أقلام حرة

قصة قتل حقيقة – الجريمة والعقاب

كما أن لديه القدرة على حماية عملائه وإطلاق سراحهم حتى في حالة إلقاء القبض عليهم، وهناك الكثير من الشكاوي التي تدل على حدوث مثل ذلك. فوافق مبدئياً لكنه أضاف أنه لايعقل أن لايحدث أي خطأ خلال هذه السنوات ويتم إمساك دليل قاطع على تلك العلاقة، فأشرت إلى حادثة البصرة 2005 ، فأطرق قليلاً ثم هز رأسه موافقاً وقال أنها دليل قاطع فعلاً.

لكن قبل بضعة أسابيع، حين أتيت بحادثة البصرة كدليل على قيادة الإحتلال للإرهاب، قال صاحبي في النقاش، والذي لم تعجبه النظرية، قال وبانزعاج واضح، أنه سمع بهذه القصة من خلال مقالاتي، ومن خلال مقالاتي فقط، وتساءل (إن كانت صحيحة) فلماذا لم يكتب غيري عنها؟ أجبته بأن الحقائق لا تقاس بعدد من يكتبها، لكن السؤال بقي يرن في رأسي: فعلاً..."لماذا لم يكتب أحد عنها؟"

عادت بي الذاكرة بضعة سنوات عندما كتبت لأول مرة عن تلك الحادثة بعد حدوثها بفترة قصيرة، وفي ذلك الحين أدركت أنها من الحقائق التي سوف يتم اغتيالها و "إخراجها من التاريخ". حينها كتبت علينا ان ننسى: البريطانيان كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد! مشيراً إلى أن الدليل القاطع الذي يدين البريطانيين الذي امسكا متلبسين، سيتم إبعاده عن أي حديث أو نقاش إعلامي، باعتبار أن الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام العراقية مرتبطة بالولايات المتحدة، وأن قتل الحقائق غير المناسبة سياسة إعلامية أمريكية كلاسيكية لمثل تلك المواقف. من الواضح أن تلك الحقيقة أنتقلت خلال بضعة سنين إلى مرحلة متقدمة في الغرق في النسيان. فبعد أن وصلت قبل سنتين إلى مرحلة ذكرى تحتاج إلى من يذكّر الآخرين بها، فأن هذا التذكير لم يعد كافياً الآن، ويتم التشكيك بحدوثها أصلاً! إنه شريط سينمائي درامي لعملية إجهاض حقيقة سليمة من أي شائبه، لكنها لم تكن مناسبة للأقوياء فتوجب قتلها!

في أكثر من كتاب وحديث، وصف نعوم جومسكي مثل تلك الإغتيالات للحقائق، مشيراً بشكل خاص إلى حادثة اغتيال لحقيقة "رأت النور" في الثمانينات من القرن الماضي عندما أدانت محكمة العدل الدولية الولايات المتحدة بجريمة إرهابية (بعد تخفيف لهجتها ووصفها) بوضع متفجرات في سواحل نيكاراغوا. إكتفت المحكمة بالحكم على الولايات المتحدة بدفع تعويض مالي، والحكم بإدانة أميركا إنجاز نادر بحد ذاته حتى لو كان أعرجاً، لكن الولايات المتحدة ووسائل إعلامها تجاهلت الحكم تماماً، فلم تكتف برفض تنفيذ الحكم، بل "قتلت" حقيقة إدانتها والحكم عليها في المحكمة الدولية، و"أخرجتها من التاريخ" حسب تعبير جومسكي، فلا يعرف اليوم سوى نسبة قليلة من الناس بها، حتى بين الأمريكان الذين أدانت المحكمة بلادهم!

نعود إلى حادثة البصرة والسؤال الذي أحزنني. المؤلم أن عملية قتل حادثة البصرة لم تقتصر على وسائل الإعلام العراقية الرسمية والمدعومة أمريكياً، بل شارك القتل جميع الكتاب العراقيين على الإنترنيت، والتي تتمتع بحرية نشر نسبية لا بأس بها.

كذلك شارك الجريمة السياسيين العراقيين بأحزابهم المختلفة، وقد كتبت بالفعل مؤخراً عتباً إلى الجعفري الذي حدثت الجريمة أثناء ولايته: هذا الدم في رقبتك يا جعفري.... مشيراً إلى أن رئيس الحكومة العراقي السابق قد ترك تلك الحقيقة الخطيرة تمضي إلى النسيان، ولولا ذلك ربما لم يكن العراق غارقاً في الإرهاب حتى اليوم.

لقد تساءل صاحبي إن كانت تلك الحادثة موجودة بالفعل أم لا، رغم أنها حادثة مؤرخة ومعلنة في الصحافة ولم ينكرها أحد حتى البريطانيين الذين ارتكبوها، لأن من المستحيل إنكار محاصرة السجن وتحطيمه بالدبابات لإخراج البريطانيين المعتقلين فيه بعد قتلهما اثنين من الشرطة العراقية الذين ألقوا القبض عليهما متلبسين وبأسلحة الجريمة. فكيف تنسى جريمة أو حادثة بهذا الحجم وتمسح من الذاكرة والتاريخ؟

لكنها الحقيقة المرة، فحتى إن تذكرها الكثيرين اليوم، فأن عدد من سيفعل ذلك غداً سيكون أقل، وبعد غد أقل، حتى تصبح أشبه بالحلم أو الوهم مع الزمن...وهكذا نشهد عملية اغتيال حقيقة بالكامل، وأية حقيقة! إن مثل هذه الحقيقة لا تأتي إلا في القليل النادر، وإلا لمن حظه عظيم، فمن يدير الإرهاب يفعل ذلك بحرص شديد ومن النادر أن يقدم دليلاً واضحاً، دع عنك دليل إدانة لا يقربه الشك، على هويته، فكيف تهمل مثل تلك الدلائل النادرة؟

كيف لا تحصل مثل هذه الحقيقة على حصتها، بل على أية حصة إطلاقاً من أهتمام الكتاب وجهد كتاباتهم؟ لماذا يفضل الكثيرين الإستمرار باجترار الكلام الفارغ في إدانة الطائفية والإرهاب بشكل عام والمحاصصة ويثيرون التساؤل إن كان المسلمون قبل عشرة قرون سفاحين أم رحماء وإن كان الله موجوداً أم لا، ويهملون قضية محددة واضحة تصرخ من أجل أن يسمعها أحد؟ أستطيع أن أفهم أن يتجاهل مثل هذه الحقائق بعض الكتاب المقسمين على ولائهم المطلق للأمريكان، لكن أن يتجاهلها الجميع، فهو أمر مثير للقلق فعلاً!

ليس اغتيال حقيقة البصرة هي الجريمة الوحيدة من نوعها في هذا البلد بالطبع، بل هناك سلسلة طويلة من الجرائم المماثلة التي يثير حدوثها في الجو السياسي والثقافي العراقي، الإستغراب والقلق. فلم أجد مثلاً إلا مقالة واحدة حول الدعم العراقي النفطي المشبوه والمخالف لكل منطق إلى الحكومة الأردنية، بالرغم من وضع العراق الأسوأ وبالرغم من أن للأردن ديون على العراق مازالت قائمة، حتى أني سألت قيادياً في أحد الأحزاب العراقية الهامة عن موقف حزبه من الموضوع فاعترف بأن الموضوع لم يطرح للنقاش أصلاً، وأنه ليست لديه معلومات عنه ولم يمر به في الإعلام! مساعدة العراق للحكومة الأردنية، والظروف المشبوهة التي تحيط بتلك المساعدة، حقيقة تم اغتيالها إعلامياً ولم تطرح أية تساؤلات عنها!

حين عين الأمريكان سفيرهم الأول في العراق، اختاروا للمنصب رجل إرهاب دولي هو نغروبونتي المسؤول عن الفضائع التي قامت بها الولايات المتحدة في أميركا الوسطى والجنوبية وكان سفيراً لأميركا في الهندوراس حيث كان يدير الإرهاب لأميركا الوسطى والجنوبية من هناك، وهو يقابل بالتظاهرات والإحتجاجات حيثما ذهب، لكن أحداً من الكتاب العراقيين لم يهتم بإنارة شعبه عن هذا الخطر الداهم الذي كان يدخل بلادهم والذي يبدو أنه كان المسؤول الأول عن الإرهاب فيها، ولم يسأل أي كاتب لماذا تختار اميركا شخصاً خبير في الإرهاب لسفارتها في العراق، وقبل أن يكون هناك أي ارهاب في البلاد؟ لماذا لم يتم اختيار خبير في إدارة البلدان وإعمارها؟ وأتساءل أنا: لماذا يقيم الناشطون الدنيا ويقعدوها حيثما توجه هذا الخسيس، ولا يجد العراق من يدافع عنه ويصر على إبعاد الأقذار والأخطار عنه؟ هل من غرابة أن تتكاثر الأقذار في المكان الذي لا يحتج أحد على إلقائها فيه؟ حقيقة نيغروبونتي الإرهابية لم تطرح في العراق، فهي حقيقة تم اغتيالها في هذا البلد على الأقل.

وهل تتناسب المقالات التي كتبت عن فضائح علاوي، مع حجم وعدد تلك الفضائح والتهم الخطيرة التي وجهت اليه، والعديد منها من قبل جهات لها مصداقية عالية؟ فضائح تبدأ من تأجير حثالات لوبي أمريكية لتشويه سمعة منافسيه إلى الإرتشاء الفاضح من قبل الحزبين الكرديين لتغيير نسبة الأكراد وبالتالي تسهيل ابتزاز ونهب الخزينة العراقية بعد أن لم يكتفوا بخزينة كردستان، إلى تهم بالتعاون مع الإمريكان لمنع محاولة الأمم المتحدة إخراج العراق من الفصل السابع وتقليص صلاحيات الإحتلال، لتصل إلى تهم تتصل بالإغتيال والتآمر والإرهاب، ولم لم يتحدث أحد تقريباً عن اتهامه من قبل سيمور هيرش بأنه كان مسؤول البعث للإغتيالات في اوروبا؟ لماذا كتب أكثر من ذلك بكثير عن أمور تافهة مثل دكتاتوريته في اتخاذ القرار ضمن مجموعته وموافقته على تعامل الدين مع السياسة وغيرها من التوافه التي لا تصل إلى الإجرام او حتى مخالفة القانون؟ من الذي احتج من المثقفين على أن نتائج الإنتخابات في هذه البلاد دون غيرها، لاتظهر إلا بعد شهرين من انتهائها، بينما تظهر في البلدان الآخرى، حتى المتخلفة منها، بعد بضعة ساعات أو يوم واحد؟  ولماذا لم يكتب إلا القليل عن المخالفة الدستورية الخطيرة للمالكي حين مدد حالة الطوارئ مرتين دون استشارة البرلمان، وهي قضية يفترض أن تثير الرعب في أي عراقي له ذاكرة؟ أليس من واجب الصحافة أن تثير الضجة حول أية تهمة هامة حتى إن لم تكن مثبتة لتجبر السلطات على التحقيق فيها ومعرفة الحقيقة، فلماذا تجاهلت الصحافة حتى الحقائق المثبتة التي تقدم اليها مجاناً؟

من الحقائق الواضحة المحددة الهامة التي تمضي في طريقها إلى غرفة الإعدام بالنسيان، ما جرى من تعذيب لمنتظر الزيدي. هاهو أمامكم، رجل محدد معروف، يتهم ضباطاً معروفين ويحددهم بالأسماء ويتهمهم بالقيام بتعذيبه بالكهرباء وغيره في التلفزيون وأمام الجميع. هاهو رجل محدد ومعروف يقول لكم أن رئيس وزرائكم كذب عليكم حين قال أنه لم ينم قبل أن يتأكد من أن منتظر قد حصل على عشاء وفراش. هاهي حقيقة تقول لكم أن لديكم رئيس وزراء محتال يقلب الحقائق، وهاهو يقدم لكم أسماء من يقومون بالتعذيب في بلادكم ويتحمل المسؤولية كاملة، وهو يقدم فوق ذلك الفرصة الذهبية التي يمكن إثارتها بشكل يستحيل تجاهله من قبل الحكومة إلى الأبد، معرضاً نفسه للمزيد من التعذيب، فما الذي فعلتموه للإستفادة من تلك الفرصة الغالية؟ لا أنتظر من الكتاب الذين راوغوا إحساسهم الشديد بالدونية من خلال انتقاد منتظر على "قلة أدبه" و"عدم احترامه أصول الضيافة" أو الذين اغضبتهم الإساءة إلى "العظيم" بوش واستغلاله "الديمقراطية" للقيام بإساءته "للكبار". لا أنتظر منهم أن يغضبوا لمعاقبة "قلة الأدب" بالتعذيب بالكهرباء، ولا أنتظر منهم أن يدهشوا أو ينزعجوا أو يعتذروا لأنهم تصوروا أن منتظر عومل بشكل حضاري كما كتب البعض منهم، وتبين أنه قد تم الكذب عليهم. فهؤلاء انفسهم بالأسماء، (يا للصدفة!؟) من كتب يوماً أنه يؤيد المعاهدة مع أميركا "بشرط" ان تكون شفافة ويتم مناقشتها بشكل علني، لكنهم تجاهلوا الأمر وبلعوا كبريائهم حين لم تقدم نسخة رسمية من المعاهدة، لا لهم ولا حتى للكونغرس الأمريكي، فلم يحتجوا ولم يسحبوا تأييدهم ولم يعتذروا للشعب العراقي عن إسهامهم في خداعه إلى هذا الفخ الخطير. لا أنتظر من هؤلاء شيئاً، لكن أين الباقين؟ لا تفعلوها من أجل منتظر، المغضوب عليه، إفعلوها من أجل أنفسكم! استفيدوا من الفرصة الذهبية التي قدمها لكم "قليل الأدب" هذا للإمساك بنظام التعذيب في البلاد ومن وراءه، أستفيدوا منها لضرب رئيس وزرائكم الكذاب على يده لعله يتردد في الكذب عليكم في المرة القادمة؟ هل من حقكم في المرة القادمة أن تشكوا وتولولوا إن كذب عليكم رئيس حكومتكم في أمر آخر يهمكم أن يقول الصدق فيه؟ ألن تشعروا بالنفاق يحرق الوجه خجلاً حين ستغضبون لتعذيب الحكومة لضحيتها التالية من حزبكم؟

لماذا تركت تلك الحقائق تختنق بينما يقدم الكتاب العراقيون كل "الهواء" إلى مواضيع أقل أهمية وأقل تأثيراً في مسيرة بلادهم؟ لو أن في العراق من وجه ضربته إلى التعذيب الحكومي حين كشفه منتظر، أما كان هذا التعذيب سيفكر طويلاً قبل أن يضرب ضحيته في المرة القادمة؟ اليس من المعقول أن نتصور أنه لو أن حادثة البصرة أخذت حقها من التعريف والمتابعة، أن العراق ربما كان قد شفي من الإرهاب اليوم؟ وحتى لو لم يكن الإحتلال مسؤولاً عن الإرهاب أو عنه كله، فمن واجب الإعلام والإعلاميين والمثقفين أن يؤمنوا جواً إعلامياً يتابع ما هو مهم ومقلق من الحقائق ويدفع إلى التحقيق في الشكوك، وأن يجعلوا المجرمين أياً كانوا، يخشون افتضاح أمرهم فيتوقفوا عن جرائمهم أو يترددون فيها كثيراً. لكننا تركنا كل هذا يمر بسلام، فهل من عجب بعد هذا أن سار العراق إلى ما سار اليه، ووصل ما وصل إليه؟

ما الذي ينتجه مثلاً، تجاهل حقيقة جريمة رئيس الحكومة بفرضه وتمديده حالة الطوارئ بتجاهل البرلمان والدستور، وتجاهل كذبه وتجاهل تعذيب جلاوزته المثبت لمتهم بتهمة بسيطة؟ ماذا يكون سوى أن تتعلم هذه الحكومة وما سيليها من حكومات، أن مرتكبي مثل تلك الجرائم ليس لهم أن يخشوا العقاب! هناك نص في الدستور يشترط على رئيس الوزراء أن يحصل على موافقة البرلمان لتمديد قانون الطوارئ، ولاشك أنكم سعداء به وتشعرون بالإطمئنان لوجوده للتجارب المريرة التي مرت على البلاد في الماضي، لكن ما قيمة هذا النص بعد الإحتقار الذي لقيه من الجميع؟ أيحق للعراقي أن يطمئن بوجود دستور يحميه حقاً؟ هل هذا هو الدستور الذي قلبت الأحزاب الدنيا تشكياً من الدكتاتوريات حرمتها من نعمته عقوداً؟ فما بالها تدوس تلك النعمة بحذائها بصمت في أول فرصة تسنح لها؟ أينتظر من مثل هذا الدستور أن يهب لحماية من داسه، أو أن يستطيع ذلك؟ أيحق لأحد في العراق بعد ذلك أن يشكو عودة الدكتاتورية والبعث واللصوص والكذابين والتعذيب وبقاء الإحتلال وكل شرور الأرض في البلاد التي حولها الإهمال والنفاق المثقف إلى "جنة ضريبية" لكل الشرور؟

لماذا يفشل مثقفوا العراق دون غيرهم، في إثارة النقاش بصوت مرتفع ومستمر إلى الدرجة التي تجبر الحكومة على التحقيق ومعاقبة المجرمين والمخالفين، ويعمدون بدلاً من ذلك إلى الكتابة عن مواضيع أقل أهمية؟ كم شخص كتب عن مؤامرة التصويت السري في  البرلمان؟ هل من عجب أن يعود حصان البرلمان الجديد إلى تلك الحيلة القذرة ثانية دون أن يخشى عقاباً؟ كم شخص كتب محتجاً على حقيقة إنصياع عادل عبد المهدي لديك تشيني وسحبه لإعتراض على قانون كان قد أطال الحديث عن لادستوريته؟ كم مقالة احتجت وتساءلت عن خبر حكومي عن إعدام لمئات من المتهمين بقتل الكفاءات بعد محاكمات سرية وإنتمائهم إلى عصابة عجيبة متخصصة بهذا القتل وتضم 8000 مجرم، حسب البيان الحكومي، ثم لم يسمع شيئاً عن الموضوع؟

كيف يمكن خنق وقتل مثل تلك الحقائق الهائلة الحجم وكيف تمر بلا ضجيج إلى ضباب النسيان كأنها لم تحدث إطلاقاً؟ أي شيء آخر استحق حبركم  وورقكم وتعب عيونكم وإجهاد أذهانكم وقلقكم يا مثقفي البلاد وأحزابها؟

الحقائق علامات الطريق التي تشير إلى الإتجاه، وتجاهل تلك الحقائق لا يختلف عن تجاهل تلك العلامات.

لكن هل من المعقول أن يتجاهل الإنسان علامات الطريق ويعرض نفسه للخطر؟ نعم يمكن ذلك، عندما تشير تلك العلامات إلى الطريق الوعرة الصعبة. وإن كان الإحتلال يدير الإرهاب فعلاً، فهي حقيقة تشير إلى طريق شاقة ومخيفة، خاصة إن كان المحتل هو أقوى دولة في العالم وتسيطر على مقدراتك! لذا من الأفضل ان تصدق أن "هذا الإله طيب" وأن تلك الحقيقة لم تكن موجودة، وأن تلك اللوحة كانت سراباً وأن تحاول أن تنساها بأسرع وقت ممكن، لتسير في الدرب الآخر الأسهل والأكثر خضرة: الدرب الذي تكون فيه أقوى قوة في العالم خيرة، تريد مساعدتك على القضاء على الإرهاب والأشرار! إنه نفس الشعور المريح الذي أقنع البشر القدماء بأن الصخور الجامدة، آلهة خيرة تريد حمايته وتستطيع حمايته! لولا الخرافة المريحة بقراءة المستقبل من خلال الأحجار ونجوم السماء لما استطاع فريق صغير من الإسبان أن يبدأ إبادة سكان قارة أميركا الجنوبية في أفضع مذبحة في التاريخ. إننا نأسف عليهم وقد نسخر منهم لأنهم تجاهلوا مئة علامة تشير إليهم بالعكس، لكن ها نحن المثقفين اليوم نتجاهل علامات طريقنا ونقتلها بتركها تغرق في النسيان، فما الفرق بيننا وبينهم بعد كل تلك القرون من تقدم البشرية؟ وما المصير الذي يحق لنا أن ننتظره غير مصيرهم؟

  العراق كتائه يسير في صحراء ممتدة بلا دليل، صحراء مليئة بالوحوش التي لا يدري من أين ومتى تقفز عليه، ولا يعلم أين هو طريق السلامة. ثم حين تسعفه لحظة حظ عظيم لا تتكرر، فيجد لوحة تقول له أين الطريق، فأنه يتجاهلها ثم ينساها فكأنها لم تتواجد على الإطلاق، ويفضل الحديث عن "الإرهاب" و"التطرف" و "قوى الظلام"! فما الذي ينتظر مثل هذا المسافر المهمل في هذا المكان الموحش الخطير سوى الضياع؟ إن كل إنسان يشعر بالتعاطف مع التائه الذي يقتله العطش وتمزقه الوحوش، لكن عندما يحصل هذا على علامة الطريق إلى الأمان ويتجاهلها ، فأن ذلك التعاطف يتحول إلى شعور بالغضب والأسى، ويثير التساؤل: هل تستحق آلام من لا يهتم بالآمه، إهتمام الآخرين؟ هل من حق من يضيع فرصه أن يشكو بعد ذلك سوء الحظ؟ هل من حقه أن يشكو ظلم الآخرين وقسوتهم وهو يقسو على نفسه ويظلمها بأكثر من أي كائن آخر؟

إن إهمال الحقائق الهامة، علامات الطريق الدالة، وتركها تموت اختناقاً بالنسيان، جريمة، وعقاب من يرتكبها البقاء ضائعاً! المثقفون هم المسؤولون عن هذه الجريمة، وبلادهم سيئة الحظ، تدفع الثمن، فتبقى تائهة تتجه إلى المصير المجهول!

 

صائب خليل ([email protected] )

 

روابط متعلقة بالمواضيع التي اثارتها المقالة:

علينا ان ننسى: البريطانيان كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد

سرقة آشتي لحقول النفط ليست جزء من الخلاف الدستوري بين بغداد وكردستان     

إكشفوا اين اختفت المنحة النفطية الكويتية للأردن قبل توقيع المنحة العراقية ومد انابيب النفط

وحصة الأردن التموينية...هل ستخفض ايضا؟

الجزية السرية 1- العجائب السبعة للعلاقة العراقية الأردنية 

العلاقة المخجلة للحكومة العراقية بالحكومة الأردنية 

العراق والأردن - ديون غريبة ومفاوضات مريبة 

من قتل اطفال النعيرية؟ رائحة فضيحة اكبر من ابوغريب!

نيغروبونتي: السجل الخطير لسعادة السفير

دور علاوي في فقدان سيادة العراق على العمليات العسكرية ووجوده تحت الفصل السابع

المالكي وقصة التمديد "الأخير"

متى يعترض عادل عبد المهدي ومتى يقبل؟

اسئلة قبل نتائج الانتخابات

دحض حجج دعاة التصويت السري في البرلمان العراقي

  عندما تقود الخيوط الى الإتجاه غير المناسب لتفسير الإرهاب: مصفاة الشعيبة وانفجار الموصل

اللوبي الكردي في واشنطن والطموح الى مكانة اسرائيل

إسألوا الأسئلة – طالبوا بأجوبة

ما مواقف مؤيدي المعاهدة بعد تحولها من "صداقة" إلى تهديد وابتزاز

 

تجدها على:

http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/index.htm

http://www.yanabeealiraq.com/writers_folder/saab-kalil_folder.htm

http://www.bermanah.com/my-articles.htm

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1207 السبت 24/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم