أقلام حرة

الضغط على الحكومة - الإحتلال والشعب

ذلك المنافسة على السلطة على الحكومة بين الشعب الذي يريد أن يدافع عن مصالحه، والسلطات أو القوى الأخرى ذات المصالح الأخرى، سواء كانت إحتلالاً أم شركات كبيرة أو غيرها.

 

إذن ليس للشعب، إن أراد ضمان النتيجة، غير أن يفحص الإتجاهات التي يمكن أن ينفجر بها الضغط المسلط على الحكومة، قبل أن يبدأ هذا الضغط. هذا يتطلب معرفة بخفايا الأمور ومتابعة العلاقات ومراقبة الضغوط. ليس ذلك سهلاً، ولهذا السبب يخسر الشعب البسيط اللعبة غالباً أمام مؤسسات الدول الكبرى والشركات الكبرى التي توظف المتخصصين بالتحليل وترتيب الأمور.

 

 لذلك وضعت الشعوب التي تمكنت من السلطة في بلدانها بعض الضوابط من أجل مراقبة تلك الضغوط المحتملة وسن القوانين التي تجعلها محرمة، ويمكن للشعوب المستجدة في الديمقراطية أن تدرسها من خلال مثقفيها ومؤسساتها الحزبية والبرلمانية، للإستفادة منها. نذكر منها على سبيل المثال سلطة البرلمان لمحاسبة الحكومة (تم تشويه اسمها في العراق وصار "استضافة"، ليس لأن العراق "الطف" بلد ديمقراطي في العالم، إنما أملاً بتخفيف أثرها وتقليل فائدتها) وتحريم التبرع من جهة أجنبية للحملات الإنتخابية وتحديد المبالغ الممكن التبرع بها، وكذلك إجبارية تسجيل العاملين في لوبيات الشركات والمؤسسات وكشف مصادر تمويلها، وهو ما كشف فضيحة لوبي علاوي في الولايات المتحدة، وكاد يكشف فضيحة من يدفع المال له لولا التحجج بضرورة السرية لأمن الممول! ولوبي علاوي هو نفس اللوبي الكردي في واشنطن الذي يسعى إلى مكانة لكردستان كمكانة إسرائيل حسب قولهم (1).

 

ومن الوسائل الأخرى لتسليط الضغط الشعبي، قانون يقضي بكشف أسماء حملة الأسهم في البورصات، وهو ما فضح المفضوح أصلاً وزير النفط الكردستاني"أشتي حرامي" في النرويج، فأضيفت فضيحة تسجيل حصة كردستان النفطية باسمه الشخصي إلى فضائح تحويله الأبار المكتشفة في كردستان إلى مناطق استكشافية لتبرير بيعها رخيصة إلى شركات النفط. لقد حاول البعض ممن لايتفوق مستوى ضميرهم على ضمير حُرامي الدفاع عنه بمختلف الطرق، لكن أحداً لم يقل للشعب الكردي، ماهي الضرورة الموجبة لتلك الحركات المريبة، وماهو الموقف القانوني لو أن حُرامي قال فيما بعد أن ذلك النفط حصته الشخصية كما هو مسجل قانونياً، خاصة إن حصل على دعم أمريكي في هذا الموقف، وإن لم يكن ذلك يمثل تهديداً مستقبلياً للشعب الكردي في حالة محاولة هذا الشعب التخلص من حراميته مستقبلاً.

إذن، وبما أن الشعب والمخلصين من ممثليه لايجيدون لعبة ضغوط الرشاوي والتفاهمات خلف الأبواب، فقد أدرك الشعب أن من مصلحته دائماً أن يكون اللعب بالمكشوف، ومن هنا أصر على الشفافية في كل شيء. الشعب الأمريكي والنرويجي وغيرهما ادركا ذلك وعملا على حماية سلطتهما من ضغط السريات قدر الإمكان، ونجحوا بذلك بدرجة أو بأخرى، لكن ما الذي فعله الشعب العراقي وممثلوه من أجل ردع الضغوط على حكوماتهم وبرلماناتهم وأحزابهم؟ إنهم يتصرفون وكأنهم يعيشون في الجنة، حيث لا ضغوط ولا منافسة ولا شركات ولا ولايات متحدة، وهكذا بذروا سلطتهم. وبدلاً من التفكير بالقوانين التي تزيد من قدرة الشعب على رؤية ما يجري في الكواليس، تجري محاولات متتالية من أجل منع الشعب من رؤية ما يجري حتى في البرلمان نفسه، من خلال محاولة إمرار قانون لإجراء التصويتات بشكل سري في البرلمان!

 

وهنا يمكننا ان نرى بوضوح منافسة الضغوط في البرلمان. فمن يقف مع الموقف الشعبي، يفضل العلن طبعاً، لكي يبين للناس أنه مخلص في موقفه كما وعد. ومن أراد العكس، يريد أن يسود الظلام ليتاح له أن يخالف ما وعد به، وأن يكذب بأمان. وهكذا وقف العديد (البعض لم نعرف من هم!!)  مطالبين بالتصويت السري على المعاهدة الأمريكية بحجج عجيبة، بينمما وقف الصدريون بوجه تلك المحاولة. الأولين أرادوا أن يتخلصوا من ضغط الشعب على النواب لكي يمكن لضغطهم أن يسير هؤلاء النواب، بينما اراد الصدريون أن يحصلوا على الضغط الشعبي لمواجهة ضغط الأمريكان، خاصة على المترددين.

 

موقف النواب الأكراد مثير للإهتمام. فهم عندما يصوتون لصالح الموقف الأمريكي، ليسوا بحاجة إلى التصويت السري، فليس هناك ضغط شعبي كردي بالضد من ذلك. لكنهم يدعمون التصويت السري لكي يتخلص من اراد التصويت معهم من النواب العرب، من ضغط شعبه. 

لذا كان رأي محمود عثمان في التصويت على المعاهدة الأمريكية معبراً بشكل صريح عن معركة الضغوط التي نتحدث عنها، فقال: " التصويت السري سيكون أفضل خصوصا وأنه يضمن للعضو البرلماني حرية أكبر في إبداء رأيه بعيدا عن ضغوط كتلته أو حزبه". (2)  وبالطبع فأن كتلة النائب وحزبه تمثلان الشعب، بشكل أفضل مما يمثله النائب شخصياً، على الأقل لأن الإنتخابات تمت على أساس الطريقة المغلقة، اي أن أصوات الشعب، وبالتالي تخويله، كانت للكتل والأحزاب وليس الأشخاص.

 

لكن خارطة الضغوط تغيرت في التصويت على قانون إنتخابات المحافظات بعد ذلك، فأيدت الكتل التي اتفقت على القانون، التصويت السري، بينما وقفت الكتلة الكردية بالضد منه. فأشار طيفور، النائب الكردي ونائب رئيس البرلمان إلى أن ما جرى غير دستوري وأن «التصويت السري لا يجوز الا في حالتي انتخاب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ونائبيه». وأبدى محمود عثمان موقفاً مشابهاً فقال: «ان فرض التصويت السري من قبل رئيس البرلمان وفي ظل غياب نائبيه تصرف غير قانوني ومخالف للنظام الداخلي» (3)  ولاعلم لي أن هناك فقرة في الدستور تجيز هذا التصويت السري في حالة تواجد النائبين.

 

وعادت معركة الضغوط والتصويت السري لتنقلب مرة ثانية هذه الأيام في التصويت لتعديل قانون الإنتخابات، وحاول رئيس البرلمان، أياد السامرائي إمراره بطرقه الإحتيالية الوقحة، ومرة ثانية وقف الصدريون مع التصويت العلني، بينما أمتدح محمود عثمان التصويت الإلكتروني قائلاً: ان «هذا الشكل من التصويت يحرر النائب من كل الضغوط ويجعله يصوت بارادة حرة وهو نظام حديث ومتطور»،(4)  ومن الواضح ضمناً أن عثمان يقصد التصويت الإلكتروني السري، لأن التصويت الإلكتروني العلني لا يحمي من أية "ضغوط".

 

وبينما كانت معركة الضغوط هنا واضحة علنية نسبياً، فأن تلك المعارك تكون خفية في العادة، وهناك يخسر الشعب المعركة أمام شركات متخصصة وشبكات علاقات وأموال وابتزاز ضخمة وطويلة الخبرة. لكن الأمر ليس سهلاً دائماً حتى على هؤلاء، فيضطر الضاغط إلى رفع الضغط من أجل إجبار المضغوط على السير في الطريق "المناسب" حتى إن كان "وعراً". لكن على الضاغط أن ينتبه لكي لا يسمح أن يصل الضغط إلى درجات خطرة تهدد بالإنفجار الذي يصعب حساب نتائجه.

مثال لذلك ما يحدث هذه الأيام في حلف الناتو من ضغط الأمريكان على أصدقائهم الأوروبيين من أجل دفعهم إلى إدامة وزيادة مشاركتهم في القوات الأطلسية في أفغانستان، وهو المشروع الذي يعاني من ضغط شعبي اوروبي قوي جداً في رفضه. وقد وصل الأمر إلى أن يتقلب أندرس راسموسن، الأمين العام للحلف، بين تحذير الأمريكان بأن الضغط على الأوروبيين وصل حدوداً حرجة، وبين ضغطه على الأوروبيين بعد أيام من ذلك التحذير ليصل إلى درجة التهديد، حيث نبه (7 اكتوبر2009) أوروبا إلى "ضرورة تعزيز جهودها في أفغانستان إذا أرادت تجنب توتر العلاقات مع الولايات المتحدة" وإلا فـ "سيكون ذلك مدمرا على المدى الطويل بالنسبة للناتو". وللهروب من تلك الضغوط، فأن الحكومات الأوروبية "تتسابق إلى المخارج" من أفغانستان، كما علق بعض السياسيين.

 

وفي العراق أيضاً لم يكن حساب الضغط الأمريكي الأمثل على الحكومة العراقية سهلاً دائماً على الساسة الأمريكان. وكمثال يجسم تلك الصعوبة نأخذ تحذير السناتور الجمهوري جون كورنين (آب 2007) حين قال لشبكة ايه.بي.سي التلفزيونية بأن الضغط على المالكي يمكن ان يأتي بنتائج عكسية، مؤكداً: "لا أعتقد انه في مصلحتنا ممارسة كل هذا الضغط على الحكومة العراقية الجديدة لدرجة تدفعها الى انهيار أكيد." (5)

 

اللصوص كعامل ضغط

من الطبيعي أنه كلما كان لديك أصدقاء أكثر، إزدادت قدرتك على تسليط ضغط أكبر. ولقد كان اللص دائماً صديق الإحتلال المخلص والطبيعي, وشريكه في ثروة البلاد. لذا فكثرة اللصوص مفيدة للإحتلال. وهذا ما يفسر الحماس الشديد للإحتلال الأمريكي، ليس فقط في تشجيع شركاته في سرقة ألبلاد من خلال تجاهل تلك الجرائم حتى عندما يتم كشفها، وإنما أيضاً من خلال تقديم الدعم الكبير إلى الفساد العراقي، خاصة عندما يكون على مستوى عال. وبالفعل فقد تدخل الجيش الأمريكي أكثر من مرة لنجدة اللصوص الكبار، فقام بإنقاذ وتهريب الوزراء الذين تم كشف فسادهم، بل وصل الأمر إلى تخليص المدانين من يد الشرطة، وهم خارجين من قاعة المحكمة التي ادانتهم!

 

لا يحرص الإحتلال على حماية الفساد فقط، بل أيضاً على وضعهم في مراكز القرار في البلاد ليكونوا أكثر قدرة على خدمته. وكذلك فأن للفساد فضيلة أخرى في غاية الأهمية، وهي أنه مصدر مستمر لأوراق ضغط للإحتلال، من خلال المعلومات التي يحصل عليها الإحتلال والتي يمكن أن تستخدم للإبتزاز من خلال تهديد الضحية بكشف أوراقها. وهو ضغط يصعب على أقوى السياسيين مقاومته، ويجعله مستعداً لأي شيء – وهكذا يكاثر الفساد نفسه!

ليس الفساد وحده مصدر تلك الوثائق الإبتزازية الضاغطة، فلدى الحكومة الأمريكية والـ "سي آي أي" كمية هائلة من الوثائق والمعلومات التي لا شك أن الكثير منها مفيد لإبتزاز السياسيين وأصحاب النفوذ العراقيين. لذلك نرى أن هؤلاء "الأصدقاء" الأمريكان، لم يسلموا للحكومة العراقية تلك الوثائق، حتى عندما كانوا بتوافق تام معها، كما في ولاية أياد علاوي. ومما لا شك فيه أن كماً كبيراً من هذه الأوراق يخص الكثير من جرائم الصداميين، الذين سيمكن ابتزازهم وتأمين طاعة حتى من لا يرغب منهم بذلك.

هذه السيطرة الممتازة على الفاسدين وأصحاب الفضائح، تجعل لهؤلاء قيمة عالية إضافية لدى الإحتلال، وهو ما يفسر شدة حرصه على وضعهم حيث يكون لهم التأثير الأقصى، فيكونون أدواة كفوءة في يده.

 

يمكننا أن نرى قيمة اللصوص وسقط المجتمع بالنسبة للإحتلال في البلدان الأخرى، فخير مثال على الدول الأقرب الى إسرائيل حتى يمكن القول أن إسرائيل تحتلها، هي مصر. ويمكننا أن نرى مدى حرص إسرائيل على تأمين حكومة من الحثالات لإدارة مصر. وبالمقابل نرى أن مثل هذه الحكومة تقوم برد الجميل بمساعدة إسرائيل في حصار الشعب العربي في غزة أثناء قيام إسرائيل بحرقه، وبتعذيب الأسرى الفلسطينيين في مصر حتى مات أحدهم، وفي الجانب الآخر تبيع مصر الغاز إلى إسرائيل بسعر مدعوم لسبب "لايعلمه إلا الله".

 

وكمثال ثان يمكننا أن نرى تعامل إسرائيل مع الحكومتين الفلسطينيتين: الشرعية المنتخبة في غزة, والفاسدة التي فرضت نفسها في الضفة. لاغرابة في الفرق في المعاملة. فالأولى تطالب إسرائيل بحقوق الفلسطينيين وكرامتهم، بينما لا يكتفي رئيس عصابة اللصوص عباس بالتساهل في كل شيء مع الإحتلال بل يقوم أيضاً بمهمة القاتل لقائد شعبه ورمزه، واغتيال من يزعج إسرائيل من الفلسطنيين وحمايتها من إدانة الأمم المتحدة قدر الإمكان. فهل هناك غرابة في أن يحرص الإحتلال على اللصوص ويسلط الضغط من أجل وضعهم في مركز السلطة؟ الفساد واللصوص أوراق ضغط بيد الإحتلال، والديمقراطية ورقة ضغط الشعب. لذلك فالقول بأن الإحتلال، أميركا أو إسرائيل، قد تسعى إلى نشر الديمقراطية في البلدان التي تسيطران عليها، تهمة لهذين النظامين بأنهما لايعرفان مصلحتهما، ولا يجيدان اللعب باوراق الضغط السياسي، وهذا ظلم لم تؤكده التجارب!

 

كيف يساعدنا ذلك على تقدير ما تتمناه الولايات المتحدة من نتائج في الإنتخابات المقبلة؟ وما الذي يقوله لنا عن الجهات التي تحظى بمباركة الولايات المتحدة لحكم العراق، وتصر على مشاركتها في السلطة؟

 

صائب خليل

26 تشرين الثاني 2009

 

....................

(1) http://www.alnoor.se/article.asp?id=12613

(2)http://www.adnkronos.com/AKI/Arabic/Politics/?id=3.0.2645501679

(3) ttp://www.krg.org/articles/detail.asp?rnr=81&lngnr=14&smap=01010100&anr=24944

(4)http://www.kululiraq.com/modules.php?name=News&file=article&sid=46654

(5)ttp://tareekalshaab.blogspot.com/2007_08_27_archive.html

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1238 الخميس 26/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم