أقلام حرة

أية زعامة يحتاج العراق؟

قد يكون لدى الناخبين في المناطق التي خضعت لسطوة داعش (ليسمها سنية من يشاء) وضوح أكبر مما لدى بني وطنهم في المناطق الأخرى من العراق بشأن من يختارون ليمثلهم في الانتخابات النيابية التي أصبحت على الأبواب. والسبب بسيط هو أن لهم "ثأرا" يجب أن يأخذوه من لفيف من الشخصيات القديمة التي كانت تنطق باسمهم والتي ساهمت في خلق الأجواء المناسبة لحلول الكارثة الإنسانية التي تعرضوا لها. وهم يعرفون هذه الشخصيات جيدا ويتطلعون لأناس غيرهم ذوي مواصفات مختلفة ليحلوا محلهم. لقد اعتمدت تلك الشخصيات "الكارثية" على إثارة المخاوف القومية تارة والمذهبية تارة أخرى للحصول على ما حصلت عليه وتسعى جاهدة للحفاظ على ما كسبت أيديها حتى بعد فيض الدماء التي سالت. غير أن خطابها التحريضي القديم قد ولى زمنه بعد أن انكشف زيفه وعافته الناس بعدما رأت ما آل إليه من مآس لم ينج منها سوى من روج لهذا الخطاب.

غير ان استبدال أمثال هؤلاء لا يكون سهلا كاستبدال حصاني عربة متعبين بأخريين لم يصبهما العياء فالدول الإقليمية التي تدخلت بالمال وغيره في الاختيارات السابقة لن تترك الأمر لمزاج الناخب وتقديره بل لا بد وأن تتدخل في هذا الاختيار ويكون هذا التدخل بالدرجة الأولى في ما يعرض على الناخب من خيارات. فالشخصيات القديمة التي بقى لها بعض من ماء الوجه يمكن إعادة تسويقها بعد تمريرها عبر ال " الفوتوشوب" أما "من خفت موازينه" فينزاح ليخلي مكانه لشبه به قدر ما أمكن لم تألفه العين. والدول الإقليمية اللاعبة، ولحسن الحظ، ليست من طينة واحدة فالتركي البراغماتي الذي يحابي من يروج لثقافته وبضاعته كان من يكون ليس كالسعودي الأيديولوجي الذي يجد في من ليس مثله عدوا له كان من كان. ويشارك الإماراتي بعضا مما لدى الإثنين.

وعدا أقلية تعبد واقعا متخيلا جعلت من ذواتها المتأزمة معيارا، فإن غالبية الناخبين في هذه المناطق لا تؤرقها فكرة من يكون رئيس الوزراء القادم من المناطق الأخرى التي لم تطأها أرجل داعش (ليسمها شيعية من يشاء). ورغم أنها في السابق، عندما كان التصويت على أساس قومي أو مذهبي، لم تكن الطرف صاحب الكفة الراجحة في قرار من يكون رئيس الوزراء المنتظر فإنها اليوم قادرة على تنويع خياراتها والخروج من دائرتها المغلقة إلى الفضاء الوطني حيث اخترقت بعض القوائم الفضاء المغلق ومنها قائمة رئيس الوزراء حيدر العبادي ذات التنوع الوطني. ويمكن القول بشكل عام أن جماهير هذه المناطق ترى في حيدر العبادي رجلا ليس هناك ما يؤخذ عليه. فعدى إن اسمه ارتبط بتحرير مدنهم وقراهم من داعش فإن فترة رئاسته اتسمت بانخفاض حدة الصراعات السياسية بدرجة ملحوظة قياسا بما سبق مما يعطي مؤشرا قويا على إمكانية حلول الاستقرار الذي ينشدوه إذا ما اصبح رئيسا للوزراء مرة ثانية. لذلك بات لهم القدرة، إذا ما حسموا أمرهم، على أن يكونوا رقما صعبا في ترجيح الكفة بين المرشحين الأقوياء الثلاثة لمنصب رئيس الوزراء والاختيار بين هؤلاء الثلاثة لا يبدو صعبا عليهم لأن عوامل الاختيار لديهم تختلف إلى حد ما عن عوامل الاختيار لدى بني جلدتهم من المناطق الأخرى.

في الجانب الآخر الذي اعتاد في السابق أن يكون صاحب الكفة الراجحة في تقرير من يكون رئيس الوزراء اللاحق فإن انبثاق كتلة "النصر" بزعامة رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي وكذلك كتلة "الفتح" بزعامة هادي العامري واللذين كانا جزءا من كتلة دولة القانون من شأنه أن يوسع خيارات الناخب الذي كان يصوت لكتلة دولة القانون وفي نفس الوقت يزيد من صعوبة اختياره فقد أصبح الآن أمام ثلاث خيارات بشأن من يمكن أن يكون رئيس الوزراء المقبل بدلا من خيار واحد. ولا أرى في انقسام المجلس الإسلامي بخروج السيد الحكيم وتشكيله كتلة"الحكمة" ولا بالتشكيل الجديد للتيار الصدري ما من شأنه بلبلة الخيارات الانتخابية فالحسم (بالنسبة لمنصب رئيس الوزراء) ينحصر في الكتل الثلاث السابقة.

هنا أجد أن شخصية زعيم الكتلة وليس من تضم الكتلة أو ما هو اسمها هو العامل الذي سوف يلعب الدور الحاسم في اختيار الناخب الذي كان يصوت تقليديا لكتلة دولة القانون وهذا يشمل بالطبع من كانوا يصوتون لكتلة بدر. وهنا أيضا أريد أن أرسم تصورا حول ميزات كل من القادة الثلاث.

نوري المالكي (قائمة دولة القانون):

يرتبط اسم الرجل بمرحلة صعبة عاشها العراق وترتبط هذه الصعوبة بالدرجة الأولى بمرحلة التأسيس الجديد الملئ بالتحديات: تداخل الصلاحيات بين السلطة العراقية وسلطة المحتل الأمريكي، إعادة تشكيل الجيش العراقي وجهاز الأمن، إعادة بناء الوزرات، إصلاح القطاع النفطي الذي اصابه الخراب من ايام الحصار وأعمال التخريب التي تلت احتلال العراق، حل مشكلة الطاقة، المشكلة الأمنية، الخلافات الحادة ذات الطابع القومي والمذهبي وضمن نفس المذهب، وفيض من المشاكل التي تركت اثرا بعيد المدى في النفوس.

وهو رجل يمكن أن يقال أنه ذا منحى"عقائدي" وضعه موضوعيا في موقع قريب مما يطلق عليه محور إيران-بغداد-دمشق وامتدادها في جنوب لبنان وهو ما يثير حفيظة الولايات المتحدة والغرب وكذلك العديد من دول الجوار والدول العربية الأخرى التي تناهض تمحورا كهذا. ويعتقد الكثيرون أن وجوده كرئيس وزراء مرة ثالثة من شأنه أن يعيد إحياء الخلافات والعداوات القديمة الداخلية والخارجية والتي كلفت العراق كثيرا.

وهو فوق كل ذلك قد أخذ حظه على رأس السلطة التنفيذية في مرتين متتاليتين ثم نائبا لرئيس الجمهورية رغم أن المنصب الأخير معنوي ولا يتمتع شاغله بصلاحيات تنفيذية.

وإذا أخذنا بالاعتبار حجم الاعتراضات على شغله المنصب مرة ثالثة حتى من البعض من داخل كتلة دولة القانون تكون فرصتة في النجاح في تشكيل حكومة ثالثة ضعيفة للغاية إن لم تكن معدومة وهو بذلك لا يمثل بالنسبة للكثيرين، وربما غالبية العراقيين، الخيار الأفضل للمرحلة القادمة.

هادي العامري (قائمة الفتح):

يصيب بعض الأطراف حالة من الانكماش عند ذكر اسمه فهو بالنسبة لها يمثل خيارا إيرانيا صرفا ولكني لا أعتقد ذلك ليس لأن الرجل لا يحتفظ بعلاقات وثيقة مع إيران بل لأن الإيرانيين ليسوا بأولئك اللاعبين المتهورين ولن يلعبوا لعبة المفاضلة بين المرشحين وأهم مشكلة بالنسبة لهم أن لا يصبح العراق مصدر تهديد لهم وهذا لن يحدث أيا كان من يصبح رئيس الوزراء فرئيس الوزراء المرتقب، عدى افتراض أن سيسعى لأن تكون علاقته طبيعية مع إيران ومع جميع دول الجوار حيث لا مصلحة ولا طاقة في استعداء أحد، عليه أن يحترم الدستور الذي يمنع استخدام أراضي العراق للقيام بأعمال عدائية ضد دول الجوار.

والاعتقاد السائد هو أن العامري يحظى بتأييد تشكيلات الحشد الشعبي بل هناك من يعتبره المرشح الرسمي غير المعلن للحشد ولكن هذا الاعتقاد لا يمكن أن يكون جازما لأن الكثير من منتسبي الحشد الشعبي يؤيدون العبادي الذي كان قائدهم الرسمي كونه القائد العام للقوات المسلحة والتي أصبح الحشد الشعبي جزءا منها وطالما دافع العبادي عنهم ضد خصومهم. كما وأن هناك بعض منتسبي الحشد ممن يؤيد المالكي. ولا يبدو أن هناك توجيها رسميا من قادة الحشد لمنتسبية بالتصويت لمرشح محدد وإن منتسبي الحشد قد ترك لهم حرية الاختيار. ويعتقد أن مستشار الأمن الوطني فالح الفياض والذي هو أيضا رئيس هيئة الحشد الشعبي أميل للعبادي من غيره من المرشحين.

و لا يعرف عن العامري اتصافه بميزات بارزة على مستوى التخطيط أو الإدارة ويعتبره البعض من الوجوه التقليدية التي لا تحمل شيئا جديدا للمستقبل وأنه "مؤدلج" وهو من هذه الناحية قريب الشبه بالمالكي منه للعبادي.

حيدر العبادي (قائمة النصر):

تكنوقراط لا تملي قراراته العقيدة بل المصلحة العراقية. يجيد اللعب مع الجميع واستطاع بفضل انتصاراته على الإرهاب وسيطرته على الخلافات السياسية أن يبعد العمل السياسي عن حالة التوتر والشد الذي اتسم به في المراحل السابقة. كما وأنه بفضل نجاحه في نسج علاقة عمل فعالة مع السلطات الأخرى خاصة رئاسة البرلمان جعل فترة العمل البرلماني الحالية من أكثر الفترات فعالية في إقرار القوانين خاصة المعطلة منها. وبفضل تكتيكاته الناجحة أبطل الكثير من حجج الخصوم التي كانت تثار ضد سلفه المالكي الأمر الذي قلل من المناكفات التي كانت تستنزف الكثير من طاقة الدولة ومؤسساتها. لم يستعمل القوة في حل المشاكل إلا في موضعها وأجاد توقيتها فأتت نتائجها مرضية إلا لمن تضررت مصالحهم العائلية والحزبية.

يلومه البعض على البطئ في محاربة الفساد ولكنه لا يستطيع أن يقفز على الآليات القانونية المكلفة بمحاربة الفساد كلجنة النزاهة البرلمانية وهيئة النزاهة، وهي من الهيئات المستقلة، ويختزل دور المفتشين العموميين دون أن يتحول إلى "قائد ضرورة" في زمن انتفاء الحاجة لقادة الضرورة. ولا شك أن المرحلة القادمة وقد انكسرت شوكة الإرهاب ستكون اولوياتها محاربة الفساد وإرساله إلى حيث انتهت داعش.

وعلى المستوى الخارجي فهو يتمتع بقبول (ولن نقول رضى لأن رضى الآخرين عن العراق صعب المنال) القوى الإقليمية والدولية وهو شرط لازم للاستقرار وعملية البناء.

وقد أظهر العبادي في ملف العلاقات الخارجية قدرة على تطييب خواطر الجميع فقد أفهم القوى الإقليمية التي تخشى النفوذ الإيراني أن العراق تحت قيادته ليس بوارد الانسياق وراء أحد بل وراء مصالحه وحسب وأنه ليس بوارد الدخول في لعبة محاور وأنه ينظر إلى الجميع بمنظار واحد ولا تأخذه بذلك عقيدة أو أيديولوجيا.

ومن المرجح أن يفكر العبادي في المرحلة القادمة، إذا ما فازت كتلته باالأغلبية، بأن يجعل من العراق ساحة اللقاء والتفاهم الإقليمي بدلا من أن يكون ساحة الصراع بين دوله. فعلى ساحة العراق يمكن للاقتصادات الإقليمية أن تتنافس على الفرص وعلى ساحته يمكن أن تتقارب الأفكار.

إن كونه رجلا أكاديميا يحمل شهادة عالية في تخصص علمي من شأنه أن يؤسس ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث (ربما عدى فترة الدكتورعبد الرحمن البزاز القصيرة في منتصف ستينات القرن الماضي) تقليدا جديدا يخرج البلد من دائرة حكم القادة الحزبيين أو العسكريين الذين غالبا ما انتهت ولاياتهم بمآس بسبب ضعف كفائتهم وعدم فهمهم لمتطلبات الحكم الرشيد.

 

ثامر حميد

 

في المثقف اليوم