أقلام حرة

المفكر العميل (2)

رحيم الساعديهذا هو المقال الثاني الذي يسلط الضوء على مفصل مهم في البنية الفكرية الإنسانية، ويمكننا ملاحظة ان من الفئات التي يتداخل عملها مع المفهوم الأمني أو السياسي أو المخابراتي والتي لعبت دورا هو اقرب إلى المخابرات أو الجاسوسية بأنواعها المختلفة الفكرية أو التدليس بطريق مباشر أو غير مباشر مع تمتعها بصفة انها كانت عاملا مغيرا متميزا في تنوير المجتمعات وهي:

أولا: قسم من الفلاسفة وكتبة التاريخ أو الفكر السياسي:

فبعض من الفلاسفة والمفكرين ابتعد عن الموضوعية والحكمة ليعتايش بطريقة أو بأخرى على هدايا أو منح الحكام، وهنا سيصرف الذهن إلى جذور تأثير البيئة (الترف) على الفيلسوف وجر أفكاره لتتوافق وتوجه الحاكم (بطريقة لاشعورية ولا موضوعية) وفق ضغط الخدمات التي يقدمها الحاكم لذلك المفكر أو لذاك الفيلسوف . ففي العصور الوسطى في أوربا كان التناول السياسي للدولة، بكونها مؤسسة خاضعة للقانون الإلهي، ودور الحاكم فيها يقتصر على حماية الكنيسة، وهذا يقودنا إلى تصور ان المنظر أو الفيلسوف في وقتها كان مقيدا بقيود تمنعه من إبداء الرأي المناسب أو الصحيح، فينساق مع الحاكم، وتطول الوقفة في هذا الجانب، وتحتاج إلى جهد ووقت آخر .

وعموما كان الفلاسفة المقربين للحاكم ينساقون ببعض أفكارهم نوعا ما لخدمة المنظومة الأمنية والدولة، بداية من تنظير أفلاطون الذي نظر لأمنية الدولة مع عدم جنوحه تحت ظل الحاكم، مرورا بأرسطو إلى الفارابي وابن سينا والغزالي وابن خلدون وغيرهم . فمن المشتغلين بهذا الجانب:

1- الذين جاملوا السلطان من الفلاسفة والمفكرين في التنظير أو التفكير ولدينا تنظير مكيافيللي في كتابه الأمير، فهي مجاملة فكرية تتملق الملك أو السلطة .لكن هل كان ميكيافلي هو الوحيد الذي رسم رسما هو اقرب إلى الغرائزية منه إلى المشروع العقلاني، كلا بالتأكيد، فبإمكانك ان تقوم برصد وإحصاء الطغاة وأهل الاستبداد فقط لتعرف عدد الملتصقين بهم من الفلاسفة أو الذين قدموا الخدمات لهم أو تأثروا أو اثروا بقوتهم أو اخذوا وطورا بعض آليات هؤلاء الطغاة لتوظف بطريقة أو أخرى .

وهذه الآلية برمتها هي ترميم وتجذير سيء للدولة البوليسية وفق قاعدة الغاية تبرر الوسيلة وحكم الأمير التي استفادت منها بالأعم الأغلب الدول الفاشية والطاغية، وتطبيق هذه المقولة قاد إلى دولة الرعب، وهنا فان الفيلسوف يؤسس إلى للدولة ذات القبضة الحديدية وحكم القوة .

2- من الفلاسفة من تدخل لإبداء الرأي وفق مساحة واسعة للتنظير للدولة نتيجة متابعته البيئة السياسية العنيفة المحيطة به كما في آراء هوبز في اللفياثان أو الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة ، وهو يكتب عن أوضاع سياسية سيئة في انكلترا لاستشراء الصراع بين التاج والبرلمان وانفجار الحرب الأهلية، فكتب لإنهاء ذلك الصراع وتثبيت الاستقرار السياسي.  لكنه كان يميل إلى جهة الملك ولذا فقد فر في 1640 إلى فرنسا قلقا من تورطه بعداوة (للبرلمان طويل الأمد) والمدعو  للانعقاد وكان على عداوة مع داعمي الملك  وهوبز من ضمنهم، وقد اعدم بعض داعمي الملك  .

لقد عمل هوبز على تفضيل الملكية على الأنواع الأخرى للحكومة، وما يثير عمل المؤرخ الفيلسوف انه قريب من منظومة الحكم ولهذا فلابد له مجاملة هذا أو ذاك من الحكام .وتتفاوت خدمته الفكرية بنسب مختلفة وبحسب شخصيته .

3- المؤرخ الاستخباري (توينبي والتقارير الاستخباراتية)

ربما يمكنني القول ان فلسفة التاريخ أو فلاسفة التاريخ سيما في الجانب المعاصر، كانوا الأكثر خدمة إلى الجهد المخابراتي العالمي (بقصد أو دون قصد ) أو خدمة أمن الدول التي ولدوا فيها وخدمة الدول الكبيرة التي تلتهم على مر التاريخ الدول الصغيرة، أو تتقاتل من اجل مصالحها . وذلك من خلال:

1- تلافي الأخطاء التي تقع بها الدولة

2- تقوية دفاعات الحاكم وسد ثغرات ضعفه .

3- تقديم الأفكار المستقبلية المهمة .

4- الاستفادة من أخطاء الآخرين من الحكام والدول والحضارات .

5- استثمار العقل الجمعي المسلط على فهم التاريخ والذي يضم الآراء المختلفة المتنوعة والخبرات التي تمتد إلى ألاف السنين .

ومنظومة فلاسفة التاريخ طويلة جدا، تمتد من ابن خلدون إلى هيكل وكارليل وفولتير وماركس ونيتشة وشبنكلر وتوينبي .

 ولقد استفادة بعض المفكرين من الجهد الاستخباري أو التقارير التي تابعوها سيما في الحرب لمعرفة الكثير من الأفكار والأحداث فالمفكر توينبي بردة الفعل والتحدي والاستجابة التي استلهمها من الفيلسوف وعالم النفس يونغ كان يطلع على التقارير التي تدون في الحرب ومن عمله في الخارجية وفي دائرة المخابرات حصرا اطلع على الأحداث ونظر إلى أفكار ربما تبدو موجهة نحو هدف يخدم الدولة التي يعمل لأجلها و توينبي يتأرجح بين التاريخ والدين والأساطير واللاهوت. لهذا فهو يعتمد الموسوعية في آرائه، وتلك القضية تحمل نوعا من التوفيق والانحياز الذي يبتعد عن الموضوعية .

وهكذا كان شبنكلر من قبل وكان يعيش في المحيط الألماني السياسي وضمن منظومته السياسية والأمنية فهو منظر الدولة الاستراتيجي،  وكتب حول الحضارة وتبدلها أو ألمانيا وخصائصها (ناقدا أو موافقا ) ويمكنني القول ان العديد من فلاسفة التاريخ كانوا يعملون وفق بعض الخطط المقصودة أو اللامقصودة والمتأثرة بدوافع شتى والتي رسموها أو اختمرت لمساندة الأفكار التي يؤمنون بها ونصرة معتقدهم أو وطنهم أو قومهم أو دولتهم، أو صنعوا أفكارا موجهة نحو غايات مرسومة .

ثالثا: الرحالة والمستشرقون:

إن خدمة الاستعمار(كما يقول الشرقاوي) كانت وراء نشأة وانطلاق الاستشراق في القرن 18 وفي نشأته الأولى بدوافع دينية، وللمؤسسة الاستشراقية تأثيرها العميق على الفكر الإسلامي . وهو رأي محمد عبده وحسن البنا والعقاد وادوارد سعيد ومحمود زقزوق وعرفان عبد الحميد ومحمد أسد وغارودي وغيرهم  .

وهناك من يقول ان بداية الاستشراق كان بسبب حاجة الغرب للرد على الإسلام ومعرفة قوته الدافعة سيما بعد سقوط القسطنطينية وقد ولد في أحضان الكنيسة والأديرة، وهدفه كان التبشير،  وكان روجر بيكون (1214-1294) من المتحمسين لضرورة تعلم لغة المسلمين من اجل تنصيرهم  بالإضافة إلى دراسة الأديان ودراسة الحجج المضادة ودحضها، كما ان دراسة المجتمع العربي آثار قلق الغرب من قوة الإسلام،ومن المستشرقين الذين سخروا عملهم بخدمة الاستعمار كارل هينريش بيكر تحت ظل سلطة الرايخ الألماني والذي كان منغمسا في النشاطات السياسية، وقال المستشرق الانكليزي  اربري ان أساتذة جامعة كمبرج أرادوا تأسيس كرسي للدراسات  العربية الإسلامية لخدمة مصالح الملك والدولة وتوسيع حدود الكنيسة ونشر الدين المسيحي .

سادسا: المفكرون القوميون والمؤدلجون للنظرية السياسة

ما من شك ان الفلسفة سبقت المخابرات، لان الأخيرة أسست على هامش تكوين الدولة ونظامها الإداري وتكوين الجيوش، والدولة بشكل عام أسست  وفق تصور الفلسفة الفلسفة وعدلتها لتتلاءم مع محيطها أو مع العقل، والفلسفة تأمل لذيذ وأسئلة عميقة وممتدة كما ان الفلسفة منهج متكامل ينتمي إلى العقل ويحاول تتبع الأفكار ومقارنتها وتطويرها، والبحث عن تقارب بين كل من الفلسفة والمخابرات تتضح أهميته من خلال تتبع اثر الأفكار الفلسفية بالجانب السياسي أو لنقل معرفة الأثر الخفي للفلسفة في تغيير مفاهيم الدول أو تغيير طبائع الناس أو العكس محاولة الفكر السياسي استثمار الفلسفة والفكر لتغيير البنية الاجتماعية والنفسية والإيديولوجية وفقا لإغراض نفعية محضة  .

 وسأكتفي بنموذجين فقط مع كثرة الداخلين في هذا المضمار ومنهم في العراق والعالم العربي وبمحاور متعددة (الإسلامي الشيوعي العلماني الليبرالي والعديد من أتباع الأنظمة).

ولا يبتعد عن هذه الأسطر ذكر هنكنكتون أو فوكوياما اللذان نظرا لسقوط الحضارة ووجها عملا ربما لم يكن يعرفه الساسة، وكلها (أفكارا وفلاسفة) تعد عاملا توجيهيا نحو أهداف مرسومة وتتصل بالجانب الاستراتيجي أكثر من اتصالها بالفلسفة ولكنها أخذت طريق الفلسفة لأنها أفكار تتسم بالخصوبة والمغايرة وهي محفزة أو محركة أو محرضة أو مستفزة لأفكار أخرى .

والحاجة القومية كما في آراء هنكنكتون وفوكوياما هي من يسير أفكارهم بشكل محايث وموالي لخطط البلد الذي هم فيه، ويبتكرون الأفكار قبل إصدار أو خلق المشكلة أحيانا .

سابعا: المثقف العميل

ويمكننا ملاحظة تطويع التكنولوجيا والعلوم لخدمة الدولة أو لنقل ان المعادلة كالآتي:

1- (استخدام العلوم النظرية والفكر المتمثل بالخطط والمنهجيات والأفكار والنظريات لخدمة النظريات السياسية )

2- (استخدام العلوم التطبيقية لكل من  الآلات الحديثة والتكنولوجيا الرقمية وغيرها لمساندة النظرية السياسية ومساندة العلوم النظرية )

3- (استخدام النظرية السياسية المعدلة بالعديد من الأفكار لخدمة نظام الحكم )

4- (قيام نظام الحكم بتطوير ودعم وتبني النظريات الفكرية التي يستخلصها من الفيلسوف والمفكر والباحث وغيره)

إن الحديث في هذا الجانب يعني أيضا السؤال عن مديات قرب الفلسفة من الدولة (التي تعني المنظومة الأمنية وغير الأمنية بالتأكيد)، وهو موضوع مهم عند الدخول بتفاصيله (ليس عن أمومة الفلسفة للدولة، بل عن علاقة متضادة بين الدولة والفلسفة) اقصد عن تبعية الدولة للفلسفة وتبعية فروع الفلسفة مثل فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع للدولة وأيهما انتصر (وكأنها علاقة بين السيد والعبد)، فالفلسفة صنعت الدولة ثم الدولة أصبحت السيدة الأولى وشغلت الفلسفة ضمن دوائرها، وهذا جانب مهم أيضا يجب أن يبحثه طلبة العلم لإعادة إنتاج وتكرير الفكر .

من زاوية أخرى فان المعلومات الدقيقة التي يقدمها المفكرون والفلاسفة والمعنيين بالاقتصاد والمؤسسات العامة في الدولة تمثل مادة فكرية مهمة لتشكيل المنظومة الأمنية والإستراتيجية للدولة أساسها القدرة على التحليل أو إظهار القبضة القوية للدولة أو تلافي أخطاء الملوك والرؤساء باستئصال معارضيهم  وهي آلية متشعبة من الفكر والتطبيق والاستشارة .

وأظن ان من اهم ما نستنتجه من مثل هذه البحوث، هو ضرورة البحث بشمولية في الجانب الفلسفي، ليتداخل الفكر بصورة اقرب الى التطبيقية في مجالات السياسة والاجتماع وفلسفة التاريخ والعلوم النفسية، كما ان هذه الأفكار يمكن استثمارها تطبيقيا في مجالات راهنية مختلفة .

 

الدكتور رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم