أقلام حرة

"موجتان" للبتول محجوبي.. شعرية الفقد لمّا تُسربل تقاطع ذاكرتين

ahmad alshekhawiفي ديوانها الصادر عام2016 عن منشورات رابطة كاتبات المغرب،تطالعنا محجوبي البتول بباقة قصائد معاندة تضرم فتيلها أسلوبية بنكهة المرثاة،تنطلق من أدغالها كي تعود إلى مرافئها ،متصادية النبر مع البروز المهيمن لموجتين أو ذاكرتين أو تجربتين،تندغم وتنغمس كلاهما في ممارسة نيوكلاسيكية منتجة لتوليفة يدشّنها تواشج دوال القول الشعري.

بحيث تكمّل تجربة الهجرة إلى المدينة/وجدة ،تجليات الماضوية وتجمّل هواجس المنبت، إذ يثقل الذات برواسب لا فكاك ولا مناص من بعثها مجددا ومعاودة صياغتها ،حسب درجات اختمار الذاكرة الطفولية ،ومنسوب توهّج الوعي في توجيهه لمفردات ورؤى الفقد ،داخل حدود خارطة بوح ساخط مراوح بين عروضيته وغنائيته المنثورة.

ما بين المدينة والبداوة ، تضرب القصيدة المخاتلة مزلزلة نظم اليقينيات، ومنتسبة إلى جملة ميكانيزمات محتفية بالوظيفة التشكيكية، إذ تخلعُ أسرارها وتسقط كينونتها على شتى ما يمكن أن تقترحه هوامش الذات والحياة.

نصوص تغازل الذائقة بمراياها المكشوفة على جهات العري النرجسي المفجوع، تندب مدّ الفراغ المتروك بغتة وفجائية،وتغمزنا بمقولة" الشاعرة بنية بيئتها" ها هنا، في حالة البتول محجوبي واللواتي هنّ من طينتها، وكيف أنها بالفعل ،أعمق من مجرّد أثر، خطّ بقلم الرصاص ،فهو بالتالي قابل للزوال و الانمحاء.

من ثمّ وابل الأسئلة والمعالجات المستفزّة بمنطق بياضات جسد الشعرية ككل ومركّب،محيل على كامل هذا الغبن، إذ يعلن فلسفة استنكارية تقول باحتمالات ترع نظير كهذا فراغ وجودي، ولا تأتيه.

صعق بمعنيين رافدان في طعن الذات والشعرية والحياة، يشيان بمعاناة مضاعفة ،من خلال سردياتها يمارس النص تضليله ومراوغاته المفتية بانطباعات تختزل الحلول في ديدن إدمان الشعر وجنون تعاطيه.

نسوق النتفات التالية،للتقريب مما قصدنا إليه، نشتقّها من جلّ النصوص المزدانة بها مثل هذه المجموعة المشبوبة بانفلاتات الأنثوي هشة وقابلة للكسر:

" نطق المغيبُ بوعده فترجّلي/عن صهوة الدّنيا ولا تتعجّلي

إنّي بوعد الله أُومنُ طاعة /لكنّ فقدكِ يا أميمةُ يبتلي

كسّرتُ ثوب الصمت يوم أضلّنا/شبحُ المنون وقد دعاكِ لترحلي

أدري بأنّ الموت موردنا معا/ لكنّ فجأته تهبّ فنصطلي".

...........................

" يا أنتِ

إني بالصبابة منهك

فدعي الحروف تسيل

لا تتوقّفي عند اختفاء ملامحي

فالشوق يولدُ من رحيق البعد

ها إني اقتربت

فبدّلي أوجاع غربتنا سماء

لا تغيب نجومها

إنّ الليالي قاحلاتٌ فيَّ

فلتروي فؤادي من نشيدكِ

واسمعين".

....................

" كم اشتقتُ يا دهشتي

لرحيلٍ

يعيدُ إليَّ بريق السّنين التي عبرت بغتة

منهك وجه هذا المساء

أنا الآن وحدي

أبدّد ظلمة هذا الفراغ

لكي يستعيد الندى روْحه

حينما يلتقي البدء بالخاتمة".

......................

"كانت تبني

وتطير بريشة الفرحة

بين الأغصان

لم تدر المسكينة

أنّ القشّة تحملها

بعناء".

....................

" في القلب متّسع لذاكرة تعيش إلى الأبد

كلّ المرايا مهرها غالٍ

ومهر قصيدتي

نصف الذي شاء القضاءُ

بأن يخط جبينه أولى حروف الماءِ

يوما كان أسعدَ

إذ تعلّم مزنه غزل البحارْ".

..........................

" وعي تغزل الأسحار بُردا/ لتلبسها المآذن والقبابُ

صفوا لي ذي المآذن دون بوح/وهل تحلو بلا شجن ربابُ

إذا هدأ الجنون بعمر جيل/ فسيان العمارة والخرابُ

سبى قلبي هواه فسرت كرها/وهل يُرجى بلا عود ذهابُ".

.......................

"أكتب بالأحمر أغنية

أزرعها فوق شفاه الأطفال الآتين

من الجوع

من الخوف

من الموت الهادر

والأحجار...

أرسم بالأسود حلكة ليل

أقذفها في عينيْ جلادي

وأسافرْ".

منجز يُغدق علينا من نزعته الفجائعية، مضيئا في الذات اللحظة الشعرية التي يتيحها زمن صمت ما بعد اهتزاز فخاخ الرّدى.

يضعنا إزاء زخم من تفاصيل ذهنية، عشّش فيها فلاش اغتيال الأمومة والأبوة، تزامنا أو تعاقبا، مبقيا هذه الروح الهشة إذ تغازل بثرثرتها ما يفيده التقاطع بين ذاكرة المكان والطفولة،منصاعة بالضرورة إلى الانخطاف بتيمات اليُتم،واستثمارها على نحو يطوّع التصوير والإيقاع والرؤى،بما يجعلها منظومة يستعير المخيال في غمرتها انفلاتاته وشطحاته ،مغرقا في خطاب الولادة الثانية المذيلة لمشهدية ما بعد حصاد المنون.

غياب بمعنى الحضور،يضغط على الذات الشاعرة، يُلهمها معنى الإقامة في الجرح، ينضجها كفاية، يؤهّلها لتركب موجتيْ تقابل، لا تضاد أو تنافر، طفولة عجنتها بادية البدايات، فمدينة للإغتراب المتعرّي على واقع مرارة الفقد.

وهكذا، فتح المناوبة الهذيانية ،على جغرافيا للتيه،والانزياحات التي تكون البوصلة فيها القصيدة فقط، إذ تمتح من كهذا تقاطع،يناغي برزخية الصلح في شموليته، ويسكب من بحبوحة التصافي وإيجابيات الحضور، ملء ذات أضجرها انكسارها، فلاذت بمصالحة شاملة،مع اغترابها، مع يتمها،مع الموت،ومع مختلف العناصر التي قد تصلها بالكينونة والغيرية والكونية.

إنها بالمختصر، شعرية تبسط أيادي البياض،لجملة ما يحاصر الذات بعبثية وإدماء وفوضوية وانشطار وغبن وجودي ومرارة فقد.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

في المثقف اليوم