أقلام حرة

"اللاعنف" هل هو منتج غربي؟ / عبد الحسين شعبان

وكأنه نوع من التعالي على الواقع بتعقيداته ومشكلاته وهمومه، لكن مثل هذا الاهتمام له ما يبرره، خصوصاً أن العنف لم يترك جانباً إلاّ ويهيمن عليه، ويقوم بتدميره . ومع ذلك فثقافة العنف لاتزال سائدة، الأمر الذي يحتاج إلى شجاعة استثنائية لاختيار اللاعنف طريقاً واعياً للتصدّي لمشكلات المجتمع .

 

 لعلّ أبسط ما يمكن أن تواجهه أفكار اللاعنف هو ردود فعل ستراوح بين السخرية والخيانة، ففي الأولى سيقال إنها أفكار مثالية وغير واقعية، الأمر الذي سيظهر دعاتها أقرب إلى اليوتوبيا، أما في الثانية فسيثير البعض عنها الكثير من الارتياب والشكوك، بل وسيعدها دليلاً للاستسلام والانهزامية، امتثالاً أو تواطؤاً مع ما تريده القوى الاستكبارية الغربية!

 

 لكن مثل ردود الفعل تلك ستكون قد حرّكت ما هو ساكن إلى درجة التحجّر أحياناً، لاسيما وقد أخذ التجاوب مع الخيارات اللاعنفية يشمل قطاعات غير قليلة، في حين ظلّ التردد سمة غالبة لآخرين تتقلّب بين خيارات اللاعنف وخيارات العنف، وأحياناً تستبدل الأولى بالثانية وربما يحصل العكس .

 

  ولأن مجتمعاتنا تعاني طغيان العنف، فإن الحاجة كبيرة جداً ليس إلى تعميم ثقافة اللاعنف تعويضاً عن استمرار فعل العنف، خصوصاً أن الجميع يعانيه، بل لجعل مثل هذا الخيار أمراً واقعاً ومقبولاً يمكن الركون إليه، وهدفاً ممكناً وقابلاً للتحقيق ويمكن الوصول إليه .

 

 ولأن العنف فشل فشلاً ذريعاً في أن يكون الحل للمعضلات القائمة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتاريخية والنفسية، فإن الكثير من دعاته انتقلوا إلى التبشير والدعوة لفكرة اللاعنف، بل إن بعضهم نبذ العنف وأسدل الستار على مرحلة كاملة من حياته استخدم فيها العنف أو أيّد استخدامه، خصوصاً عندما عدّه وسيلة لا غنى عنها لحل المشكلات، لاسيما بإرغام الآخر وإجباره على التسليم والخنوع .

 

ولعل العنف قادر على تلويث أية قضية نبيلة، حيث يقوم بتشويه طابعها الإنساني، وهكذا تتحوّل المسيحية بحكم العنف إلى محاكم تفتيش وحروب صليبية، والإسلام إلى تكفير وتأثيم وإلغاء للآخر، والاشتراكية إلى استبداد وطغيان، والتحرير من الاحتلال الخارجي، إلى احتلال داخلي، وكل ذلك تجاوزاً على أفكار العدالة والحق والخير والجمال والسلام، غاية كل عمل شريف وإنساني .

 

ولكن هل العنف مدان بالمطلق؟ وماذا لو حصل العنف كرد فعل بسبب الغضب أو حالات من اليأس والقنوط، على نحو عفوي وفردي ضد محاولات القهر والإذلال والاستلاب؟ وبقدر تفهّم الأمر إنسانياً، وهو ما يحصل باستمرار ولا يمكن الحؤول دونه، فهذا شيء، أما محاولة تبريره أو أدلجته، فهذا شيء آخر، إذ إن تمجيد العنف أو تبرير استخدامه لتحقيق الغايات حتى وإن كانت شريفة، فالأمر مختلف تماماً . وكان فكرنا السائد وثقافتنا المعاصرة تزخر بتمجيد العنف بمصطلحات مثل: »العنف الثوري« و»العنف العادل« و»العنف الدفاعي« و»العنف الطبقي« و»العنف التحريري« و»العنف الإنساني« .

 

ولعلّ من يصل إلى السلطة بالعنف سيحكم بالعنف، وتلك عبرة التاريخ، والحصيلة هي هزيمة العدل والحق والسلام، وكان ميكافيللي هو من أدلج فكرة »الغاية تبرر الوسيلة« في كتابه »الأمير« . أما غاندي فقد كان نقيضه، حيث دعا إلى توحّد الغاية مع الوسيلة حين قال »الغاية هي الشجرة والوسيلة هي البذرة . إن الغاية موجودة في الوسيلة، كما أن الشجرة موجودة في البذرة« .

 

لعل مناسبة موضوع هذا الحديث هو حوار ونقاش جدي، مع مسؤولين رسميين في إقليم كردستان العراق بينهم وزراء التعليم العالي والتربية والعدل والداخلية والمعهد القضائي الأعلى، ونخب فكرية وثقافية وسياسية كردية وعربية عراقية بينها رئيس جامعة صلاح الدين ورئيس جامعة كردستان، وعميدا كلية القانون والسياسة (أربيل) وكلية الآداب لجامعة بابل (الحلّة)، خلال زيارة وفد جامعة اللاعنف . وكان الصديق جان ماري مولير الفيلسوف الفرنسي الذي رفض الخدمة العسكرية في الجزائر ودخل السجن بسببها، كثيراً ما يردد في حواراته وفي محاضراته وآخرها في دار آراس بأربيل: إذا كنّا لا نستطيع التحكّم بالغايات، فبإمكاننا التحكّم بالوسائل، وهذا سيعني التحكّم بالغاية من خلال الوسيلة، فالغاية هي مجردة، أما الوسيلة فهي ملموسة، وفي حين تُعنى الغاية بالمستقبل، فإن الوسيلة تُعنى بالحاضر .

 

أما المفكر العربي اللاعنفي وليد صليبي، ففي كتابه التأصيلي لفكرة اللاعنف »نعم للمقاومة، لا للعنف«، فإنه يَعد الوسيلة هي المعيار الأساس لشرف الغاية، حيث يقول: تبدو الغايات جميلة وكأنها متشابهة، لكن الفرق يكمن في الوسائل، فهي المقياس الوحيد لتقويم الأفكار والغايات التي تسعى إلى تحقيقها .

 

  وبهذا المعنى سيكون هناك تلازم عضوي بين الغاية والوسيلة، وتلك مسألة جوهرية وأساسية وليست عابرة أو ثانوية، فالسياسة من دون أخلاق تغدو بشعة وكريهة، لهذا بات من الضروري أن تكون السياسة أخلاقية لتكون فاعلة، لأن فاعليتها تُقاس بمدى تحقيق غاياتها النبيلة، ولعل إسقاط الخصم أو إطاحته ليس انتصاراً، إن لم يؤدِ إلى تحقيق الغايات الشريفة .

 

العنف يحتاج إلى بديل ولا بديل سوى اللاعنف والتسامح والتعايش والتواصل الحضاري والتفاعل الثقافي . ولكن ذلك لا يأتي بين عشية وضحاها، إنه يحتاج إلى عمل تراكمي، تدرّجي وتواصلي، أي عمل من دون انقطاع لنشر فكرة اللاعنف، باعتبارها الطريق القويم إلى تنمية المجتمعات .

 

ولكن، هل يعني خيار اللاعنف، تخفيض خيار المقاومة، أو استبدال وسائلها العنفية بوسائل لا عنفية؟ وانطلاقاً من تجربة انتفاضة الحجارة التي اندلعت في أواخر العام 1987 ضد الاحتلال »الإسرائيلي« واستمرت بضع سنوات، فقد أنجزت عملاً كبيراً لم يكن من الممكن إنجازه باستخدام العنف، وتلك إحدى تجارب المقاومة الناجحة . وثمة سؤال قد يحتاج القارئ إلى استجلائه بصورة واضحة، فالكثير من الحساسيات وردود الفعل تأتي إذا كانت الأفكار والفلسفات قد جاءت من الغرب، وإنْ كان ليس للفكر جغرافيا أو جنسية أو دين أو قومية أو لغة، ومع ذلك، فإن بعض التيارات المتطرفة والمتعصبة تبدي تحفظات عليه، بل وترى المنجز الغربيّ مريباً، و»كل غريب مريب« حسب وجهات نظرها . ولكن ماذا بشأن اللاعنف؟!

 

  يقول جان ماري مولير الفيلسوف الفرنسي المعاصر لفلسفة اللاعنف: لقد تعلمت اللاعنف من الشرق، من مفكر ومناضل آسيوي اسمه غاندي الذي استطاع بفعل مقاومته اللاعنفية الانتصار على أكبر دولة استعمارية في وقتها »بريطانيا العظمى« . فغاندي بحكم فلسفته ونضاله استطاع أن يكون جسراً بين الشرق والغرب، بما حققه من إنجاز فكري وعملي، حين جمع أفضل ما في الحضارتين الغربية والشرقية لتحقيق منجز اللاعنف .

 

 وإذا كنّا قد قرأنا الكثير من الفلسفات المعاصرة، الليبرالية والرأسمالية والاشتراكية، فإننا لم نقرأ فلسفات الشرق، لاسيما فلسفة اللاعنف التي جاء بها غاندي، الأمر الذي نحتاج إلى أن ندخله في مناهجنا العلمية والتربوية وفي جامعاتنا ومدارسنا، خصوصاً أنّ التربية معمل لإنتاج العنف أو اللاعنف، علماً أن الثقافة السائدة لاتزال تمجّد العنف دليلاً على القوة والجبروت وقهر الآخر، وبقدر ما يكون العنف سلبياً هادماً، فإن اللاعنف إيجابي بنّاء .

 

ولعلّ الانسان بطبيعته لديه طاقات عنفية مثلما لديه طاقات لا عنفية، وإذا ما استطاع تخطّي ضعفه واللجوء إلى خيار اللاعنف، سيكون قد تجاوز في الآن ذاته، الواقع الذي يزخر بالعنف، منتصراً بذلك لا على الآخر فحسب، بل على ذاته أيضاً .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2241 الخميس 11 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم