أقلام حرة

برزخ العنف والوعي الشقي / عبد الحسين شعبان

وإذا كانت الثورات العربية لا سيما في تونس ومصر وليبيا واليمن قد أنجزت مهمتها الأولى بتغيير الأنظمة السابقة، فهل ستواصل المشوار لتحقيق التغيير الاجتماعي المنشود، وخصوصاً الأهداف التي دعت لها كالحرية والكرامة ومحاربة الفساد وصولاً إلى العدالة الاجتماعية، الطموح البعيد المدى والهدف الذي ترنو إليه . ولعلّ السؤال الذي يواجه الباحث ويعبّر عن قلق وتبرّم أوساط اجتماعية واسعة يتلخّص في المنعطف الذي وصلت إليه الثورات، إضافة إلى الكبوات التي صادفتها، ومن ثم التحديات التي تواجهها، خصوصاً بعد أن عادت واصطدمت بصخرة الواقع لكلّ ما يزخر به من مألوف وسائد وتقليدي وصراع وكوابح كثيرة .

 

التحالف بين أصحاب السلطة وأهل الثروة الذي بدا وكأنه انهزم يحاول العودة بأشكال مختلفة، خصوصاً بالتغلغل بوسائل ناعمة، بعد أن حاول القضاء على حركة الاحتجاج بالوسائل الخشنة، وقد كان تلوّث بعض الثورات بالعنف سبباً في احتدام المشهد، ففي ليبيا فقّس التدخل الخارجي العسكري بيضاً كثيراً حين تغذّى من العنف الذي لم يلد الاّ العنف، وفي سوريا دخلت عوامل مريبة وغريبة على الحركة الاحتجاجية السلمية التي استمرت لستة أشهر تقريباً ليصبح الصراع عنفياً بامتياز، لاسيما بعد أن تم رفض المطالب الشعبية واللجوء إلى الخيار الأمني والعسكري والعنفي .

 

كثير من الاحلام تصدّعت، بل كثير من الخيبات نشأت، حتى إن باحثاً جاداً مثل عبد الاله بلقزيز اختار عنواناً لكتابه عن الربيع العربي »ثورات وخيبات«، وهو دليل على ارتفاع سقف المخاوف الكثيرة التي أعقبت الثورات والتي دفعت إلى الواجهة حركات إسلامية لتتصدر المشهد، الأمر الذي أثار قلق الكثير من الأوساط التي حلمت بديمقراطية وحرّيات وانفتاح تعقب الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، وإذا بها تواجه أنماطاً جديدة من الأفكار والممارسات الشمولية، على الرغم من أن طابع الأنظمة الانتقالية الجديدة لم يستقر بعد، وما زال محطّ صراع وجدل، سواء من خلال مناقشات مشاريع الدساتير أو عبر انتخابات مرحلية أو أولية عكست اختلالاً في توازن القوى، بين حركات إسلامية مستعدّة ولديها قاعدة تقليدية، وبين حركات علمانية، يسارية وديمقراطية وليبرالية، لكنها ضعيفة وليس لديها جاهزية فكرية أو تنظيمية حركية، وبدت متشتتة ومتناقضة وغريبة عن الواقع أحياناً .

 

هل يدعو الأمر للتشاؤم والقنوط أم يستوجب عملاً طويلاً ومضنياً وبالتدريج كما يقال ولكن بالضبط، خصوصاً وقد استرخى البعض لأحلامه أو أوهامه، بإمكانية الانتقال السلمي السريعإلى الديمقراطية وذلك بعيداً عن التفاؤل المفرط، لدرجة السذاجة أحياناً؟

 

الصورة الرومانسية التي تشكّلت في مخيّلات الكثير من الشابات والشبان وربما لدى جيل أكبر منهم سرعان ما اختفت في إطار معادلات جديدة وعُقد تاريخية مزمنة وواقع صلب مثل جلمود، سياسياً واجتماعياً ودينياً حيث فعلت فيه القوى التقليدية المستحكمة باستمرار فعلها من خلال بقايا السلطة والثروة، ومرجعيات قائمة يمكن تغيير هواها بسهولة، مثلما فعلت فيها الثقافة السائدة نتاج الوعي الشحيح في المجتمع قبلياً وطائفياً وإثنياً وغير ذلك .

 

سرعان ما فقد البعض ثقته مع خفوت البريق الأول للثورات ووهج حركة الاحتجاج، وكان للاعلام دور كبير في الوصول إلى هذه النتائج بسرعة خارقة، فمثلما ساهم في تحطيم صورة الرمز الأولى للحاكم، التي جرى تضخيمها سابقاً فهو المناضل، العالِم، الفيلسوف، الإنسان، فقد ساهم لاحقاً بدوره في إظهار صورة العنف والضعف لحركة الاحتجاج، بعد صورتها الجميلة الموحدة، المتسامحة، الشبابية، حيث كان دور المرأة كبيراً، مثلما ظهرت معها قيم السلام والتسامح والمحبة، ولكن سرعان ما ظهرت صور أخرى من خلال تقنيات جديدة معولمة لتقول هناك من يقوم بتهديم الدولة، أو الهيمنة عليها، ولا فرق في ذلك من قام بتفجير الثورة أو حاول وضع اليد عليها أو سرقتها، فالأمر يتعلق بدرجة الوعي والمصالح الآنية واللاحقة، ومقابل ذلك فهناك من انخرط في برزخ العنف في لحظة جزع ويأس وانسحاق .

 

الثورة توقظ أفضل ما في الإنسان من قيم نبيلة من حرية وشجاعة وإيثار وصدق وعدل وشراكة، مثلما تظهر نقيضها من جبن وخسّة وخنوع وغدر وأنانية وعدوانية، ولعلّ ميدان التحرير في القاهرة كان النموذج الباهر لإنسانية الإنسان ولصورة المصري البسيطة الشفيفة المتعاونة والأصيلة، في حين ما أعقب ذلك من سرقات وفساد وهدر للمال العام والخاص وعدائية واستعداد للجريمة، كان من إفرازات الثورات ولا سيّما في المراحل الانتقالية وفي مرحلة تزعزع هيبة الدولة .

 

أما إذا أردنا الحديث عن العنف فإنه لم يلوّث الثورات فحسب، بل لوّث النفوس والضمائر وجعل كل ما هو لا إنساني طاغياً، لا سيما وقد اتخذ تهديم المباني والمرافق والمنازل والاستحواذ على المال العام والخاص بعد أن استمرأ القتل وسيلة، ضد القانون وقد شهدنا ما حصل في العديد من البلدان ما بعد التغيير من عبث وتجاوز وأنانية وانفلات .

 

الصورة التي أظهرها الاعلام في المرّة الأولى في ميدان التحرير في القاهرة وسواها من الميادين هي حامل فكري عفوي وتلقائي، لدلالة الحدث والمكان، وهذا الأخير مؤشر على طبيعة الحراك الاجتماعي والطبقي حين يتجاور الجميع في هارموني منظور وغير منظور ليخاطب الحاكم بالرحيل بوسائل سلمية حضارية متمدنة، وليقابل الرصاص والبلطجة بصدور عارية، بما فيها ما حدث من واقعة الجمل التي لها مغزى كبير، وإنْ كان الأمر يتكرّر حين يقوم رجال من السلطة يرتدون ملابس مدنية بأعمال بلطجة أو شبيحة أو شقاوة في محاولة للتملّص من المسؤولية، وبدلاً من أن تتمسك السلطة بالقانون تقوم هي بمخالفته واختراقه، مشجعة الجماعات المسلحة على فعل ذلك . إنها تختار دور عصابة بدلاً من دولة، حيث تمارس العنف لتختلط أوراقه وليصيب الجميع رذاذه السام!

 

العنف لا يبني دولة أو وطناً، إنه يؤدي إلى الفوضى ويفكك المجتمع، أياً كانت أهدافه، والتغيير العنيف يؤدي إلى رد فعل عنيف وهكذا، حيث لا يمكن معالجة العنف بالعنف، والمطلوب هو بناء دولة وتحقيق المثل وليس تهديم أو تحطيم مؤسسات قائمة، حتى وإن كانت غير سليمة، ولكن البناء يحتاج إلى تراكم وتطور بطيء وتدريجي، أما التفكير الانقلابي، فإنه لا يستطيع البناء الاّ بالإلغاء والإقصاء الذي سيولّد ردود فعل حادة، في حين أن ما يحتاج إليه المجتمع هو إعادة البناء وإعادة التفكير بمشروع الدولة، لإصلاحه وتطويره وليس الانقلاب على الدولة .

 

قد يحصل التغيير في نظام الحكم، لكن التغيير الحقيقي المنشود لم يحدث، والمهم هو تغيير المجتمع بصورة سلمية تطورية تواصلية تفاعلية، لأن العنف مرعب وغير معلوم الحدود، فضلاً عن نتائجه غير المحسوبة، ولا يمكن مقابلة الجنون الاّ بالعقل والعقلانية والبناء وإعادة النظر بالماضي لا بتكراره، بحاضر جديد يختلف في التوجهات، لكنه يؤدي إلى نتائج مماثلة أحياناً، فالجنون لا يقابل بالجنون، مثلما لا يقابل العنف بالعنف .

 

لعلّ حديث الثورات السائد في الخمسينات كان يقوم على العنف لترسّخ اعتقاد مفاده عدم إمكانية نجاح الثورات ما لم تستخدم العنف باعتباره » قاطرة التاريخ«، حسب كارل ماركس، وكلما كانت المغالاة باستخدام العنف أو الدعوة لاستخدامه فإن ذلك يعني دليلاً على »ثورية« الحزب أو الحركة أو الإنسان، في حين أن الثورية هي موقف من الحياة والكون والتغيير، وها هو التغيير في أوروبا الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية، يحصل بالسلم حتى وإن كانت المواجهة رأس حربة فيه، كما حصل في البرتغال العام 1974 حين تم القضاء على دكتاتورية سالازار وفي إسبانيا بعد موت فرانكو وفي اليونان، حين اتجهت هذه البلدان نحو الديمقراطية، من خلال جمعيات تأسيسية وإجراء انتخابات وإعداد دستور تعددي وتأكيد تداولية السلطة سلمياً .

 

ومن ثورة القرنفل البرتغالية إلى الثورات المخملية في أوروبا الشرقية وتواصلاً مع ثورة الحجارة ضد العدو »الإسرائيلي« تحققت تغييرات مهمة، وإن كانت بعض التصدعات قد حصلت في رومانيا وفيما بعد في يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي السابق التي قادت إلى احترابات ونزاعات، لكن خط التطور السلمي كان صاعداً، والفضاء التواصلي كان ممكناً، حيث غابت صورة القائد الصنم والزعيم المخلّد والملهم المخلص »المعبود« والمقدس وفوق حدود النقد .

 

لقد أفرزت الانتفاضات نمطاً جديداً من التفكير والممارسة متقدماً وشجاعاً على الرغم من التشوش والالتباس لاحقاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي المحلي المتفاعل مع الوعي العالمي . وأدرك جيل الشباب الذي كان جمجمة الثورات وسواعدها أن التشدق بالشعارات وببعض السفسطات الآيديولوجية أو التعويذات الدينية لن يوصله إلى شاطئ الأمان بحكم سياسات استبداد طويلة الأمد واحتكار الحاكم لجميع مرافق السياسة والإدارة والاقتصاد والثقافة والاعلام في الدولة، الأمر الذي يحتاج إلى وسائل سلمية جديدة لإرغام الحاكم على الامتثال لرأي الشعب 

 

وإذا ما كانت حسابات الحقل غير منطبقة على حسابات البيدر، فهذا أمر شهدته وستشهده جميع الثورات بحكم الموروث والسائد والتقليدي، ولكن سيكون ذلك لحين حتى وإنْ بدت الصورة اليوم عكس ذلك، خصوصاً حدّة الواقع وذبول عملية التغيير، لكن حاجز الخوف الذي انكسر، لا يمكن إعادته، فقد انتقل الخوف من ضفة المحكومين إلى ضفة الحكّام ومثل هذا الانتقال هو مفتاح التغيير وعلّة الأمل على حد تعبير غسّان سلامة .

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2256 الجمعة 26 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم