قضايا

سجاد مصطفى: العالم على حافة الهاوية.. بين الخوف من المستقبل وندم الحاضر

إنها لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية، إذ يبدو أن العالم يقف على حافة الهاوية، حيث تتداخل الصور والأصوات في فوضى لا تنتهي، والحدود بين الحقيقة والوهم تذوب أمام أعيننا. في هذا العصر الذي يشهد تضخمًا غير مسبوق في المعلومات، يبقى السؤال الأهم: هل حقًا نحن نتقدم؟ أم أننا مجرد عابرين في هذا الزمن، نتعلق بالأوهام التي تروجها لنا التكنولوجيا والمعلوماتية؟

لقد كان التقدم في البداية، بالنسبة للبشرية، آمالًا عظيمة لخلق حياة أفضل، لكن مع مرور الوقت بدأنا نكتشف أنه ليس كل ما يتلألأ ذهبًا. فبينما تزايدت إمكانياتنا التكنولوجية، انخفضت قدرتنا على التعامل مع التحديات الوجودية الكبرى. أصبحنا أكثر عزلة، أكثر خوفًا، وأكثر فقدانًا للمعنى في حياتنا اليومية.

الخوف من المستقبل: هل نحن رهائن لتقدمنا؟

كما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا أمل، ولا يستطيع أن يعيش في المستقبل إذا لم يكن يدرك ماضيه (ريكور، 1990: 187). هذه المقولة تحمل في طياتها مفتاحًا لفهم الأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر. ففي خضم هذا التقدم المادي الهائل، نحن بحاجة إلى العودة إلى أنفسنا، للبحث في تاريخنا الفردي والجماعي لنعرف كيف وصلنا إلى هنا. ولكن هل فعلًا نحن قادرون على هذا؟ هل نستطيع أن نحرر أنفسنا من الآلة التي حكمتنا وأصبحنا جزءًا منها؟

إن الخوف من المستقبل الذي يسيطر علينا ليس مجرد شعور عابر، بل هو انعكاس لحالة من التوتر الوجودي العميق. في هذا السياق، يرى الفيلسوف الألماني نيتشه أن الإنسان في العصر الحديث قد فقد بوصلة الإرشاد الروحي والفكري، حيث تحولت القيم التقليدية إلى ماضٍ بعيد غير قابل للتطبيق (نيتشه، 1883: 22). وتزايدت هذه الفوضى بفعل ما أسماه موت الإله، حيث بات الإنسان معتمدًا على نفسه في خلق المعنى وتحديد القيم.

الفوضى المعلوماتية: تحطم الحقيقة في عصر الازدواجية

لقد دخلنا عصر الفوضى المعلوماتية، حيث لم يعد بإمكاننا التمييز بين الحقيقة والخيال. كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتابه نهاية الواقع: لقد استبدلت الحقيقة بعلامات فارغة، وأصبح الواقع نفسه مجرد محاكاة (بودريار، 1981: 89). نحن نعيش في عالم تضخمت فيه المعلومات حتى أصبح من المستحيل فهم المعنى الحقيقي لما يحدث من حولنا.

إن من أكبر التحديات التي نواجهها اليوم هو التفريق بين الحقيقة والوهم في هذا الزخم الهائل من المعلومات. فالعالم الرقمي الذي يحيط بنا لا يقدم لنا أكثر من صور وأفكار سطحية، جعلتنا نشعر بالعجز عن معرفة ما هو حقيقي وما هو زائف.

إن الإنسان في هذا العصر لا يعاني فقط من الانفصال عن الواقع المادي، بل يعاني أيضًا من انفصال داخلي، وهو الانفصال عن الذات الذي وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في قوله: الإنسان يقف على حافة هوته الخاصة، ولا يمكنه أن يعود إلى ذاته إلا عندما يتصالح مع هذا الهوة (سارتر، 1943: 115).

التكنولوجيا: نعمة أم نقمة؟

منذ العصور القديمة، كانت التكنولوجيا موضوعًا مثيرًا للجدل بين الفلاسفة. في العصر الحديث، تحول هذا الموضوع إلى معضلة حقيقية. بينما كانت التكنولوجيا في البداية تُعتبر وسيلة لتحسين حياة الإنسان، فإنها أصبحت اليوم مصدرًا للعزلة والفراغ الوجودي.

كما يرى الفيلسوف هربرت ماركوز في كتابه الإنسان الواحد، أن التكنولوجيا في العصر الحديث لم تعد مجرد أداة، بل أصبحت جزءًا من بنية حياتنا اليومية، فصار الإنسان اليوم يعيش في عصر التوحيد التكنولوجي، حيث يتم تعريف الإنسان بما يمتلكه من أدوات ومقدرة على استخدام التقنية (ماركوز، 1964: 47).

كيف نواجه المستقبل؟

إن السؤال المحوري اليوم هو: كيف نواجه المستقبل في ظل هذه التحديات؟ هل نحن أمام لحظة نضج، أم أن الفوضى ستستمر لتطغى على كل شيء؟ يبدو أن الفيلسوف مارتن هايدغر يقدم لنا مفاتيح فهم هذا التحدي، حيث يشير إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون أن يواجه تحديات وجوده بشكل مباشر، وأن النضج الحقيقي يتطلب منا مواجهة ما نسميه الوجود التكنولوجي والتفاعل معه بوعي (هايدغر، 1927: 78).

الوعي كوسيلة للخلاص

وفي حديث سجاد مصطفى حمود: الوعي ليس مجرد حالة عقلية، بل هو وقوف مستمر على حافة الذات، بحث دائم عن المعنى وسط الفوضى. هذه الكلمات تؤكد أننا بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الوعي الذي نعيشه. فالوعي في العصر الحديث ليس فقط نتيجة للمعرفة، بل هو تلك اللحظة التي نستطيع فيها التفاعل مع واقعنا بعمق أكبر ونعيد اكتشاف معاني حياتنا.

في هذا السياق، يبرز دور الفلسفة في التأمل النقدي، حيث تتيح لنا الفلسفة أن نتخطى حدود الأيديولوجيات السائدة، ونستعيد معاني الإنسانية الحقيقية. فإذا لم نتمكن من تجديد الوعي الذاتي في ظل هذا الفوضى المعرفية، فإننا سنظل عالقين في دائرة لا نهاية لها من البحث عن معاني خاطئة.

***

سجاد مصطفى حمود

......................

المراجع:

- ريكور، بول. الذاكرة والنسيان: من العقل إلى الفكر. ترجمة: مروان ناصر، دار المعرفة، 1990.

- نيتشه، فريدريك. هكذا تكلم زرادشت. ترجمة: يوسف الهادي، دار الطليعة، 1883.

- بودريار، جان. نهاية الواقع. ترجمة: حسين العساف، دار الطليعة، 1981.

- ماركوز، هربرت. الإنسان الواحد. ترجمة: أحمد رشدي، دار الفكر، 1964.

- هايدغر، مارتن. الوجود والزمان. ترجمة: أحمد عكاشة، دار المدى، 1927.

- سارتر، جان بول. الوجود والعدم. ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار مصر للطباعة، 1943.

 

في المثقف اليوم