أقلام حرة

الوطن في عيون بائعات سوق هرج

mahdi alsafi2ليس حب الارض، ومرض الحنين للبيت الاول بدعة، ولا التضحية في سبيل الحرية ترف انساني او سذاجة مثقف او حماسة لسياسي ثوري، انما هو الدفئ الروحي والنفسي للحياة، تلك الخطوات التي لاتعرف وجهتها،، لاتخسر شيئا من سنوات العمر خلف الرفاهية المجهولة، عيش وسط التراب......

ويوم تشعر انك ترتجف من شدة القلق او الخوف وليس البرد، فأعلم انك غريب (اما الارض ليست ارضك او وطنك اصبح بلا حياة)،

الكارثة المتوارثة تقع احيانا عندما يستولي حفنة من الاوغاد على مقاليد السلطات الثلاث "الدين والدولة ولقمة العيش"، حيث يعبر الزمن، ويمر مر السحاب دون ان تلمس منه شيئا، غير الهم، والظلم، والتعب، والفقر، والعوز، والخوف من المجهول، ويختمها ويطبق عليها بعد ذلك الحظ التعس بكثرة الامراض المتوالية، وبالمائدة الدسمة دوما بالثرثرة، وبالمشاكل السياسية، والخدمية، والصحية، والدينية، الخ.

هكذا شعوب وامم تزرع المر، فتحصد الحنظل، لاشيء يثمر عندها،

بل هي غارقة بالذنوب، وقد تكون سببا في الجفاف، والتصحر، والتغير المناخي، وغلاء المعيشة، وحتى الزلازل، مستنقع لكل المآسي والصراعات والازمات والتوترات، لانهم يسيرون عكس حركة التاريخ، والفطرة الكونية، قد لاتكون هي صاحبة حزمة الاخطاء المباشرة، لكنها جزءا مهما من سوره العالي جدا، لا احد يجزم بأن مايحصل في الارض مرتبط بقرارات السماء، والكواكب، والنجوم، والبحار، والرياح، الخ..

ولهذا تجد ان سوق فضائيات تجارة الفال وقراءة الطالع والابراج، والسحر والتنجيم رائجة بقوة هذه الايام....

في خضم الاحداث المتسارعة النازلة على الرأس كالمطرقة، ومشاغل الحياة ومتطلباتها ينسى الانسان قطار العمر السريع، يسير بسرعة عالم الالكترون، ولأن التكنولوجيا علم ينزع في الغالب الأحاسيس، ويجرد الانسانية من المشاعر، تبقى هناك مساحة شرقية لابأس بها، تزهر العواطف العميقة الاثر، والمترسخة في الوجدان الانساني السليم، عند بعض الاشخاص الذائبين في حب الاوطان والتراث حد العشق، فتبحث ارواحهم عن فطرة الحياة البسيطة العائمة في المجتمعات العشوائية، في الاسواق الشعبية، فهي تمثل حقيقة المنافسة والصمود والتحدي، والتي تظهر فيها صور مختلفة جلية الوضوح عن الامل، الغارق في اوحال الفساد السياسي والاخلاقي والديني، انواع واقسام ومجالات عديدة من الاعمال الشاقة والصعبة، داخل دوامة البحث عن الرزق الحلال، في سبيل تأمين لقمة عيش يومية، هناك يشعر الانسان المثقف بطعم خاص في الحوار والدردشة القلبية المباشرة مع تلك الطبقات المنسية ...

سألتها اذهب وارجع وانت على نفس بساط الخوص(فراش البضاعة) ومهنة بيع الخضرة، اجابت ماذا افعل لم اخرج على التقاعد(بعدني ماطلعت تقاعد)،

ولكنها صامدة بألف مسؤول، وزير كان او سفير او مدير عام، لاتختلف كثيرا عن زميلتها التي تفترش على الارض عدة اغراض لو ابتاعتها جميعا لما غطت مايصرفه الموظف يوميا على وجبة غداء واحدة(او لماغطت ايضا كشف رؤية طبيب او شراء حلويات الاطفال)،

لكن مادام هناك من ينصح بعدم شراء النستلة والاكتفاء بتمر الزاهدي، فلا ضير ان يبقى العوام فقراء، وتجار السياسة والدين ابناء للترف والراحة والبذخ المقدس،

سألتها بكم حجية هذا الشيء(بيش حجية هذه الحاجة)اتضح ان كل اسعارها بألف دينار،

وعلى قول اهلنا الطيبين "سالفة مناه ومناه"( اي حكاية منها ومني)، اجابت "انا خالة ايضا كنت مغتربة، زوجي كان في استراليا قبل٢٠٠٣

وعمل طلب لم شمل، وذهبنا الى استراليا، وذكرت المدن التي استقرت فيها عدة اشهر(ومن تسميتها للمدن عرفت انها صادقة ولم تختلق القصة وهي ليست بحاجة لها)، ولكنني لم اتحمل الغربة وفراق الوطن، فعدت والظمأ يجرني اليه بقوة، الى ان نرى الى اين الوطن ذاهب"

وهذا هو حال بائعة على ارض الله، لم المس في عيونها ذرة ندم، بل شعرت بالخجل امام هذه الروح الوطنية الصلبة (انه عشق الارض)، التي تمتلك القدرة على التكيف والصمود بوجه الظروف القاسية والشديدة التعقيد، بينما يهرب العديدين منها، ولكل منا عذره واسبابه وطاقته على التحمل...

اما مشهد بائعات الالبان والاجبان (ومعاناة بائعات الاسماك والزوري) بعد اذان المغرب، مشهد تراجيدي محزن جدا ,تبقى الاوعية (طشت او صواني الجبن) ممتلئة بالبضائعة السريعة التلف، اقصى ما استطيع ان اقدمه لهن، هو اشاعة مفهوم المنتج الوطني، ناقلا معاناتهن عبر الاعلام الشفهي والمكتوب، نتكلم بصوت عال،

 ونسأل اين الاستثمار الذي تروج له حيتان الفساد، الا يكفي الاستيراد، وخروج العملة الصعبة، تغيرت المصطلحات والعبارت بدلا من بغداد او العراق يقرأ مايطبعه الاخرون،

صارت بلادنا تستهلك ماتزرعه وتنتجه الدول المجاورة...

في الاسواق الشعبية تجد فيها عوائل كاملة تعمل من اجل لقمة العيش الشريف، ترى الاجيال المتسربة من المدارس، والشباب المراهق الامي، لكنه الكاسب بعرق جبينه،

الشرف ليس فيه طبقات او مقامات، انما هو فعل او عمل فطري اخلاقي، ينموا في النفوس الطيبة والبيئات النظيفة الصالحة

يسألني احد سائقي الاجرة حائرا وشاكيا، يقول" ماذا اصنع وجدت هذه المحفظة في التكسي لا اسم ولاعنوان فيها..ولا اعرف صاحبها..فقد وجدتها اثناء تنظيف السيارة...اهله منعوه من ادخالها للبيت وامروه ان يتركها في التكسي....بينما يسرق بعض رجال الدين حقوق الفقراء، ويظهرون بها امام المجتمع وكأنها ميراث عائلي،

الاخلاق شجرة مثمرة في القلوب المؤمنة الصادقة مع الله سبحانه وتعالى، ومع ذاتها كما قلنا...

الحياة ليست صالة للقمار، يأخذ نصيبه من يحالفه الحظ، انما منظومة كونية محكمة التنظيم والترتيب والصناعة، من يخالف ثوابتها وقوانينها الطبيعية والوضعية (المتوافقة مع الفطرة الانسانية)يقع فريسة الفشل والتراجع والانهيار والتيه،

وهذا مايحصل لبلادنا، كل شيء يتراجع الى الوراء، الاخلاق، والاقتصاد، والخدمات، والصحة، والتعليم، والعلاقات الاجتماعية، والمستوى المعاشي، والامن، والزراعة والمياه...الخ.

تلك هي نتائج الفساد والاستعلاء الاجوف للانفس المريضة المشبعة بثقافة البداوة والعصبيات القبلية، لايرى البعض منهم في الوطن ابعد من حدود مضارب العشيرة وابناءها...

القرن الواحد والعشرين قرن القرية الكونية، عصر انصهار الهويات، وتداخل الثقافات، وتنافس الحضارات، يغرق من لايضع له موطئ قدم في المتغيرات العالمية المتجددة (لاسيما السياسية والاقتصادية)، ومع هذا تبقى الديمقراطية الرأسمالية، الافة المدمرة للاستقرارالاقتصادي والتجاري وحتى المالي الدولي، فنرى ان  دول الرفاهية الخليجية بدأت باستنساخ تجربة الضرائب الشاملة، بما فيها ضريبة الاستهلاك اليومي، تصور ان تلك التجارب تزحف على مجتمع العشوائيات، وتجارة الاسواق الشعبية والارصفة والساحات العامة،

فالثقافة الالكترونية العالمية هي كالفيروسات سرعان ماتنتقل بين الدول (وبالاخص بين الانظمة الرأسمالية)، فيتأثر بها الجميع، مايفعله الكبار امر يطيعه ويتبعه الصغار، ولكن من حق اي شعب او امة على وجه الارض، ان تحتفظ بالهويات والخصوصيات والثقافات والانتماءات المحلية، حتى وان اصبح العالم اصغر من قرية، فالوطن الذي نراه في عيون الفقراء وبسطاء المجتمع، لايمثله حفنة من الانتهازيين الفاسدين، مجموعات المصالح الشخصية والعائلية او القبلية، الذين دفعت بهم الامبريالية الى الواجهة على انهم رجال سياسة واقتصاد ومال اي هم نخب المجتمع الرأسمالي، انما يمثله من قاوم وعارض انظمة الظلم والاستبداد البائدة، ووقف وقفة الابرار في ساحات الجهاد من مقاتلي الحشد الشعبي (وبقية الجماعات المعارضة للتوجهات الرأسمالية الامبريالية)، هذه المجتمعات او التجمعات السكانية العشوائية هي من يستحق ان تقود اوطانها، بمن يمثلهم من القادة الابطال، وليس الطغاة الجبناء، او من يتشبه بهم، وبطريقة حكمهم، بإدارتهم الفاشلة للبلاد، وسرقتهم لموارد العباد...

 

مهدي الصافي

 

 

في المثقف اليوم