعلام ، وتجريد كل ما يخالفه من المصداقية، أو كما يقول جومسكي  "لردع أية محاولة للتحليل المنظم!"(2) لكن ذلك الموضوع بحاجة لمقالة مختلفة.

 

وقد يسعى الإعلام لتقمص "نظرية" جاهزة لدى شعب ما، - أسطورة أو إيمان ما أو خرافة أو حقيقة تاريخية – وربطها بالشخوص بالشكل المناسب لتخدمه، وهذه الطريقة بالطبع أسرع كثيراً، لكنها تحتاج إلى دراسة الشعب . في مثل هذا الوقت قبل اربعة سنوات نشرت مقالة بعنوان "تحليل المجتمع من أجل تمزيق مقاومته" (2) أشرت فيها إلى قصة حدثت قبل نصف قرن في الفلبين(3) التي كانت ثائرة على حكومتها التابعة لأميركا عام 1950، حين وصل إليها الكولونيل الأمريكي إدوارد لانسديل، والذي كان قد عمل سابقاً كرجل دعاية يقوم بدراسة بحوث السوق بما تتضمنه من دراسة دوافع الناس وعاداتهم. واستلم لانسديل سراً رئاسة قسم العلميات السرية والميليشيات في الـ (CIA) في الفلبين.

قام فريق لانسديل بدراسة تفصيلية للمعتقدات والخرافات التي يؤمن بها الفلاحون الفلبينيون الذين يتعاونون مع ثوار "ألهاك"، وفحصت اساطيرهم وتراكمات ثقافاتهم بشكل دقيق بحثاً عن طريقة لإبعادهم عن الثوار وشق صفوفهم. وكان من محاولاتهم الناجحة، القاء منشورات باللغات المحلية تهدد بنزول اللعنات الإلهية على كل من يقدم الطعام للثوار، من طائرة صغيرة في يوم غائم يحجبها عن الرؤية، لتبدو كأن الأوراق جاءت من السماء،. وبالفعل نجحت الفكرة ودفع الجوع ببعض وحدات الثوار إلى الإستسلام.

وفي مرة ثانية دخل فريق خاص بالحرب النفسية مدينة قريبة من تلال الثوار وأشاعوا فيها أن "الأسوانج" وهو مصاص دماء خرافي يؤمن به الريفيون الفلبينيون ويرهبونه، يسكن تلك التلال. انتظروا يومين لتصل ألإشاعة إلى الثوار، ثم قامت دورية من قوات خاصة بنصب كمين لمجموعة صغيرة من الثوار عرفوا مخبأها. وعند مرور هؤلاء قبض على آخر رجل في المجموعة دون أن يحس الباقون به. وتم إحداث ثقبين في رقبته، وترك معلقاً من رجليه حتى نزف كل دمه في إناء، ثم أخذ الدم و تركت جثته على طريق عودة رفاقه. حينما عاد الثوار وجدوا جثة صاحبهم صفراء وقد امتصت كل دمائها، وآثار "أسنان" مصاص الدماء على رقبتها، فاصيبوا بالهلع وسرعان ما تركوا المنطقة المحصنة! هكذا استفادوا من خلل في نظرية الثوار عن العالم.

 

هل حدث مثل هذا النشاط في العراق؟ نشر مقال في نيوزويك (4) يتحدث عن مشروع "نظام المنطقة البشرية" ووصف بأنه "يهدف إلى مساعدة القوات الأمريكية على تفهم الفروق الاجتماعية الدقيقة للمجتمع العراقي" تقوم من خلاله فرق من علماء الإنثروبولوجيا (علم الشعوب) لحساب الجيش الأمريكي، بدراسة معتقدات الشعب العراقي وعاداته ومفاهيمه الإجتماعية من خلال دراسة ما هو متوفر إضافة إلى المراقبة والمقابلات الشخصية والبحث في القمامة لمعرفة "أنماط سلوك" المواطنين وأسلوب معيشتهم وتفضيلاتهم وما يؤثر بهم. ويذكر أن جمعية الأنثروبولوجيين الأمريكية أعلنت أن المشاركين في البرنامج سينتهكون على الأرجح المبادىء الأخلاقية للمهنة إذا أقدموا على تسجيل أنفسهم في البرنامج. ولعل المستقبل يكشف لنا ما فعل هؤلاء بالفعل.

 

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&;id=22332#comment164761

(2) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/22flp.htm

(3)  http://www.imdb.com/title/tt0104810/quotes

(4)   William Blum: “Killing Hope” الفصل الرابع

(5)  ملايين الدولارات ينفقها الجيش الاميركي لتحليل مكونات المجتمع العراقي

http://iraqmc.com/modules.php?name=News&;file=article&sid=1653

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2225الثلاثاء 25/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم