أقلام حرة

حدث معي "مدن لا تموت"

بكر السباتينسألني أحد أصدقائي باهتمام شديد: "وهل أنت من عشائر يافا حتى تكتب عنها بهذا الإسهاب والعمق!"

فجاء ردي سريعاً وكان مفعماً بنكهة الدعابة وشقاوة الأصدقاء والاستهجان، كأنه أمامي بدا كطفل غرير جعلت أشد على أذنه متوعداً بالسبابة والإبهام: "أنا من كل المدن الفلسطينية السليبة (يا غبي) وقد كتبت عن مذبحة الدوايمة كثيراً، أما لماذا يافا بحد ذاتها دون بقية المدن الفلسطينية! فهذا لأنني كتبت عن فلسطين من خلال بهائها اليافيّ الموءود فقد كانت ذات يوم حاضرة مدن بحر المتوسط ودرته المتفردة البراقة بالتألق والنماء، كونها مدينة متحضرة بشهادة القاصي والداني، حيث اشتهرت آنذاك بانفتاحها على العالم؛ لهذا سميت أم الغريب، حتى أن ظاهرة (مدني وفلاح) الطبقية البغيضة لم تكن آنذاك متفشية بين فئات المجتمع في المدينة وسكناتها وأريافها، حيث أن المجتمع الفلسطيني المتنوع فيها لم يكن ذا طابع تعصبي جهوي أو عشائري، ولا توجد في وجدان أهل يافا قبل النكبة إلا التعصب إلى برتقال يافا الذي ما لبثت تمثل علامته التجارية رغم أنف المحتل، بالإضافة إلى الرؤية اليافيّة التنموية الشاملة إلى مستقبل كل فلسطين المزدهرة المتحضرة آنذاك في كل الصعد، لكن يافا أخذت تتحول في أعماق أهلها بعد أن تاهوا في المنافي بعد النكبة إلى متعصبين للحق الفلسطيني المنفتح على الآخر، تجد ذلك قد تبدى في خطاباتهم الثقافية والسياسية والاقتصادية كالبروفسور هشام شرباتي وجورج حبش وأبو إياد ورجل الأعمال طلال أبو غزالة وآل غرغور وغيرهم.. ومن هنا جاء انسجامي مع يافا التي أنتمي إليها وجدانيا كونها تلخص القضية الفلسطينية بكل ابعادها.

ثم أخرست صديقي بفنجان قهوة مرّة كما يحبها، منكهة بالدعابات البريئة قبل أن يتورط بسؤال آخر عن العشائرية كانت قد تبدت ملامحه الخبيثة على طرف لسانه الملذوع بسخونة القهوة، علماً بأننا ننتسب إلى نفس قرية الدوايمة، ولأنه يعلم بأن تعاملي مع أهل قريتي التي نكبت بأكبر مجزرة في تاريخ فلسطين عام ثمانية وأربعين، يأتي من باب الصداقة؛ إلا أن هذا لا يمنع أيضاً من التوسع في ذلك والبحث في النقاط الكثيرة التي يتلاقى فيها الأقارب على صعيد عادات وأعراف أهل القرية في منافي اللجوء، مثل: اجتماعهم على الجذور الكنعانية للقرية وأهلها التي يحاول البعض وأدها عن جهل أو لمآرب دنيوية فارغة. أيضاً انتمائهم المقدس للقضية الفلسطينية من باب الحقوق المشروعة وما يعصف بها من متغيرات محفوفة بالمهالك، وكون القرية من خلال مذبحتها الشهيرة تدخل في قائمة الشواهد التاريخية على وجود نكبة عام 1948، وهذا يعني بأن أبناء القرية يجتمعون على قضية واحدة ويؤمنون بحق العودة. وبالطبع هناك أواصر القربى التي تجمعهم؛ لكنني إزاء ذلك لا أتحزب بمنطق العشائرية والقرابة الحميمة إلا على الحق الذي يتساوى تحت مسطرته الجميع، وذلك مشروط عندي بأن لا تؤثر هذه العلاقات سلبياً على رؤيتي المتحضرة والمرتكزة على القبول بالآخر إنسانياً بغض النظر عن المشارب والاتجاهات والميول، والانفتاح على المستقبل دون قيود، أو مواثيق تفرض نفسها على حقوقي الإنسانية والسياسية والقانونية المشروعة من قبل سماسرة الحق الفلسطيني والمتواطئين العرب في صفقة القرن. ثم الأهم عندي هي تلك الصداقة التي تجمعني ببعض أبناء القرية بعيداً عن النخبوية في اختيار الرفقة والمبنية على مبدأ النفاق الاجتماعي الزائف والمتفشي كثيراً بيننا هذه الأيام على مواقع التواصل الاجتماعي إلا من رحم ربي من أصحاب القامات الأخلاقية من كل الأطياف. وقبل الختام قلت له وأنا أودعه عند الباب:

" يا صديقي في المحصلة كلنا عرب تجمعنا هموم مشتركة".

ثم اختطفت كلمة تلعثمت معربدة على طرف لسانه قبل أن يبتلعها اختصاراً للوقت، فقلت متداركاً: نعم العروبة وأدها أصحابها، لكن البراعم لا تشرئب في وجه زهرة النور إلا من تحت الثرى المطلل بالأمل".

وبالمناسبة فصديقي يستعذب الشعر وله في قرضه محاولات جميلة، لكنني أنهيت حديثي وأناملي تداعب أنف ابنته الأفطس الجميل، حيث أوشكت أن تصرخ وهي تلح على أبيها كي يحملها فتغادر العائلة المكان، وهمست في أذن الصغيرة وعيناي تومضان من طرفيهما إلى صديقي المتأفف (والكلام لك يا جارة) قائلاً بصوت مسموع، كأنني أوجه رسالة مفتوحة للأجيال القادمة:

"يا ابنتي، إن مدن فلسطين السليبة وقراها متوغلة فينا وكلنا جزء منها.. لا بل أن المطبعين مع العدو الصهيوني من الفلسطينيين لا ينتسبون إليها إلا بعد رجوعهم عن الخطيئة! والأولى أن يحل محلهم في النسب أولئك المثقفون العرب والأجانب الذين يكتبون عن الحق الفلسطيني بإنصاف لا نجده حتى في خطاب قادة أوسلو. فنحن ننتسب إلى القدس ويافا وعكا، وحيفا، والمجدل وخليل الرحمن وغزة هاشم ونابلس وجنين وطول كرم والبيرة ورام الله والناصرة وبيت لحم وطبريا وبئر السبع واللد والرملة وعسقلان وصفد وأريحا وكل القرى الفلسطينية.. نحمل ملامح تلك المدن التي لا تموت في قلوبنا إلى أن تعود ورايات فلسطين ترفرف على هاماتها".

ثم أغلقت الباب دونهم حتى ابتلعت السيارة الواقفة أمام العمارة ضجيجهم الذي سجلته ذاكرة الود في رأسي وقد أتعبه السهر.

 

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم