أقلام حرة

على شواطئك تركتُ آثار أقدامي / لطيف عبد سالم العكيلي

بـ (المكتبة العصرية .. واتحاد ادباء ميسان)، فشدني بعض ما ضمنه من ذكريات عن الشاعر العراقي الكبير عيسى حسن الياسري الى الحد الذي جعلني اقتطع المقال واحتفظ به .يقول جابر: (منذ بداية السبعينيات كنا نحوم حول هذه المكتبة ويقصد العصرية لنشتري قلما او دفترا مدرسيا وغايتنا ان ننظر بانبهار الى الشاعر عيسى حسن الياسري وهو يحل ضيفا على صاحب المكتبة السيد حيدر حسين،وكنا نسترق السمع بخجل لحديثه وضحكاته الهادئة وهو يرتشف شاي زاير شنين) . ومن فرط اعجابي بهذه السطور التي جرت احداثها في مدينة العمارة التي  تعد احدى المحطات المهمة في رحلة شاعرنا الياسري في عالم الشعر والالق والابداع،ارتأيت ان اسوقها  كمقدمة لمقالي هذا الذي تشرفت بكتابته عن قامة ثقافية شامخة اثرت الشعر والوطن والحب والانسان والجمال بعطاء متميز في رصانة البناء والتجدد .

أنا طفلك يا حقول بلادي البعـيدةَ

على شواطئك تركتُ آثار أقدامي

خلال ما يقرب من أربعة عقود من الزمان أنجز شاعر العراق الكبير عيسى حسن الياسري المولود عام1942 م في  إحدى قرى محافظة ميسان جنوبي العراق، ثمان مجموعات شعرية ،بدأها بمجموعته البكر(العبور إلى مدن الفرح) عام 1973، مرورا بـ (سماء جنوبية ) 1976، (فصول في رحلة طائر الجنوب) 1979  (المرأة مملكتي) 1982، (شتاء المراعي) 1992، (صمت الأكواخ) 1996، (أناديك من مكان بعيد) 2008، و (السلام عليك يا مريم) التي صدرت عام 2010 م بـ (186) صفحة من الحجم المتوسط وضمت (44) قصيدة،عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية  عمان ضمنَ منشورات الصالون الثقافي الأندلسي – الكندي في مونتريال . وفي مجال الرواية اصدر في عام 2004 م الطبعة الاولى من روايته الموسومة (أيام قرية المحسنة) التي صدرت طبعتها الثانية في عام 2011 م .

وقد استقطبت  التجربة الشعرية لـ (شاعر القرى) الذي ترجمت مجموعة من قصائده إلى أكثر من لغة عالمية كثير من النقاد الذين تناولوها بحثا ونقدا ودراسة وتحليلا في إصدارات عدة، كان أحدثها كتاب الناقد المبدع حسين سرمك حسن الموسوم (شتاء دافي)الذي أصدره عام   2010  م بالتزامن مع انجاز احدث دواوينه السلام عليك يا مريم  الذي تقدم ذكره . ولا اخطئ القول أن  كتاب الناقد سرمك يعد من الاصدارات الحديثة المهمة، بوصفه دراسة أسلوبية تحليلية لتجربة الياسري الشعرية التي امتدت لسنوات طويلة،إضافة إلى رسالة الباحثة آلاء محسن التي تقدمت بها إلى عمادة كلية التربية -  جامعة القادسية كجزء من متطلبات الحصول على شهادة الماجستير . وفي مجال ما ترجم من نتاجه الشعري صدرت ترجمة لبعض قصائده في كتاب (أنطلوجيا الشعر العربي ) الذي أنجزته الناقدة الأسترالية آن فير بيرن باللغة الإنجليزية في أستراليا . وفي عام 2002 قام الأستاذ الدكتور عبد الواحد محمد بترجمة مختارات من قصائد شاعرنا الياسري إلى اللغة الانكليزية وأصدرها عن دار المأمون في بغداد بمؤلف وسمه باسم (العشبة). ويضاف الى ذلك ما كتبه عنه طراد الكبيسي في كتابه(الغابة والفصول)،  وقيس كاظم الجنابي في كتابه الذاكرة الشعرية، اضافة الى صبري حافظ، حمزة مصطفى، جليل كمال الدين، حاتم الصكر وغيرهم .

هل بمقدوركِ أن توقفي هذه الريحْ؟

إنها باردةٌ

حدّ أن تجعل البحر يرتجفْ

والغابة تنوح

وجسدي يتثلجْ

وتثمينا لمنجزه الابداعي منح شاعرنا الياسري الذي كثير ما يشار أليه باسم آخر الشعراء القرويين (جائزة الكلمة الحرة العالمية) في مهرجان الشعر العالمي الذي أقيم في عام 2002م بمدينة روتردام الهولندية . وبغية لفت انتباه القارئ الكريم الى أهمية هذه الجائزة،ارى من المناسب والمهم الإشارة إلى أن شاعر اسبانيا الخالد (رافاييل البرتي)، والشاعر الجنوب أفريقي (برايتن باخ)،والشاعر المغربي (الطاهر بن جلون) كانوا من ابرز شعراء العالم الذين حصلوا على هذه الجائزة .

شاعرنا الجنوبي المقيم في المنافي البعيدة ما يزال مفتونا بذكريات ملعب صباه في مدينته العمارة التي كانت حاضرة في كثير من قصائده،وفي مقدمة ذلك قصيدته الساحرة التي حملت اسم (العمارة) :

أيتها الذهبية مثل القمح

الخضراء كحقول الرز

لقد ذهب عنك السحر

كنت ألاحقك عبر حقول الحنطة

وأطوق خصرك بذراعيَّ الطفلين

كان طريا ..ونحيلا خصرك

الصبيَّة ذات التاج العشبي

والقدمين المنتعلين بأزهار الحقل

لا أثر لعبقها

 

المعشوقات يخلّفن شقوقا في هذا الجانب ..

أو ذاك من القلب

أما أنتِ .. فزحفت عليه زحف الكثبان ..الرملية فوق غدير الماء

 

قلتْ ..سأظل بعيدا

لا أطأ أرضكِ

لا أتطلع للغيم الراكض نحوك

 

طويلا سأفتقد منعرجات دروب مراعيك

 

كلانا خسر رائحته

أنت تلتهمين قراك

يا سفنا تستبدل حمولتها من الرز ..

بنواح هواء الليل

يا أما ثكلى

كل صباح تفقد نهرا

ومزيدا من أيام طفولتها

وتأكيدا لعمق ارتباطه بالأم الحنون العمارة يستذكر آخر الشعراء القرويين أحلام الصبا في قريته الوادعة، ويصف حقول قريته الوادعة على نهر ابو بشوت ببراعة حين يقول : حلم بسيط رافقه مذ كان طفلاً ريفيا ً يعدو عبر حقول القمح ..أذيال دشداشته معطرة بغبار طلع الأزهار البرية ..وقدماه موشومتان بطين السواقي .. إذا جاع منحته الأرض عافيتها ..ومتى يظمأ مدت له سحابة ربيعية حلمة ثديها .. ليس لديه سرير للنوم ليلا ً سوى حضن (الجدة) الشبيه بسرر الجنة ً ..وعند ظهيرة الصيف تنسج له أمواج (أبو ابشوت) مهدا ً يغبطه عليه أطفال أكثر من ملك .. قنديله قمر .. وحديقته ثريات نجوم .. وحوريته صبية لها رائحة شجرة صفصاف مررّ الخريف شفاهه على ندى أوراقها ..

حلمه ألا يسبب أذى ً لجناح فراشة .. ألا ّ يوجع برعما يتهيأ نسيم الصباح أن يغمس أصابعه بعبيره .. وحلمه أيضا ّ ألا يكسر قلب امرأة .. أو يمهّد للدموع طريقا إلى هدب الطفل .

عندما يسير لا يرفع عينيه عن الأرض إلا إذا تشمم عطر امرأة لأنه لا يريد أن تفوته الصلاة بين يدي الله الذي أبدع هذا المثال الذي لا تبدعه أزميلات أكثر مثالي العالم إدهاشا ً .

بي حاجة أن أغمض عينيّ

أريد أن أرى (بغــــــــداد)

وقد نفضت عن وجهها الغبارْ

وأن أراكِ وقد أشعلتِ شموعكِ في..

طريق جلجلتي.

كثيرون هم النقاد الذين كتبوا عن عطاء الياسري وتميز تجربته الشعرية وخصوصيتها،ولعل من المناسب ان ادون هنا ما سجله الدكتور سرمك في (شتاء دافي) بخصوص نتاج الياسري ؛بالنظر لتميزه بعمق التحليل وسعة الرؤية وعذوبة الكلمات التي تركت ابلغ الاثر في نفسي،ما فرض علي الاشارة الى اهم المحاور التي ضمنها حديثه في ما مبين تاليا :

(عبر جهد مضن لاحقت فيه أدق مكونات تجربة الياسري، وجدت ان المحاور التي اشرت إليها كركائز لقراءة نصوص مجموعة الياسري الأخيرة قد بذر نواها في تربة إبداعه الشعري منذ نصوصه الاولى، ثم استوت على سوقها عبر عقود الممارسة الخلاقة القائمة على تجربة حياتية مريرة والمسلحة بثقافة شعرية وعامة واسعة، والمدعمة بنظرة فريدة الى دور الشعر في الحياة والوجود والكون وموقف المبدع من متغيرات مجتمعه العاصفة، وعذابات الإنسان المسحوق فيه لتصبح غابة اشجار متميزة ومستقلة في التجربة الشعرية العراقية والعربية اسمها عيسى حسن الياسري، عيسى بتمامه، شاعرا وإنسانا.. ويشتغل هذا الكتاب على استكشاف خصائص هذه الغابة، غابة التجربة الياسرية الشعرية وفق منهج نفسي تحليلي كلي لا يشتغل على النص من خارجه كما يوصف عادة ولكن من داخله، مع رفض كلي لأطروحة عزل المبدع عن نصه او موته،او فصله عن مجتمعه ومكونات ثقافته وتحولات الحياة فيه) .

ولا اخطئ القول ان شاعر الكلمة الحرة عيسى حسن الياسري الذي ما يزال متمسكا بذكريات التدريس والإذاعة والصحافة الادبية التي يعدها أجمل سنوات عمره في العراق،وقدر له ان يعيش منذ اواخر القرن الماضي في اصقاع المنافي البعيدة بعدما اضنته مهمة المحافظة على كرامته التي اضطرته امتهان كتابة العرائض امام محكمة بداءة الاعظمية في سنوات الحصار الجائر ببلده الذي اعطاه العمر كله !!،سجل بصمة في سفر الشعر العراقي والعربي منذ بواكير سيرته الشعرية التي امتدت الى نحو ما يقرب من خمسة عقود من الزمان  .

أريد أن أبكي بصوتٍ عالٍ

ربما تسمعينني عندما أبكي بصوت عالٍ

فتمدين يدكِ لتقطفَ..

كرومَ أحزاني

وفي الوقت الذي اتضرع فيه الى الخالق تبارك وتعالى ان يمن على شاعرنا عيسى حسن الياسري بالصحة والسلامة،اقول لمن يدرك ما اعنيه :

من يسمع صراخ المفتون بحب وطنه (العراق) وذكريات صباه ونشاته في مدينته الساحرة (العمارة)، ويمد يده ؛ليقطف كروم احزانه التي فاقمها المرض والغربة والفاقة مثل كثير غيره من قامات العراق الثقافية والادبية والفنية والابداعية ؟

 

المهندس لطيف عبد سالم العكيلي / باحث وكاتب .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2255 الخميس 25 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم